حسن التخلّص وبراعة الشّعراء

حسن التخلّص وبراعة الشّعراء

يُعدّ موضوع «حُسن التخلّص» من المواضيع المهمّة، وهو مصطلح قديم لاقى عناية من قبل النّقاد لما له من علاقة بنقد الشعر. ويتلخّص مفهومه بقدرة الشّاعر على الانتقال من غرض شعري إلى غرض آخر في القصيدة الواحدة مع المحافظة على وحدتها العضوية وبنائها المتماسك. و«حسن التخلص» يُعدّ الباب الذي يمكن الولوج منه لضمان الرّبط بين مقدمة القصيدة وغرضها الأساس وصولًا إلى الخاتمة التي تطرق الأسماع في النهاية. لقد اعتاد الشعراء منذ العصر الجاهلي على التنويع بين أغراض القصيدة، من الوقوف على الأطلال إلى التشبيب وصولًا إلى الغرض الرئيسي سواء كان مدحًا أو فخرًا أو هجاء. وهنا كان المتلقي يجد نفسه أمام متاهات تبعده عن الغرض الأساسي للقصيدة، لذلك وفي هذا الموضع بالذات كانت تبرز براعة الشعراء ويبرز تمكّنهم من أدواتهم الشّعرية معتمدين على الرّبط بين أجزاء القصيدة بانسيابية عالية مكونين وحدة عضوية متماسكة تربط بين أجزائها بخيط شفيف ويحيلها كلاً متكاملًا، حيث تبرز براعة الشاعر الذي يصوغ أفكاره ويصبّها في بوتقة تعكس أسلوبه وثقافته وشخصيته وبصمته الفريدة.

 

نستطيع القول إنّ مصطلح «حسن التّخلّص» لازم الشعر العربيّ وكان ضرورة من ضرورات الشّعر تمليهِ على الشّاعر الموضوعات المتعددة في القصيدة الواحدة. فبعد أن كان التّخلص عند المتقدّمين لا يعدو عن ذكر «دع هذا» و«عد عن هذا»، صار المتقدّمون من الشّعراء يتفنّنون به ويبدعون طرقًا تأخذ الألباب وتجذب المستمع. 

وحدة القصيدة
لقد كان حسن التّخلّص بداية التفكير المنطقي بوحدة القصيدة، حيث تبرز براعة الشاعر الذي يصوغ أفكاره، ويصبّها في بوتقة تعكس أسلوبه، وثقافته وشخصيته وبصمته الفريدة. فكيف ظهر حسن التخلّص عند بعض الشّعراء؟
 رصد ابن طباطبا حركة التخلص في الشعر وأغراضه فقال: «إن للشّعر فصولًا كفصول الرّسائل، فيحتاج الشّاعر إلى أن يصل كلامه على تصرّفه في الفنون صلة لطيفة، فيتخلّص من الغزل إلى المديح، ومن المديح إلى الشّكوى، ومن الشكوى إلى الاستماحة، ومن وصف الديار والآثار إلى وصف الفيافي والنوق... ومن وصف المفاوز والفيافي إلى وصف الطرد والصّيد، بألطف تخلّص وأحسن حكاية، بلا انفصال للمعنى الثّاني عمّا قبله»
(ابن طباطبا،2005م،ص 12).
 إنّ تعدد الموضوعات في القصيدة يفرض على الشّاعر الحذق والمتمرّس، أن يهندس قصيدته على أسسٍ فنيّة، وصياغيّة متينة مراعيًا الرّبط بين أجزائها، وسبكها وإخراجها بحلّة فريدةٍ تطرق القلوب.
دراسة نماذج من حسن التخلّص عند بعض الشّعراء:
 من الشّعراء الذين كلفوا بحسن التّخلص المتنبي «مالئ الدنيا وشاغل الناس». فقد ترجم معناه ترجمة عملية في بناء القصيدة متفنّنًا فيه، وأعطى جلّ همّه للاعتناء به. وهذا ما أكّده الجرجاني في وساطته عندما قال: «وقد اتفق للمتنبي فيه خاصّة ما بلغ المراد، وأحسن وزاد» (الجرجاني، 2006م، ص 51).

