سَيّد الغِزلان

سَيّد الغِزلان

اسْمُه حَيدْة واسمُ أبيه الطاروس، إنه حَيدْة ولد الطاروس، هكذا يعُرف، لكنه لا ينادَى إلا بـ«سيدي حيدة» دون إشارة إلى اسم أبيه الذي ربما قد يشي بمذمة... ويا ويْحَ من ناداه بولد الطاروس. تلك جسارة غير محمودة العواقب. فإذا كان اسمه الشخصي يوحي بالألفة حتى لو غاب معناه، والمؤكد أنه تصغير لأحمد أو ما شابه، فإن في لفظ الطاروس قدرًا من الاستفزاز، في العامية والفصحى معًا، إنه المختال في مشيه المتأنق في الكِساء، وربما المتعجرف. 
 والسيادة التي تسبق اسمه اكتسبها رغم أنف الجميع، ورغم أنف القانون حتى.  وإذا شئنا فإنها كانت له، باللين وبالزج. وهو فوق ذلك أنيق أناقة الأسياد، وشامخ، وصنديد. مظهره، وهو الأسمر، في جُبته السوداء الغُرِّية وبَلغته الصفراء الجديدة وعمامته الصفراء المشرقية، مهيب، محايد، والصمت رأسمال حكمته. ولو أنه، ولا عجب في ذلك، لِصٌّ! لكنه لِصٌّ شريف كما يقال. فكل ما يراه من أغراض الناس هو له، وما لم يره فله فيه النصف، كما يقال أيضًا. لذلك لن تُجدي معه الاحتياطات متى ما عزم على أمر، وأموره من عيار كبير، ومقضية بلا نقاش. إنه صاحب «عين كبيرة» ولا يختلس إلا ما يملأ العين والجيب.  وهو بذلك اختصاصي في البهائم أكثر من سواها. وإذا شئنا فهو يفضل من الأنعام البقر، ومن البقر الثيران. فكلما سمن وتشحم ثور في الجوار أو الأقاصي كان له. لا أحد يدري كيف يستحوذ على مبتغاه من الزريبة في غفلة من العيون الحارسة والكلاب، ولا أين يبيعه. ضرباته بلا أثر وغاراته تتم في خفاء. آثار النعمة تشي بوافر المغانم. حين يعبر إلى السوق الأسبوعي، متجاوِزا ببغلته الحثيثة المسرجة، جحافلَ المتسوقين، لن يسمع منهم إلا سلامًا سلامًا. يردّون عليه التحية حتى ولو لم يبادرهم بها. فكأنما هُم بذلك يتوددون له. وهو حين يَرُد عليهم التحية يَرُد باقتضاب. بحيث لا يَعقد معهم عهدا ولا يَحُل. ولئن كان يشاركهم الجغرافيا فعوالمه خاصة به. سكناه في أعلى قمة من بلدة الشعاب إحدى فروع قبيلة «دكالة» الشهيرة، كأنه اختارها كي يُطل، في خيلاء، و«يطورَسَ» على سواه من فوق وعلى العالم . ليس له أصدقاء، لكنهم جميعًا يرومون وصْله تفاديًا لشروره. والحق أنه ما آذى شخصًا من القبيلة في رزقه ولا عِرضه. كان صيدُه يأتيه من البعيد. لكنه في تلك الليلة ارتأى، ولأمرٍ ما، أن يفعلها. أن يصطاد من الحظيرة. من يدري فقد كانت له من المبررات ما يكفيه ليخلف ميثاق الشرف. فغير بعيد عنه كانت أرملة عجوز تربي عِجلًا، وها قد صار العجل ثورًا.  لذلك، وحسب تقديره، فقد بات من نصيبه. لا أحد  من الأغراب رأى الثور في الزريبة سوى حيدة. له فراسة تجعله يتقرى النأمة في الغيابات بعين نسر. ولأنه كان قد قرر فقد كان الثور قد غدا له أو قاب قوسين.
في الظلمة الداجية كانت أمي طامو، وقد جافاها النوم، لا تزال تدير الرحى وللرحى هرير. وماهمَّ هريرُها حيدة، وقد وضع نصب عينيه اقتيادَ الثور وكأنه مِلكُ يمينه وشماله. وكما تدور الرحى كان حيدة يقطع المسافة، في اتجاه الاسطبل، بمهارة سِرحان، لكنه توقف فجأة مذهولًا لسماع اسمه: «سيدي حيدة»، يتردد في صوت أمي طامو وهي تناغي الرحي في هدأة الليل:
فين الأحباب اللي غابوا
فين الرجال اللي غابوا
فين غزلان الليل اللي غابوا
بقيت فريدة آ العار عليك سيدي حيدة
سيدي حيدة سيد الغزلان.
تسمّر في مكانه مذهولًا لحظةً، ولام نفسه، مؤنبًا، بصوت يكاد يُسمع: ألا تخجل ياولد الطاروس؟
 ثم عاد أدراجه متسللًا كأن كل الناس كانوا يراقبونه هو الذي ما رآه أحدٌ في غاراته الليلية.
الله وحده يعلم كم قضت أمي طامو من وقت في مناغاة رحاها، وهي لا تعلم بأن سيدي حيدة بطل أغنيتها، والذي احتمت به، كان يتحرش بثورها، إلا حينما استيقظت صباحًا، لتكتشف إسوارة من ذهب تحيط بقطب رحاها، ورسالة، بعد أن تم تفسير فحواها من طرف أحد الصبيان، تقول: عليك الأمان من «سيد الغزلان» ■