مستويات الحضور والبدائل الثقافة الأيقونية في المدرسة العربية

مستويات الحضور والبدائل الثقافة الأيقونية  في المدرسة العربية

يتحرك عالمنا عبر فائض الصور، التي لم تعد تكتفي بتأثيث الفضاءات جماليًا فتصنع بهجتها، وإنما تتجاوزها إلى التأثير قيميًا وتجاريًا في الناس، وتنميط سلوكهم، وأفكارهم، وتوجيههم إلى قيم مصنوعة. إن التلاميذ والطلاب، بسبب استهلاكهم المفرط لوسائط التواصل الاجتماعي الحديثة، فإنهم أشد عرضة لتبني سلوكيات وقيم تخالف المبادئ الخلقية والسلوكية التي تروم المدرسة بناءها، فالصورة صارت أيقونات تضاهي في تأثيرها الآن، الأيقونات اللاهوتية في مرحلة ما.

 

إن الخطورة المطردة للخطابات الأيقونية تكمن في كونها تسكن الفضاءات المادية على تنوعها، وقادرة على اختراق الفضاءات الافتراضية، والتأثير في مستعمليها. والأشد أنها غير خاضعة لقانون ينظم انتشارها، ولديها جاذبية كبرى لكونها تخاطب النفس لا العقل، كما أنها قادرة على تحقيق المتعة الكبيرة، فضلًا عما يرسمه الأشخاص/ الأيقونات من هالة وقدسية عن حيواتهم «المثالية»، والحياة الكريمة التي لا مشاكل فيها ولا تعب.

الثقافة الأيقونية
من هذا المنطلق انتبه فريق البحث التربوي (المدرسة وبدائل التعلم) المنتمي إلى المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين (الرباط - سلا  - القنيطرة)، إلى أهمية تناول موضوع الثقافة الأيقونية في مؤتمره الدولي الرابع، الذي جرت فعالياته يومي 20 و21 أكتوبر 2021، في علاقتها بهندسة المنهاج التربوي، ومستويات حضورها في منهاج تأهيل مدرسي المستقبل والكتب المدرسية الموجهة إلى التلاميذ والطلاب، فضلاً عن تشابكها مع الثقافة التشكيلية والفيلم التربوي السينمائي والوثائقي، والحكاية المصورة.
وقد سعى فريق البحث التربوي، إلى رصد موسع للثقافة الأيقونية، بمختلف أبعادها عبر استثمار جهود الباحثين المختصين في قضايا البيداغوجيا والديداكتيك (تدريسية المواد)، والذين لديهم إلمام بقراءة الخطاب الأيقوني وأنساقه الفنية والثقافية.
وقد أصدر في مستهل السنة الجديدة 2022 كتابه الرابع بعنوان (الثقافة الأيقونية في المناهج الدراسية بين الدعامات الورقية والرقمية: تصور للمغايرة والبدائل)، توثيقًا لأعمال مؤتمر الثالث، وسعيا إلى مشاركة بحوثه المحكّمة مع المختصين والفاعلين التربويين والقراء المهتمين.