المتنبي والتخلصات  الحسنة
 وجاء ابن الأثير ليتمثّل بشواهد من التخلصات الحسنة في شعر المتنبي، مبديًا انبهاره وإعجابه بها في كتابه المثل الثائر. وممّا جاء من حسن التّخلّص قول أبي الطيب في قصيدته الدالية التي يمدح فيها سيف الدولة:
وأوردُ نفسي والمُهنَّد في يدي    
مــوارِدَ لا يُــصدِرْنَ من لا يجالدُ 
ولكنْ إذا لم يحملِ القلبُ كـفَّهُ  
 عـلـى حــالةٍ لم يحملِ الكفَّ ساعدُ 
خليليّ إني لا أرى غيرَ شاعرٍ   
فلمْ منْهُمُ الدّعوى ومنّي القصائدُ
فلا تعجبا إنَّ السّيوف كــثيرةٌ   
 ولكـنَّ سيفَ الـــدولةِ اليومَ واحدُ
(المتنبي، ص381).
 في هذه الأبيات ميّز المتنبي نفسه عن سائر الشّعراء، وميّز سيف الدولة عن باقي الحكّام والقادة، ومزج بين الحديث عن نفسه والحديث عن سيف الدولة إلا أنّه تخلّص من حاله إلى حال ممدوحه ببراعة، وهذا يدلّ على براعة المتنبي وقدرته على الإحاطة بكلّ تفاصيل القصيدة، والغوص في أعماق المعاني، وهو الذي يفخر بشجاعته، ورباطة جأشهِ سواء أكان ذلك في الحروب أم في نظم القصيد. ويتنبّه إلى ممدوحه ويربط بين رمزية السّيف وسيف الدّولة، فالسّيف يستمدّ قوّته وجرأته من حامله وإلّا سيكون كما عبّر المتنبي في قصيدة أخرى «مثل الجبان بكفِّ كلّ جبانِ». وهنا يخرج المتنبي ليميّز سيف الدّولة ويجعل منه قائدًا فريدًا لا مُنازع له. لقد تخلّص المتنبي لينصف نفسه وممدوحه.
 ومن حسن التّخلّص قول المتنبي في مدح كافور:
فــما الحداثةُ من حلم بمانعةٍ       
قد يوجدُ الحِلمُ في الشبّانِ والشَّيبِ
ترعْرعَ الملكُ الأستاذُ مُكتهلًا
قــبلَ اكتهالٍ أديبًا قــبل تأديبِ
مُجرَّبًا فَــهَمًا من قبلِ تَجْربةٍ   
مُهذَّبًا كرَمًا مــن غـيرِ تهذيبِ
(المتنبي، ص 182)
يريد المتنبي أن يؤكد بهذا البيت «ترعرع الملك الأستاذ» معنى البيت السابق، وفيه حسن التخلّص. يقول إن كافورًا نشأ على الاكتهال (أي: حلم الكهولة قبل أن يكتهل سنًا)، وعلى الأدب قبل أن يؤدّب: أي إنه ترعرع على ذلك طبعًا، وهذا دليل على أن الحداثة ليست مانعة حلمًا، يعني أنّ كافورًا قد سبق أترابه فَهمًا وأدبًا، وهذا طبع تميّز به عن غيره. هنا تخلص الشّاعر بطريقة سلسة من الحكمة، التي تُنصف بعض الشّبان المميّزين لاستخدامه «قد» قبل الفعل المضارع، وتجعلهم يشتركون بصفة الحلم مع «الشّيب»، وهذه الصفة أي الحلم ليست مَشاعًا للجميع وإنّما لمن يستحقّها، وتخلّص إلى مدح كافور.
