«أرتجلُ الحياة» لأحمد عبده الحريشي نموذجاً نصوصٌ تحتفي بالوجود والكينونة والإيقاع

«أرتجلُ الحياة» لأحمد عبده الحريشي نموذجاً نصوصٌ تحتفي بالوجود والكينونة والإيقاع

   أستعير هذه العبارة: «الرسم بالكلمات»، وهي عنوان لديوان شعريّ للشاعر نزار قباني، قلت أستعيره، للتأكيد على قدرة القصيدة على تشكيل لوحةٍ تفيض بالمعاني والإشراقات، والرسم بالكلمات أو رسم الكلمات، فهو كما يقول الناقد فهد الكعام «يدخل في بنية القصيدة عند مالارميه... الفضاء الذي يعزل المقاطع في بياض الورق، هو صمت ذو معنى ليس أقل جمالًا من نظم الأشعار»، فالبنية من هذا المنظور لا تستقيم ولا تكتمل إلا باندغامها مع دلالة النص .

 

في تجربة الشاعر أحمد عبده الحريشي «أرتجل الحياة» نلمس تموجًا، بل تموجات بين مجموعة من المداميك، ما يجعلها تعوم في ظلال الخصوبة، وتُجَسِّدُ لحظة شعرية لا تكتفي بالكلمات، وإنما تجنح بها نحو الزخرفة والرسم للتعبير عن هذه التجربة في الكتابة وفي الحياة أيضًا «وكان هذا التأرجح في الدلالة ضاربًا بجذوره في أعماق النص، في نسيجه اللغوي، تركيبا معجمًا، وفي الصورة الشعرية بكل ما فيها من ضراوة المجاز»، فهندسة الفضاء النصي وملء الفراغات وتوزيع البياضات، من شأن ذلك وتائر إيقاعية جديرة بالاهتمام، خاصة أن الشعريات المعاصرة حَرِصَتْ على صوغ ممكنات فضائية داخل معمارية النص، حتّى تُسْهِمَ في خلق إيقاعات بصرية، ولا بد من الإشارة هنا إلى موجة (القصيدة البصرية) التي شَغَلتْ حيِّزًا مهمًا من التجارب الشعرية المعاصرة، كالاعتماد على الخط، وتمجيد البياض والتزحيف وإعلاء الصمت، وابتداع صيغ إيقاعية جديدة، فـ«لا يحتاج المطلع على العديد من الدواوين الشعرية الحديثة، إلى الكثير من الجهد لإدراك خاصية تبدو عامة بين الشعراء، أو في تجربة شاعر ما، بمستويات طبعًا، وهي الاحتفاء بالصمت بشكل مباشر، بحيث يصبح تيمة أساسية في بعض الدواوين، لا يكاد يخرج منها حتى يعود إليها».

