التراث العربي متعاليًا نصيًا قراءة في شِعريّة القصيدة المعاصرة

التراث العربي متعاليًا نصيًا قراءة في شِعريّة القصيدة المعاصرة

يعتبر الشاعر العربي المعاصر أكثر ثقافة ممن قبله، أو هكذا ينبغي أن يكون؛ ذلك أنه اطلع - أو هكذا المفترض - على كثير من ثقافات متقدمة متباينة، وألمّ بأخبار وشؤون من سبقوه، وتاريخهم، هذا بالإضافة إلى اهتمامه الواسع أو العريض بالشأن القائم على المستويين:  المحلي والعالمي، وإذا أضفنا إلى كل ذلك ثورة تكنولوجيا الاتصالات، التي أسهمت وتسهم في الكشف عن كل ما هو مخبوء وبعيد، إلى غير ذلك من اتجاهات الحداثة، التي اقترنت بالشعر العربي مع نهاية الخمسينيات من القرن الماضي، وما زالت إلى اليوم تخلع حديثًا لتلبس أحدث، وذهب في ركابها الشاعر العربي، وهو في ظل ذلك قد اجتمعت له ثنائية القديم والحديث؛ مما يبرهن على عظمة واتساع ذاكرته، وحضورها ضمن فضاءات قصيدته. 

 

كان شأن كثير من الشعراء العرب المعاصرين الرجوع إلى تراث أمتهم؛ ذلك أنهم وجدوا فيه نقطة تلاقٍ حقيقيةً، وكأن السابقين قد صاغوا الحاضر برمته، أو لكأن الزمان يستدير فتستدير معه المواقف والأحداث، والشاعر في ذلك يلجأ إلى الأقرب شبهًا مما حدث، أو مما قيل في تلك المواقف آنفًا من قبل شعراء أمته السابقين؛ فيصوغ تجربته مستدعيًا أحد المواقف أو الأحداث السابقة أو إحدى الشخصيات، أو معارضًا لأحد الشعراء القدامى، أو مستدعيًا بعض الأبيات مقدمًا أو خاتمًا بها، أو محتذيًا طريقتهم، أو مستخدمًا معجمهم اللغوي، أو متناصًا معهم في بعض معانيهم ومبادئهم؛ فينبئ ذلك عن شدة التعالق والتعلق بتراثنا العربي؛ كما يجعل من النص أكثر شعرية.
والنص الشعري قائم – في الأغلب – على التناصية؛ حيث «يتقاطع في النص مؤدى مأخوذًا من نصوص أخرى»؛ ذلك أن النص «جهاز عبر لساني يعيد توزيع نظام اللسان بواسطة بالربط بين كلام تواصلي يهدف إلى الإخبار المباشر وأنماط عديدة من الملفوظات السابقة عليه أو المتزامنة معه، فالنص إذن إنتاجية»، و«إن العمل التناصي هو (اقتطاع) و(تحويل) ويولد تلك الظواهر التي تنتمي إلى بديهيات الكلام انتماؤها إلى اختيار جمالية تسميها كريستيفا اعتمادًا على باختين، 1963 (حوارية) وتعددية الأصوات»، هذه الحوارية، أو التعددية تبدو أكثر وضوحًا في فضاء النص الإبداعي عنها في محيط النص (النص الموازي). 
وذكر جينيت في إطار ترتيبه لعلاقات التعددية النصية، أن العلاقة الأولى تسمى بالتناصية - التناص بالمعنى الذي صاغته جوليا كريستيفا - وهي «علاقة حضور مشترك بين نصين أو عدد من النصوص بطريقة استحضارية، وهي في أغلب الأحيان الحضور الفعلي لنص في نص آخر».
وقد صار من الحقائق التي يجب الاعتراف بها - حسب محمد عبدالمطلب - «أنه لا وجود لمبدع يخلص لنفسه، وإنما هو مكون - في جانبه الأكبر - من خارج ذاته بوعي أو بغير وعي»، وجاء التراث العربي بطلًا سامقًا؛ يتصدر قائمة المتعاليات النصية في القصيدة العربية المعاصرة، ولعل حضور التراث الشعري في نظيره الشعري المعاصر من أصدق الأدلة على التواصل أو الحضور الفعلي الأدبي، ويظل النص الأيقونة الوحيدة الدالة على شكل علاقة التناصية.

