قائمة إجبارية

قائمة إجبارية

توقفت  الأشياء، وتجمدت تمامًا، في الوهلة التي أيقنت بها افتقادي حاستي الشم والتذوق عند قراءتي إحدى الروايات الجديدة الصادرة أخيرًا، فبعدما نزعتُ عنها غلافها البلاستيكي لم يصلني شيء من رائحة الطباعة والحبر الجديد والورق، سرقها مني الفيروس المختلس، سرق صفة الإحساس.
مررت بأحد المقاهي الصغيرة، و مخبز للكعك والفطائر المحلاة والمعجنات الطازجة التي خرجت للتو من الفرن، وكانت بمنزلة الصور الصامتة ليس إلا، فرائحة الخبز الدافئة الحنونة لم تكن موجودة، ودمعت عيناي حينما رجعت البيت لأحتضن أولادي وأطفالي الصغار، ولم يصل أي إحساس رقيق من مشاعر الأمومة التي ينغمر بها القلب، قلب الأم، حينما تتنفسهم  بعمق أثناء لحظة العناق باحتضانها لأبنائها.
أخذتني حالة من الهستيريا من هذا البعد القاسي والمسافة التي نُفيتُ إليها. أنا بعيدة، بعيدة جدًا عنكم، بُعد السنة الضوئية وبُعد الأجرام السماوية، ولا أشعر بكم أبدًا وأفتقدكم بشدة.
شعور الجوع  استحدث نفسه بغرابة مخيفة. أصبح مجرد إشارة دماغية بحاجة هذا الجسد إلى الامتلاء لينزل عليك مثل الأوامر الصارمة: املأ هذا الجسد بالطعام حالًا، كحال المأمور الذي ينقاد للأوامر دون  مناقشة، ولا يوجد فارق بنوع الطعام الذي تختاره لتمتلئ به معدتك ولتهدئ هذه الإشارة الدماغية عن حاجة الجسم، حال مركبة السيارة التي تملؤها بالوقود لتواصل المسير!  
وفي اليوم الذي ازداد فيه الأمر سوءًا حينما أمسكت بفنجان القهوة التركية التي أعشقها، وُضعت أمامي بفنجانها الأبيض والمزدان بالخط العربي، ارتشفتها بصمت وهدوء دون نسيم البن المعهود الذي تتنفسه وتنطق بـ (الله) لرائحة القهوة بعد أول رشفة. 
كانت القهوة التركية تشبه الماء الحار الثقيل ممزوجًا بالرمل الناعم، ورغيف التوست المحمص مع الزعتر الفلسطيني الملكي بمنزلة الإسفنج الجاف مع طبقة رملية خشنة لاصقة، ورقائق الإفطار اللذيذة مع الفاكهة المجففة والحليب البارد الذي تبدأ به صباحك يعادل  الماء البارد المخلوط بحصى صغيرة ورقائق صخرية قابلة للتكسر مع دوائر صغيرة من المطّاط.
أما وجبة الغداء، من الأرز والدجاج المحشي والبصل المنكه برائحة الهيل والقرفة، فكانت بمنزلة الطين الحار مع طبقات من الورق المضغوط مع حبيبات الإسمنت إلى جانب مكعبات الخشب المدهونة بالغراء الرطب. 
ولتكن هذه هي قائمة الطعام المتاحة والإجبارية لمن يصاب بفيروس كورونا اللئيم، وعليك الرضوخ لها حتى يعفو عنك ويرحل ■