دوال إيقاعية
 إن التوزيع البصري والتناظر الصوتي للمقاطع داخل القصيدة وبلاغة الصمت دوال إيقاعية بمقدورها الرفع من منسوب أداء الإيقاعات وخلق ذلك التناسج المنشود في أيَّ قصيدة، فلعبة الحواس مهمة في التشكيل الإيقاعي، خصوصًا على مستويي: الصوت والبصر، فالتناظر الصوتي كما يؤكد على ذلك الناقدان ناصر سليم ومحمد عباس محمد «يُحدث إيقاعًا لغويًا، وهذا الإيقاع يسهم في تشكيل جماليات النص الأدبي وخاصة النص الشعري. كما أن اللغة التي تقوم على مبدأ المقاطع لغة إيقاعية أكثر من غيرها كالعربية، ومن هنا أتى سحر الكلمة في العربية»، يقول الشاعر:
سُطُورٌ
تَنْتَقِيهَا الذَّاتُ
أَوْتَارًا لإِحْسَاسِي
تُمَازِجُ
رُوحَهَا جَسَدِي
فَخَمْرِي
مِنْ دَمِ الكَاسِ...
وحَوْلِي الكَوْنُ مُوسِيقَى
تَسيلُ...
بِغَيْرِ مِقْيَاسِ...!!
فَقُلْ:
يَا حُبُّ،
دِينِي لي
«ودِينُ النَّاسِ للنَّاسِ» (ص: 53)
  تشتبك هذه القصيدة منذ بدايتها مع الإيقاع، فنلاحظ تكرار حرف السين بشكلٍ كثيفٍ (10 مرات)، وما يُخَلِّفُهُ هذا التكرار من إيقاعيةٍ في نسيج القصيدة، فتندفع إلينا المجازات والموسيقى واللغة الملبدة بإشراقٍ صوفي دافق اندفاعًا، وتغمرنا بذاك الوابل المبهر من التدافع الإيقاعي بصريًا وجُمليًا وكتابيًا، خصوصًا أن الانهمام بالذات أو (تذويت الكتابة)، فمن خلال هذا الإيقاع المندفع المتفجر والتحامه مع لغة إشراقية، حميمة، تُعطي لهذا المقطع شعريةً خاصة، وهكذا تمتزج كوامن الذات مع اللغة الشعرية، في حضورهما اللانهائي طوال هذا المد الشعري، وهما يلتحمان، يُقاومان صقيع المناطق الباردة. إن مركزية الإيقاع في هذه التجربة تشي بالكثير من التَّشكُّلات والمنعرجات والتكرار لوحدة إيقاعية منتظمة، وهذه إشارة -  بحسب الناقد المغربي محمد بنيس - إلى أن «الشاعر يعطي الأسبقية لتكرار الوحدة الإيقاعية، خاضعًا لها، ومخضعًا بها الدلالة والنحو لتوفير امتلائه، والشاعر في هذا المسعى يبني النص إيقاعيًا قبل أن يبنيه دلاليًا ونظميًا»، ومن هذه الزاوية، فالإيقاع أسبق من البناء والدلالة، وكلُّ شاعرٍ مطالب بوضع إيقاع للقصيدة قبل البدء في تشييد عمارة الشعر، ونعتقد أن عملية بناء المعنى بما ينطوي عليه من تراكم صوري وشعرية في اللعة والمفارقة والاحتدام الدلاليّ وانفتاح النص على النثر، إلى جانب الدال الإيقاعي، تبقى عناصر مهمة في بناء أيَّ نص شعري، نستطيع القول مع الناقد حذام بدر في كتابه: «تحولات الشعرية العربية» «بأن ذلك ممكن لأنه حينذاك سيكون أكثر توازنًا، وذلك لأن الشعر الذي لا يعتمد على المعنى، وعلى منطقية تسلسل الأفكار، لا بد من أن يكون له مرتكز يرتكز عليه وإلا أفضى إلى اضطراب كامل، وبهذا لا نستطيع أن نعده شعرًا بقدر ما يكون هلوسة، وشيئًا لا قيمة له»، فالأكيد أن القصيدة العربية الحديثة والمعاصرة قد استفادت من الإيقاعات الداخلية التي تخلقها القصيدة، ومن أصوات اللغة وتنافرها ونشوزها وتناظرها، ووجب التذكير هنا أن العملية الإبداعية برمتها هي نتاج الانفعالات والتوتر النفسي، ومن الطبيعي أن تنتج عن هذه المثيرات النفسية إيقاعات لا يضبطها إلا الشاعر، «فنشاط النفس إذن لفعل عمل معين أو إبداعه، إنما هو للتوتر الحاصل لصاحبها واندفاعه نحو هدفه لخفضه، وشعوره بالحاجة الملحة لذلك، واللذة التي يشعر بها عند إقدامه عليه.  أما سأم النفس فإنه ينشأ من انخفاض التوتر، وإشباع الحاجة، ومن ثم انعدام الرغبة وعدم الشعور باللذة في معاودة السلوك وتكراره»، وخلاصة القول، إن الإيقاع في هذا المنجز الشعري يأخذ أشكالًا وتلوينات متعددة، بدءًا باستخدام الوزن الخليلي، في إشارة إلى مجزوء بحر الوافر بكل رُخصه العروضية، بالإضافة إلى بحر الكامل في المقاطع الأخيرة من القصيدة (الإهداء: مقام الأم)، وهو تحولٌ من حالة إيقاعية إلى حالة أخرى، بحسب التوتر النفسي الذي يعيشه الشاعر، وهكذا، فإن الرهان على الإيقاع في هذا العمل الشعريّ هو رهان على شحذ الطاقات الثاوية في دواخل الشاعر، فهو يمتلك بصيرة تمكنه من النفاذ إلى الأشياء ورؤيتها بشكل مغاير ومختلف. 
وفي هذا الصدد يقول الناقد علي عشري زايد: «فلم يعد ذلك الملهم الذي يهبط عليه الإلهام الشعري، هو في حالة أشبه بالغيبوبة، وإنما أصبح عليه أن يبذل أخلص الجهد وأضناه في سبيل استغلال تلك الموهبة الفذة التي منحه الله إياها، والتي تمكنه من النفاذ إلى صميم الوجود، ورؤية ما لا يراه سواه»، ومقاربة هذا العمل على المستوى الإيقاعي تَسْمَحُ لنا بالانخراط في اشتراطات التجربة الشعرية الجديدة، ومحاولة استكشاف آفاقها وتجلياتها على كل المستويات، خاصة أن الشاعر بات مطالبًا اليوم بالتعبير عن تحولات العالم ومعاني الأشياء والاقتراب أكثر من هواجس الذات وتشققاتها، وهو مطلب نعتقد أنه له علاقة بعملية تشييد المعنى وتشكيل الصور والمجازات، وله صلة وثيقة بسؤال الإبداع. يقول الناقد المغربي أحمد زنيبر: «ولعل أبرز مظهر من مظاهر الفن، الذي يضمن للقصيدة توهجها وانتشارها بين يدي القارئ/ القراء. قدرة الذات الشاعرة على تحويل مظاهر الحياة وقضايا الوجود إلى لغة إيحائية ورمزية، تتوسل بالأخيلة والصور والمجازات، واستنادها إلى المعاني الممتدة والمفتوحة على الاحتمالات الممكنة واللاممكنة أيضًا».