التعبير عن الحاضر
ويجد الشعراء المعاصرون في التراث متعاليًا نصيًا ينطلقون منه، أو يعودون إليه في النهاية، وإنما يدل ذلك على قدرة التراث العربي في التعبير عن الحاضر، عبر عمليتي:(الاقتطاع) و(التحويل)، اللتين يقوم بإجرائهما الشاعر، وفي إطار ذكره لأشكال علاقة التناصية يقول جيرار جينيت: «إن أكثر أشكال هذه العلاقة وضوحًا وحرفية الممارسة العادية للاقتباس (بين قوسين، مع الإحالة أو عدم الإحالة إلى مرجع محدد)»، وهو ما نجده عند أدونيس كثيرًا فيما ذهب إليه من استدعاءات شعرية، كما في أخذه من الطرماح بن حكيم قوله:

ولو أن برغوثًا على ظهر قملة
يكُرّ على صفي تميم لولّتِ

يقول أدونيس في قصيدته (إسماعيل):

والأمة انحسرت وذابت
في جدول وحل يسيل يذوب في هي بن بي.
يا شمس، يا قدم النهار، تركت ليلك عندنا
ونسيته...
- من أنت؟
- من تميم.
 «ولو أن برغوثًا على ظهر قملة
يكر على جمعي تميم، لولت»
- لا، لست من تميم.
- مَن أنت؟ تغلبي؟
- لا، لست تغلبيًا.
.../ والأرض تدخل في السعال المعدني/ نبيها هي بن بي.
فلما أراد أدونيس أن يعبر عما وصل إليه الواقع العربي، عاد بنا إلى التراث؛ فأخذ منه ما يكمل حوارية الأزمان.
كذلك أخذ رفعت سلام التراث خيطًا أوليًا للكتابة، ويأتي ديوانه (أرعى الشياه على المياه)، علاقة تاريخية عربية ذات خلفيات متقابلة، وقد استدعى فيه كثيرًا من شعر القدامى، وجعل منه بنيةً أساسيةً داخل (قصيدة النثر)، ومن ذلك استدعاؤه قول عمرو بن معد يكرب الزبيدي:
ذهب الذين أحبهم
وبقيت مثل السيف فردًا

يقول رفعت سلام:
أنا الحجر؛
ركلتني الأقدام العمياء، الأزمان العرجاء، الأشياء
الحرباء، بعيدًا، حتى أُفرت وحيدًا؛ لا خل أو 
امرأة، لا قطة أو كلب؛ لا سوى العراء الغناء:
ذهب الذين أحبهم
وبقيت مثل السيف فردا
 ومن بيت المتنبي الشهير: 
أرقٌ على أرقٍ ومثلي يأرقُ
وجَوًى يزيد وعبرة تترقرق‏
يتخذ رفعت سلام من التركيب (أرق على أرق)، بنيةً أساسيةً ومحورًا دلاليًا في النص، إذ يقول:
أرق على أرق
أنا المرأة النارية، الأولية،
شهواتي مطلقة،
وسواها نسبي
تشب في أنحائي ليل نهار؛
فأركض في دروب الأرض ذاهلةً،
كأنني لوعة ملهوفة على سراب؛
أو ضلال باهر على قلق

ومما ينبغي أن يؤخذ في الاعتبار أن التراث الشعري - المستدعى في القصيدة المعاصرة - لا يعني تراثًا أدبيًا وحسب، وإنما يتضمن - إلى جانب كونه تراثًا 
أدبيًا- التراث التاريخي، والديني، والاجتماعي، والعقائدي، وغير ذلك مما يحمل من أفكار ورؤى تراثية. وتعمل الاستدعاءات الشعرية - من كونها متعاليات نصية - على اتساع دلالة النص الحاضر، وتمده بطاقة رمزية متنامية تزيد من شعرية النص، وترتفع معها آفاق التوقع. 