 
وقال المتنبي يمدح عبيد الله بن يحيى البحتري:
بــكَيْتُ يا ربعُ حـتّى كِدْتُ أُبكيكا     
وَجُدْتُ بي وبدمعي في مَغانيكا 
فعِمْ صباحًا لقد هيّجت لي شجنًا   
 وارْدُدْ تــحيّتنـــا إنّا مُــحيُّــوكا 
بــأيّ حُـكم زمــانٍ صِــرْتَ مُــتّخِذًا   
رِئمَ الفلا بدلًا من رئْمِ أهـــليكا
أيّام فيكَ شُموسٌ ما انبعثنَ لنا   
  إلّا ابتعثن دمًا باللّحظِ مَسفوكا 
والعيشُ أخضرُ والأطلالُ مُشرقـةٌ   
 كــأنّ نور عُــبيدِ الله يَـــعلوكا 
نجا امرؤٌ يا ابن يحيى كُنت بُغيتَهُ  
 وخابَ رَكْــبُ رِكابٍ لـم يؤمّوكا
(المتنبي، ص882)
 يبدأ المتنبي بالوقوف على الأطلال في جوٍّ سيطر عليه الحزن والأسى والدّمع، يقف أمام الطلل، ويخاطبه كأنّه إنسان يحسّ ويشعر بآلام صاحبه، حتّى إنّه كاد يبكي لحال الشّاعر «كِدْتُ أُبكيكا». وهنا يذكرنا بحصان عنترة «لو كان يدري ما المحاورة اشتكى». وكأنّ الحال النفسيّة للشّاعر تنعكس على ما حوله من جمادٍ أو حيوان فيحسّ كأنّها تُشاركه حزنه عندما يبثّها شكواه وألمه. وبعد التحيّة يُعاتبُ الشّاعر الأيام، وتقلّب الزّمان والأحوال التي جعلت الرّبع مقفِرًا، فأوتْ إليه ظباءُ الصّحارى بدلًا من ظباء الإنس. وصار هذا الرّبع خاليًا من كلّ مظاهر الحياة بعد أن كان يعجّ بالماضي بكلّ أسباب الرّاحة والدّعة، والاطمئنان. لقد كان العيش طيّبًا و«الأطلال مشرقة» بمن كان من الأحبّة قبل ارتحالهم وكأنّ «نور عبيد الله» يعلو الطلل. وبذلك يكون قد تخلّص من الوقوف على الأطلال إلى المدح، وكأنّ بصيص الأمل عاد ليحدو الشّاعر، بعدها أتى على ذكر «ابن يحيى»، ويستكمل مدحه بقوله إن من قصده نجا من مكاره الزّمان، ونال مراده، ومن لم يقصده فقد خاب.
 ويقول المتنبي في قصيدة «فديناك من ربعٍ وإنْ زدْتنا كربا»:
ولستُ أُبالي بعدَ إدراكيَ العُلا    
أكان تُراثًا ما تناولْتُ أم كسْبا 
فرُبَّ غُلامٍ عَلّم المجدَ نـفسَهُ      
كتعليمِ سيفِ الدّولةِ الطّعن والضربا
(المتنبي، ص 163ــ 164).
 لقد دأب المتنبي على الاعتزاز والفخر بنفسه حتّى في محضر سيف الدّولة وهو القائل: «أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي». فلا غرابة أن نقع في قصائده على هذه المعاني بكثرة. وهنا لا يبالي المتنبي بعدما أدرك العلا إن كان ما حصل عليه إرثًا أو كسبًا، ولا سبيل للتفكير في ما مضى طالما أنّه أدرك أقصى أمانيه. لينتقل بطريقة بارعة ويتخلّص من الاعتداد بنفسه إلى مدح سيف الدّولة في البيت التالي. فربّ شابٍ عصاميٍّ علّم نفسه المجد «ويعني نفسه»، كما علّم سيف الدّولة أهل دولته الطّعن والضّرب. أقام المتنبي مقارنة بينه وبين سيف الدّولة، ويرى أنّه صاحب الفضل في تعليم نفسه، ولا منّة لأحدٍ عليه في ذلك، كما أنّ سيف الدّولة صاحب الفضل في تعليم أهل دولته فنون القتال.