مشروع علمي متصل
يمتلك فريق المدرسة وبدائل التعلم مشروعًا علميًا بدأه بكتاب «الدافعية داخلية المنشأ وبدائل التعليم والتعلم في المدرسة العمومية المغربية» (2018)، وهو كتاب أنجزه أعضاء الفريق بدعم من وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي والبحث العلمي المغربية،  ثم كتاب «الدافعية داخلية المنشأ وأسئلة الألفية الثالثة» (2019)، وهو كتاب توثيقي لأشغال مؤتمره العلمي الأول، وكتاب «التعلم الرقمي وأسئلة الألفية الثالثة» (2020)، الذي يجمع الدراسات المقدمة لمؤتمره الثاني، ثم كتاب «الثقافة الأيقونية في المناهج الدراسية بين الدعامات الورقية والرقمية: تصور للمغايرة والبدائل» (2021). 
ويشتغل الفريق على أفق علمي وتربوي، من ثلاثة أقطاب:
الأول: اختيار موضوعات بحثية راهنية، ومقترنة بقضايا منفرزة عن روح العصر، فموضوع الدافعية داخلية المنشأ، مشكلة مقترنة بوجودنا في عالم مادي، يربط السلوكات التربوية والتعليمية، بما يمكن أن يتحقق من منافع مادية، فتنقطع السلوكات الإيجابية بمجرد انقطاع دافعها المادي، فاقترح الفريق كتابين في هذا الموضوع الشائك من منظورات تخصصية متنوعة: علم النفس، علم الاجتماع، علوم التربية، تدريسية المواد، عبر رصد خلفياتها الفكرية، وتشخيصها في الممارسة المهنية، واقتراح بدائل لحلها. وكذا الأمر بالنسبة إلى قضية التعليم الرقمي التي اقترح الفريق ورقة علمية لمؤتمره العلمي الثاني، تحديدًا لماهيته، وتشخيصًا لحضوره في المدرسة العربية، واقتراحا لمأسسته في مناهجها، حتى قبل أن تحل جائحة «كوفيد 19». 
الثاني: إشراك الباحثين والمتخصصين من مختلف الجامعات العربية، ومن المتدخلين المتخصصين في علوم التربية والبيداغوجيا، وتدريسية المواد، مع الحرص على جدة المداخلات، ونوعية طروحاتها، وقابليتها للتطبيق في الواقع، مع تشجيع الباحثين في أسلاك الدكتوراه، للمشاركة على الأقل في ورشات الفريق العملية وفي مداخلاته حينما تستوفي الشروط العلمية الضرورية.
الثالث: أن تتجاوز المداخلات والدراسات المقدمة الإغراق في الجوانب النظرية، أو التشخيص الممعن، إلى اقتراح البدائل العملية المؤسسة، قصد جعلها توصيات مفيدة للممارسين المهنيين المتدخلين، ولصناع القرار، وللباحثين المتخصصين.
وفضلًا عن ذلك يصدر الفريق عن استشراف المواضيع التي تتحول إلى ممارسة تربوية ومهنية، فاختار لمؤتمره الخامس موضوع «الإنسانيات الرقمية». وإن جميع المواضيع التي يشتغل عليها الفريق ترتبط، قصدًا، بروح العصر، مع محاولة ربط المدرسة العربية بالإنتاجات والتجارب الكونية الناجحة، قصد الإفادة منها.
 
السياق العام للكتاب
صدر الكتاب في زمن الجائحة، مع الحرص على إصداره ورقيًا، بالموازاة مع سعي علمي لقراءة واقعنا التربوي والتعليمي، قصد إعادة تمثله وفهمه، بل تغييره باستثمار الخبرات العلمية والتجارب المهنية للمشاركين فيه، مع الصدور عن وعي حاد لتجديد النماذج البيداغوجية والديداكتيكية القائمة.
إن كتاب «الثقافة الأيقونية في المناهج الدراسية بين الدعامات الورقية والرقمية: تصور للمغايرة والبدائل»، ليس مجرد كتاب توثيقي لفعاليات المؤتمر الدولي الثالث الذي جرت فعاليته يومي 20 و21 أكتوبر 2021، بل مساهمة علمية في إحداث وعي حول خطر هيمنة الثقافة المادية التي تنمط السلوك البشري وانفعالاته وآراءه، وتمنعه من أن يبني رأيًا ناقدًا وسلوكًا تعلميًا وثقافيًا ممتدًا. ويراهن الكتاب على تحديد ماهية وخصوصية عالمنا الجديد الذي تصنعه الصورة، وتنمطه الأيقونات بقدرتها البالغة على التأثير في فكر الناس وسلوكهم، وتنافس المدرسة في صناعة القيم وبناء المهارات، فمن جهة تجمع الثقافة الأيقونية بين كونها خطابًا جماليًا ذا وظيفة ديداكتيكية وبيداغوجية تلازم المقررات المدرسية ودعاماتها البصرية. ومن جهة ثانية، بوصفها خطابًا ثقافيًا له بعد تنميطي يسعى إلى بناء تمثيلات ثقافية موصومة بتقديس الأيقونات المصنوعة على وسائط التواصل الاجتماعي وباقي الوسائط الرقمية الأخرى.
وقد خضعت دراسات الكتاب لقراءة متعددة، جادة ومستغورة، من قبل لجنة علمية، تتجاوز الحرص على الانضباط المنهجي واللغة العلمية الدقيقة، إلى ما تقترحه من مداخل نوعية تروم في مجملها تقديم بدائل للخطاب الأيقوني في المناهج الدراسية.
 