استدعاء الأحداث والشخصيات التراثية
لم يتوقف الأخذ من التراث عند حد التداخل مع النصوص التراثية لفظًا ومعنى، أو التعالق بها فكريًا وفنيًا، بل تعدى كل ذلك إلى استدعاء (العلم)، ولعل استدعاء الشخصية بذكر اسمها ضمن النص أبلغ من استدعاء ما تقوم به هذه الشخصية من دور، أو قول؛ ذلك أن الشخصية كل، وأن استدعاء هذا الكل يزيد من أطراف التلاقي، ولا يعني استدعاؤها الانسجام معها، فقد يستدعي الشاعر الشخصية؛ ليوقفها موقف المساءلة، فيحاكمها، وينتصر لرؤيته، أو غير ذلك. وفي الغالب يرتبط اسم هذه الشخصية بحدث أو موقف، يجد الشاعر في استدعائه وبعثه من جديد أهمية لتأكيد موقف مشابه، أو دعمه.
وقد أكثر الشعراء المعاصرون من استدعاء الشخصيات والأحداث التراثية؛ لأسباب فنية ودلالية، ومن بين هؤلاء، (أمل دنقل)، ويعد من أبرز الشعراء الذين وظفوا التراث عامةً في شعرهم، وقد أصدر ديوانه (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة)، عام 1969م، وجاءت القصيدة التي تحمل هذا العنوان تعقيبًا على النكسة، وكان قد استدعى (زرقاء اليمامة) قناعًا؛ إذ جعل يخاطب الماضي، وكأن لسان حاله يريد أن يقول إن الليلة بنت البارحة:
أيتها النبية المقدسة...
لا تسكتي... فقد سكتُّ سنةً فسنةً...
لكي أنال فضلة الأمان
قيل لي «اخرس...»
فخرست... وعميت... وائتممت بالخصيان!
ظللت فى عبيد (عبس) أحرس القطعان
أجتز صوفها...
أرد نوقها...
أنام فى حظائر النسيان
طعامي: الكسرة... والماء... وبعض التمرات اليابسة