 ومن المتنبي ننتقل إلى أبي نواس، وهو من الشّعراء الذين اعتنوا بحسن التّخلّص ففي قصيدة: «يا دار! ما فعلت بكِ الأيامُ؟ يقول في مدح الأمين:
يا دارُ مـــا فــعــلَتْ بــكِ الأيّــامُ
ضامتْكِ، والأيامُ لــــيسَ تُــضَامُ
ولقدْ نـهزْتُ مع الــغُواةِ بدلْوهِم
وأسَمْتُ سَرْحَ اللهو حيتُ أساموا
وبلغْتُ ما بلغَ امــرؤٌ بشبابِهِ
فإذا عُـصارةُ كـــلّ ذاكَ أثــامُ
وتجشّمتْ بي هــوْل كــلّ تنوقــةٍ
هـوجاءَ فـــيها جـــرأةٌ، إقـدامُ
تذرُ المـــطيَّ وراءَها، فكأنَّهَا
صفٌّ تَــقدّمَهُنّ وهي إمامُ
وإذا المطيُّ بِنا بلغْنَ محمدًا
فظهورُهنَّ على الرِّجالِ حَرامُ 
قرّبْننا منْ خيرِ مَنْ وَطِئ الحَصى
فلهَا عليْنا حُرْمةٌ وذِمامُ 
(أبو نواس، 1998م، ص521 ــ 522).
 هذه القصيدة من القصائد القليلة التي يبتدئها أبو نواس بالوقوف على الأطلال، وعلى عادة الشعراء في الوقوف على الأطلال واستهلال قصائدهم، وقف أبو نواس وخاطب الدّار التي جرت عليها عوائد الزّمن. واستذكر شبابهُ اللاهي والماجن حيث لم يفوّت فيه أي فرصة سانحة إلّا اغتنمها وجيّرهَا لخدمة ملذاتهِ ومجونه «ولقد نهزت مع الغواة بدلوهم». ويصل إلى وصف ناقته التي تجدّ السّير وتتقدّم كلّ المطايا، وتتركها وراءها لتصل إلى الممدوح وهو محمد الأمين «وإذا المطيّ بنا بلغْن محمّدًا / فظهورهنّ على الرّجال حرامُ». بمعنى أنه سيستقرّ عند ممدوحه وينقطع إليه من ناحية، ومن ناحية أخرى سيكافئ المطيّ بعدم امتطائها لأنها قرّبته وأوصلته إلى ممدوحه الأمين. نلاحظ في هذا البيت حسن التخلّص حيث انتقل الشّاعر من وصف ناقته التي تجدّ السّير إلى مدح الممدوح بطريقة فيها الكثير من المهارة والحذاقة.
 أمّا البحتري في قصيدة: «ميلوا إلى الدّار من ليلى نُحييها»، فقد مدح المتوكّل العباسي فبدأ بوصف الأطلال، ومرّ على وصف بركة المتوكل فقال:
يا منْ رأى البِركةَ الحَسناءَ رؤيتُهَا   
والآنساتِ، إذا لاحتْ مغانيْهَا
فحاجِبُ الشّمسِ أحيانًا يُضاحِكُها         
ورَيِّقُ الغيثِ أحيانًا يُباكيهَا 
كأنَّها حينَ لجَّتْ فـــي تدفُّقِهَا        
يدُ الخليفةِ لمَّا سالَ واديهَا
وزادَهَا رُتبةً منْ بعدِ رُتبتِها
أنّ اسْمَهُ يوْمَ يُدعى من أساميهَا 
إنَّ الخلافةَ لمَّا اهتزَّ مِنبرُهَا     
بجعفر، أُعطيتْ أقصى أمانيهَا
(البحتري، 2017م، ص 28)
 لقد أبدع البحتري في وصف هذه البركة بكلّ تفاصيلها وبكلّ ما تحتويه، بحيث جعلنا نسرح بخيالنا ونتعرّف على الجوّ الذي يحيط بها، بأسلوبٍ شيّقٍ وممتع، ليتخلّص إلى مدح المتوكّل ببراعة، بحيث لم يشعر القارئ بالانتقال إلى المدح لأنّ المعاني كانت متداخلة، وآخذ بعضها برقاب بعض. لقد شبّه البركة في تدفّقها بيدِ الخليفة التي تسيلُ عطاءً وجزاء «لمّا سال واديها». ولم يكتفِ البحتري بالربط بين التدفّق ويد الخليفة الزّاخرة بالعطاء، بل أردفها ببيتٍ آخر بيّن أنّ اسم الخليفة المتوكّل هو«جعفر»، والجعفر هو النّهر. وعبر هذا التّشبيه، أي تدفّق الماء الذي يُشبه تدفّق الجود من يد الخليفة، والتّشابه بالأسماء بين البركة والخليفة «جعفر» ، كان حسن التّخلّص موفّقًا لشدّة الالتئام بين المعاني كأنّها تصبّ في قالبٍ واحد. وبعدها انتقل البحتري إلى استكمال أوصاف ممدوحه.