تجربة في كتابة الجوانيات
 هكذا تُحاول هذه التجربة أن تقدم نفسها للقارئ/ المتلقي على أساس أنها تجربة تشترع أفقها الشعري في كتابة الجوانيات والانهمار على شكل إيقاعات متواترة، وتبعًا لذلك سيصير الإيقاع هو جوهر هذه التجربة، بل تَنْتَسِجُ في حواضنه ومُمكناته، بالإضافة إلى انفتاحها على مقترحات جمالية أخرى، ونعتقد أن الحريشي يسعى إلى تخصيب هذه التجربة وإغنائها على مستويات عديدة، في أفق استدراج القارئ نحو ملء الفجوات. يقول الشاعر والناقد المغربي صلاح بوسريف: «ولأن القصيدة هي نتاج تصور فاعل للعالم ولرؤيا الشاعر، فإن اختلاف رؤى هؤلاء الشعراء جعلهم يتلاعبون، ولو بنسب ضئيلة في إظهار المعنى تاركين للمتلقي تصوره واكتماله»، ومن ثم، فإن الشاعر يبدو ملتزمًا بقضايا الإيقاع الشعريّ العربي، مُنفتحًا على مُستجدات القصيدة المعاصرة، وهذا ما صرنا نفتقده في الكثير من الأعمال الشعرية، في مسعى لكتابة وجوده الخاص، تجربته الخاصة، «أعني بهذا أن كل تجربة، كيفما كانت، هي مساحة شعرية، قد تتسع أو تضيق، لا تخص إلا الشاعر المعني بها، والذي سيبقى وحده أمين أسرارها»، وحارسها لأن الشعر هو ما نُؤَسِّسُه من أفق ومعالم وطريقة في الاختلاق والإبداع، ولعلَّ الأشياء هي التي تجعلُ المادَّة الشعرية بعيدةً عن التَّمركز والانغلاق في بنية جماليةٍ ودلاليةٍ ولغوية وإيقاعيةٍ بعينها، بل هي هذا الكلُّ الممتزج في دواخل الشاعر، فالشعر انطلاقًا من هذه الدلالات «ليس لعبًا بالمفردات، ولا لعبًا بالجمل والصور، ولا تكرارًا لصيغ صرفية، أو حروف وعبارات نتوهم أنها هي الإيقاع في النص، إن الشعر اختلاق واختراق، وهذا يصعب أن تجده في أي نص أو عمل، لأنه أعز ما يُطلب في الشعر الذي يحتاج أن نتريث في ادعائه، ونحتاج أن ننظر إليه، باعتباره تجربة وجود وكينونة، لا تجربة كتابة فقط، والذي يعني إما أن نكون أو لا نكون». قد نفهم الآن، أسرار الحريشي في الكتابة بقلقها وأفقها وفضائها المتراحب والممتد في الشعرية العربية، ومن المؤكد أنها ليست كتابة فقط، بل هي «وجود وكينونة» كما ذهب إلى ذلك صلاح بوسريف ■