يوجه أمل دنقل الخطاب إلى (زرقاء اليمامة)، في ظل انعكاس زمني متخيل: (لا تسكتي... فقد سكت سنةً فسنةً...)، ثم يكشف عن البطولة الصامتة، والقوة التي ترسف في قيودها، في ظل العبودية: «ظللت في عبيد (عبس) أحرس القطعان»، ثم يسائل القيود، ممزقًا غلالة التكذيب، وسيرة التقديس:
أسائل القيودا:
«ما للجمال مشيها وئيدًا ... ؟!»
«ما للجمال مشيها وئيدًا ... ؟!»
أيتها العرافة المقدسة...
ماذا تفيد الكلمات البائسة؟
قلت لهم ما قلت عن قوافل الغبار...
فاتهموا عينيك، يا زرقاء، بالبوار!
قلت لهم ما قلت عن مسيرة الأشجار...
فاستضحكوا من وهمك الثرثار!
وحين فوجئوا بحد السيف: قايضوا بنا...
والتمسوا النجاة والفرار!
فقد كان التراث العربي بكل أحداثه، ومواقفه، وشخصياته، ونصوصه موردًا خصبًا؛ استقى منه أمل دنقل وغيره من شعراء جيله كثيرًا من النصوص لتأكيد مواقفهم؛ فكتب أمل دنقل (حديث خاص مع أبي موسى الأشعري)، و(من أوراق أبي نواس)، وديوانه (أقوال جديدة عن حرب البسوس)، الذي صدر عام 1983م، وفيه قصائده الشهيرة (لا تصالح)، التي كتبها في نوفمبر1976م، و(أقوال اليمامة)، و(مراثي اليمامة)، وهو في هذا الديوان يتخذ من قصة مقتل كليب وسعي الوفود إلى الأمير سالم الزير رغبةً في الصلح، ومن اليمامة، والجليلة غطاءً وقناعًا، ويسقط كل ذلك على الأحوال السياسية القائمة آنذاك.
هذا بالإضافة إلى قصائده (مقابلة خاصة مع ابن نوح)، و(خطاب غير تاريخي على قبر صلاح الدين)، وقصيدته «بكائية لصقر قريش». وقد برع أمل دنقل في تحميل شخصية المتنبي بعض ما عن له من أمور يخشى معها التصريح، كما في قصيدته «من مذكرات المتنبي في مصر».
ويميز أدونيس في التراث بين مستويين: «مستوى النظام الذي ساد أو الثقافة التي سادت، ومستوى المحاولات التي قامت لتجاوز هذا النظام أو هذه الثقافة»، ويسمي المستوى الأول اتباعيًا، والمستوى الثاني إبداعيًا، وأيا كانت طرق التعامل مع التراث؛ بالاتباع أو بالإبداع؛ فإنه موجود، وموجودة روحه، واقرأ لأدونيس من شعره ما شئت؛ سوف تجد فيه التراث، لا تخفيه خافية، وتحمد لأدونيس محاولاته الصادقة في إحياء التراث.
 ويتوافق المستوى الثاني من رؤية أدونيس مع ما يذهب إليه (التعالي النصي)، وينبني المستوى الإبداعي فيما ينبني على عمليتي (التفكيك والبناء)؛ ذلك أن التعالي النصي للتراث لا ينمو إلا في بيئة متجاوزة إبداعيًا.
 فيتخذ أدونيس من شخصية عبدالرحمن الداخل رمزًا لسيرته هو، إذ يتحسس وجوده البطولي في الأندلس، وقد جاءها فارًا من الشام، كما في قصيدته المعنونة بـ «الصقر»، من ديوانه (كتاب التحولات والهجرة في أقاليم النهار والليل)، ومنه أيضًا قصيدته (تحولات الصقر):
تتبعني عينان من مجامر السنين
أرقص في خواصر التنين
مع نجمة سوداء.
غير أن الصواري
نغم جارح القرار:
 «إن جسمي ومالكيه بأرض
وفؤادي ومالكيه بأرض»
هدأت صيحة الرجوع
غير أن الصواري وطن للدموع
«... ولو أنها عقلت، إذن لبكت
ماء الفرات ومنبت النخل»
وليس هذا وحسب، وإنما يستدعي أدونيس لنصه الحاضر أبياتًا منسوبةً إلى(صقر قريش)؛ من قصيدتين له، فيأخذ أدونيس من الأولى البيت الثاني:
أيها الراكب الميمم أرضي
إن جسمي كما علمت بأرض
أقر من بعضي السلام لبعضي
وفؤادي ومالكيه بأرض

ومن القصيدة الثانية التي يتحدث فيها (الداخل) إلى نخلة، يأخذ أدونيس البيت الثالث:
لو أنها عقلت إذًا لبكت
ماء الفرات ومنبت النخل

ويتعانق بيتا (الداخل) ونص أدونيس، وتتخلق شعرية النص الحاضر عبر هذه الحوارية، أو التعددية الصوتية، ويرى إحسان عباس أن «هذه القصيدة التي تعد من أكثر قصائد أدونيس واقعية، تصور حقيقة التحول على شكل صراع بين الماضي والمستقبل، وميزتها الكبرى أنها تنصف الماضي ولا تهزأ من علاقاته، ولا تحاول الاستخفاف به أو التهوين من قيمته»، ولعلنا نلمس هنا رؤية أدونيس، فيما ذهب إليه من تناوله للتراث.

التعالق النصي
يعد التعالق النصي أو الاتساعية النصية (النص اللاحق) من أهم علاقات التعددية النصية، وفيها يعيد النص الثاني إنتاج النص الأول، عبر التحويل، أو المحاكاة، أو المعارضات الساخرة. وقد عرف تراثنا العربي معظم هذه الأشكال التعالقية النصية، وهي كثيرة في شعرنا المعاصر، (يمكن مراجعة مقالنا: المعارضات من التقليدية إلى الشعرية، مجلة العربي في عددها: 751، يونيو، 2021).
وقد تداول الشعراء العرب قديمًا بعض المعاني فيما بينهم، عن طريق توليد أو استخراج معنى من معنى آخر، ومن ذلك ما جاء من (لامية العرب) للشنفرى:
وإن مُدّت الأيدي إلى الزاد لم أكن
بأعجَلهم إذ أشجع القوم أعجل
وما (لامية العرب) – في معظمها – إلا شكل من أشكال اليوتوبيا، تكشف عن اقتفاء الأثر الإيجابي، وتدعو إلى المثالية العالية. 
وقد تجلت هذه المثالية فيما بعد عند كثير من شعراء العرب، مثل المعري في قوله:
ولو أني حُبيت الخلد فردًا
 لما أحببت بالخلد انفرادا
فلا هطلت علي، ولا بأرضي  
سحائب ليس تنتظم البلادا 