  وأبو تمام كان بارعًا في حسن تخلّصه، فيقول في مدح المعتصم:
رقّتْ حواشي الدّهرِ فهيَ تمرمرُ      
وغـدا الثّرى في حِليهِ يتكسَّرُ
مطرٌ يذوبُ الصَّحْو منْهُ وبعـدَهُ      
صَحْوٌ يكادُ منَ الغَضارةِ يُمطرُ 
يا صاحبيّ تقصّيا نَــظرَيْكُـمَا   
 ترَيا وجوهَ الأرضِ كيف تَصَوَّرُ
تريا نهارًا مُشمسًا قدْ شابَهُ    
 زهرُ الرُّبا فكأنّما هـو مُقْمِرُ
خُلقٌ أطلَّ مــن الرّبيعِ كأنَّهُ    
خلقُ الإمامِ وهديُهُ المتيسّرُ
(أبو تمام، ص 332 ــ 334).
 في هذه القصيدة يبدأ أبو تمام بوصف الطبيعة وسحرها، مثنيًا على أهميّة فصل الشّتاء وأنّه ذو فضلٍ على باقي الفصول وخاصّة الصّيف، إذ لولاه لكان الصّيف جافًا وقاحلًا، فالشّاعر شخّص الطّبيعة ليبني بينها وبين الإنسان علاقة وطيدة. وأيضًا وطّد العلاقة بين الزّمان «الدهر» والمكان «الأرض الثرى» في ثنائيّة تقابليّة. وفي البيت الثاني يصف مطر الرّبيع الذي بلغ حدّ الشّفافيّة والصّفاء بحيث يذوب منه الصّحو، والصّحو الذي يأتي من بعده يكاد يُمطر من الرّقة النّعومة. ويأتي على ذكر الأرض التي تزيّنت بأبهى الألوان، وقد غلب عليها «زهر الرّبى» بلونه الأبيض والذي انعكس عليه ضوء الشّمس فبدا النّهارُ مقمرًا لا مشمسًا.
 وبعد أن يصف مظاهر الرّبيع وتجدّد الحياة فيه يتخلّص إلى المدح، فيشبّه «خلق الرّبيع» بـ «خلق الممدوح»، فإذا هو سمح معطاء متجدّد على الدّوام، وكأنّ الشّاعر يرى في منظر الرّبيع ربيع عصر الممدوح. 
 أمّا كعب بن زهير فقد مدح الرسول الأكرم (صلى الله عليه وسلم) في قصيدة البردة فقال:
بانتْ سُعاد فـقلبي اليومَ مَتـْبولُ
مُــتيَّمٌ إثــرَهَا لــم يُفدَ مــكْبولُ
وما سُعادُ غَداةَ البيْنِ إذ رحَلوا     
إلّا أغَنُّ غضيض الطّرفِ مكْحولُ
يسعى الوشاةُ بجنْبيْهَا وقولـهُمُ     
إنّكَ يا بن أبي سُلمى لمَــقتولُ
فقلتُ: خلّوا سبيلي لا أبا لكـُمُ     
فكلُّ ما قدَّرَ الرحمنُ مفعولُ
كلُّ ابن أُنثى وإنْ طالَتْ سلامتُهُ    
يومًا على آلةٍ حَــدْباء مـحْمولُ
أُنبئتُ أنّْ رسـولَ اللهِ أوْعــدَني    
والعفوُ عندَ رسولِ اللهِ مأمولُ
إنَّ الرّسولَ لسيفٌ يُستضاءُ بهِ     
مُهنّدٌ منْ سيوفِ اللهِ مسلولُ
(كعب بن زهير،1997م، ص 67-60).