 وجاءت صورها كثيرة لدى البحتري، كما في قوله:
ويكفي الفتى من نصحه ووفائه
تمنيه أن يردى ويسلم صاحبه 
أما في شعرنا المعاصر؛ فقد جاء تمثّل بعض المعاني والمبادئ العربية القديمة من قبل الحداثيين على اعتبار جدتها، لكن من يدقق النظر فيها سيلحظ أنها ضاربة بجذورها في تراثنا العربي القديم، ومن الممكن أن نرجع جذورها إلى تلك الفترات من العصور الأدبية الأولى؛ حيث سبقهم الشاعر العربي القديم إلى النداء بها؛ فجاء جل مبادئ الحداثيين من تلك المبادئ التي رددها القدامى، وهي مبادئ حقيقية تبناها شعراء العربية قديمًا واعتنقوها وعملوا بها.  والأمثلة في هذا الشأن كثيرة؛ فمثلًا في ظل تحسس واكتشاف الأنساق المتناقضة يقول عيد صالح: 
كيف لي أن أعقد صفقة مع الذئاب
وأنا على موعد لأناقش التجليات في نص الحداثة
والولوج إلى مدارج الذات
كيف لي
أن أزيح كل هذا الاكتئاب
فيرفع الشاعر المعاصر القناع عن بعض التناقض الذي يقع فيه بعض الحداثيين؛ ذلك أن من مبادئ الحداثة أنها لا تضع الإنسان موضع العبودية، وليس لها أن تنتهك العقل البشري لصالح الآخر، ولا تعادي الإنسان، بل تعلو به كلما علت، ولا تعادي الحرية، أو العدالة، أو الاستقلال، أو الإنتاج، كما لا تأتي على الذات بكل شؤونها العاطفية والإنسانية، كما ينبغي ألا يكون هناك تناقض بين القول والفعل، وكانت مرجعية الشاعر الحداثي في ذلك، (التراث العربي)، إذ نبه عن تلك المبادئ منذ آلاف السنين، كما في قول أبي الأسود الدؤلي:
وإذا جريت مع السفيه كما جرى
فكلاكما في جريه مذموم
وإذا عتبت على السفيه ولمته
في مثل ما تأتي فأنت ظلوم
لا تنه عن خلق، وتأتي مثله 
عار عليك إذا فعلت عظيم

فيتأكد لنا وللمتلقي (أن تراثنا الشعري لا ينفك يخلع على القصيدة المعاصرة من شعريته)، وأن شعراء العربية المعاصرين قد تأثروا في صياغة بعض مبادئهم التي ضمنوها أشعارهم ببعض المبادئ العربية التي صاغها شعراء العرب القدامى عبر قصائدهم؛ كما كشف عن ذلك (التعالق النصي).

في اجتماع المتعاليات وتفرقها:
على الرغم من أهمية العلاقات النصية جميعها في تكوين شعرية النص؛ فإنه من المستبعد ضبط فعاليتها مجتمعةً في نص، (ولا يستحيل)؛ ذلك أنها تزيد وتنقص، كما لا يمكن إقصاء بعضها والإبقاء على بعض، ومنها ما يكون داخلًا في النص أو على جوانبه، ومنها ما لا يكون من الضروري إلصاقه بالنص، مثل (الميتانص).
وقد يتحقق لعنصر متفرع عن إحدى العلاقات ما لا يتحقق لآخر، كما في (العنوان)، فعلى الرغم من أهمية جميع عناصر (النص الموازي) في تحقيق شعرية الشعر؛ فإن للعنوان أهميةً تفوق كل ذلك؛ لكونه يمثل الشفرة الأولى في الدخول إلى القصيدة، والبوصلة التي تعين على مقاربة القراءة، فضلًا عن دوافعه الشعرية.
وهكذا جاءت بعض عناوين قصائد أدونيس المستقاة من التراث العربي، مثل: «إرم ذات العماد»، «أيام الصقر»، «تحولات الصقر»، «مرآة لزيد بن علي»، «مرآة لزرياب»، «مرآة الحجاج»، «مرآة لمسجد الحسين»، «مرآة لمعاوية»، «مرآة لوضاح اليمن»، «مرآة لأبي العلاء»، «ثمود»، «بابل»، «النفري»، «أبو تمام»، «أبو نواس»، «إسماعيل». 
كما لا يمكن أن يفلت أي نص بني على علاقة نصية واحدة من دخوله تحت مظلة «جامع النص»؛ حيث تجتمع له «الحوارية»، وهي تمثل نمطًا سرديًا فاعلًا.

شعرية التراث العربي
القصيدة العربية المعاصرة في ظل استدعائها للتراث الشعري؛ إما أن تقوم على التراث كليةً، كما في «المعارضات التامة» لقصائد الثراث، أو تقوم على استدعاء جزء منه، كتضمين «بيت شعري أو أكثر، من التراث»؛ إذ يتقاطع النص المتسع (المعارض) مع النص المنحسر (المعارض) في الوزن والقافية، وفي معجمه الشعري، كما أنه يقوم على إعادة المعنى، أو مخالفته كما في «المعارضات الناقصة».
وبعض النصوص المعاصرة تقوم على استدعاء موقف معين من التراث؛ يتخذ الشاعر اللاحق أو المعاصر من هذا الموقف مركزًا للدلالة ينطلق منه، ثم يبدأ في خلق رؤى جديدة، وأبعاد متباينة قد تكون سياسيةً، أو اجتماعيةً أو ثقافيةً، أو غير ذلك، وربما لا يأخذ الشاعر من التراث سوى لمحة لا تعدو إشارة عابرة.
فالنص (الحاضر) إثر قيامه على العلاقات النصية، هو نص قائم على محاورة فنية ودلالية، فضلًا عن كونه يمثل محاورةً تاريخيةً، ونوعيةً، كما أنه نص درامي، هذا بالإضافة إلى أن تلك العلاقات تسهم بشكل ملحوظ في تقريب قراءة النص، وكشف إبهامه وإزالة غموضه.
 وتزيد نسبة شعرية النص كلما زادت مرجعياته؛ حيث «إن موضوع الشاعرية هو التعددية النصية أو التعالي النصي للنص... كل ما يضع النص في علاقة ظاهرة أو خفية مع نصوص أخرى»، وتعمل تلك الأخلاط المركبة على تنامي شعرية النص، التي يكمن سرها - حسب أدونيس - في «أن تظل دائمًا كلامًا ضد الكلام»، ومن بين مظاهر تطور لغة الشعر العربي المعاصر، هذا التعالق مع اللغة القديمة المضمخة بكل مفاتن تراثنا القديم؛ مما يتيح للشاعر المعاصر أن يشكل نصه بقدرة فائقة، وتصبح اللغة ممكنةً «وإمكانية استخدام اللغة، تحمل - ضمنًا - إمكانية تعدد هذا الاستخدام؛ نتيجة لتمايز الوسيلة التعبيرية»، ويقع الشاعر بين النص و لغته، تلك اللغة التي خلع عليها الزمان سيرته؛ فانتخب منها الشاعر ما شاء حتى أنتج نصه.
إن الإفادة الحقيقية للشعر المعاصر من التراث العربي ينبغي بأي حال ألا تكون من باب سرد الوقائع والأحداث والنقل، بل على الشاعر أن يجعل محاورته للتراث محاورةً خلاقةً ذات أبعاد جمالية وفنية ودلالية، تتجاوز المكرور والعادي، وفي إطار ذلك ينبغي للنص الشعري الراهن ألا ينمو خلال صوره التقليدية، وإنما من شأنه أن يثور على كل مألوف، ولا يتنافى هذا مع ما يذهب إليه القول بأهمية التوظيف الدقيق للتراث العربي في الشعر الحداثي؛ إذ يتحدد أثر شعرية التراث في النص بناءً على طرافة التناول للتراث، وحيث كان فاعلًا في إقامة لغة  النص ■