 في هذه القصيدة الطويلة يعبّر الشّاعر عن قلق نفسه، وعن البيئة الاجتماعية والدّينيّة التي يعيش بها. وهي قصيدة متعددة الموضوعات من الغزل إلى الاعتذار والمدح.  لكن المدح هو الذي ظهر أكثر من غيره فيها. فبعد أن أجاد في غزله عبّر بأبياتٍ جميلة عن القلق النّفسي الذي يعيشه في ظلّ مجتمعٍ يترصّدُ أخطاء الإنسان ليعمد إلى جلده والحكم عليه حتّى لو أراد العودة عن ضلاله، فلا بيئة حاضنة لمن يريد التكفير عن خطئه. وهؤلاء «الوشاة» يحملون الحقد في نفوسهم وبدلًا من مساعدة الشّاعر، وضمان سلامته، وحمايته ليتجاوز أزمته مصحّحًا مسارهُ، كانوا يهوّلون عليه ويتنبؤون له بالقتل «إنّك يا بن أبي سلمى لمقتولُ». لكنّه يصرّ على استكمال طريقه مؤمنًا بقضاء الله وقدره، واستسلامه لقدرة ومشيئة الله تعالى «فكلّ ما قدّر الرحمن مفعولُ»، لأنّ مصير كلّ كائن حيّ هو الموت في النهاية. ويتخلّص الشّاعر وينتقل من هذه الحكمة إلى مدح الرسول (صلى الله عليه وسلم).فهو يرفض أقوال الوشاة لأنّ «العفو عند رسول الله مأمولُ»، مستكملًا المدح إلى نهاية القصيدة. لقد عوّل على أخلاق الرسول  وعفوه عند المقدرة ضاربًا بعرض الحائط أقوال الوشاة.
 ومن نماذج حسن التّخلّص عند أبي العلاء المعري قوله:
ولو أنّ المطيّ لها عـقولٌ    
وجـدّكَ لـم نشُدَّ بـها عِـقــالا
مواصلةً بها رحلي، كأنِّي    
عنِ الدُّنيا أريدُ بها انفصالا
سألن، فقلتُ: مقصدُنا سعيدٌ،   
فكان اسْمُ الأميرِ لهُنَّ فالا
(أبو العلاء المعري، سقط الزند، 1998م، ص23).
 في هذه القصيدة يبدو الشّاعر في سفر، وقد شدّ الرّحال إلى الممدوح، فالمطايا تطاوعه وتسير معه أنّى شاء، وكيفما اتّفق، لكنّه يستدرك ويقول: «ولو أنّ المطي لها عقولٌ»، ولو هي حرف امتناع لامتناع فلو كانت تمتلك عقلًا لما قبلت أن «نشدّ بها عقالًا» وأن نوثقها. وهذا يعني أنّها مُسيّرة لا تملك زمام نفسها. ويبيّن الشّاعر حالته النفسيّة القلقة، كأنّه يريد أن يخرج من الدّنيا ويترك كلّ ما فيها. وهذا المعنى نجده في قصيدة أخرى له حيث يقول:
وهل يأبق الإنسان من مُلكِ ربّهِ فيخرجَ من أرضٍ له وسماءِ 
(أبو العلاء المعري، اللزوميات، ص49).
 ولكن بعد السؤال عن الوجهة التي يريدها أجاب «مقصدُنا سعيد». سعيد هو الأمير الذي كان يقصده ، وهو من الأسماء المستحسنة التي كان يتفاءل بها العرب «فكان اسم الأمير لهنّ فالًا». وبذلك تخلّص المعري تخلّصًا بارعًا بانتقاله من وصف رحلته ومسيره الشّاق عبر الحوار إلى المدح .
 ختامًا، وبعد هذا العرض الوجيز يمكننا القول إنّ مصطلح «حسن التّخلّص» لازم الشعر العربيّ وكان ضرورة من ضرورات الشّعر تمليهِ على الشّاعر الموضوعات المتعددة في القصيدة الواحدة ■