التفكير التربوي الأيقوني 
تستحضر الدراسات المتضمنة في كتاب «الثقافة الأيقونية» آليات بناء تفكير تربوي أيقوني، عبر الوعي به بوصفه خطابًا جماليًا، يربي على الذوق السليم، ومنها دراسة د. عبدالجليل شوقي، التي تفكك الصور البصرية الأيقونية المرفقة بالنصوص القرائية بمقررات اللغة العربية، التي يعتبرها مدخلًا لبناء شخصية المتعلم وتربيته على القيم الجمالية الذوقية وتهذيبها، وجعله منخرطًا في سيرورة فهم قيمة الجمال في الوجود.
كما أن هناك دراسة د. أنور بنيعيش، التي تضع اليد على مشكلة حضور الخطاب الأيقوني في المنهاج الدراسي للغة العربية في الثانوي التأهيلي، مشيرًا إلى غياب وعي أيقوني يدمج العناصر الأيقونية في بناء التعلمات، بدل وجودها في نسق تقليدي، يقوم على إدماج الصور، دون استحضار طابعها المركب، الذي يجمع بين الجمالي والإبستيمولوجي والنفسي.
وتدعو دراسة د. محمد أبحير بعد تسجيل ضعف حضور الخطابات الأيقونية في المنظومة التعليمية المغربية، إلى تعزيز مكتسبات المتعلمين المعرفية بنصوص نظرية تتطرق إلى تعريف الخطابات الأيقونية وبيان آليات ومناهج تحليلها، قبل مطالبة المتعلمين بإنجاز الأعمال التطبيقية. 
إن الغاية، إذن، هي التأسيس لوعي نظري حول آليات التفكير التربوي الأيقوني الذي يحيط بالخطابات الأيقونية، ويرصد أبعادها الجمالية والثقافية والتربوي، ويدرك تشابكها ببناء التعلمات وشخصية المتعلم.

الخطاب الأيقوني ومنهاج التدريس
إن بناء الدروس الحديثة وفق المقاربة بالكفايات- وهي مقاربة تربوية تقوم على إشراك المتعلم في بناء التعلمات، وتروم تحقيق شخصيته الفردية، وتدربه على حل المشكلات التي تواجهه- يقوم على وضعه في مشكلات تربوية، ومنها الوضعيات التدريسية، التي يعتمد كثير منها على السند البصري الأيقوني.
وفي هذا السياق تأتي دراسة د. الزهرة براهيم حول الحكاية المصورة بين التشكيل اليدوي والرقمي، التي شددت على غياب «الحكاية المصورة» في مقررات اللغة العربية، بالقياس إلى مقررات اللغتين الفرنسية والإنجليزية، لذلك أوصت دراستها بعد تجربة ورشة بإحدى الثانويات الإعدادية المغربية، بأهمية العودة إلى تدريس التربية التشكيلية بالمدارس المغربية، والانفتاح على فنانين وإنفوغرافيين ورسامي كاريكاتير داخل المؤسسات التعليمة في أنشطة الحياة المدرسية، وهو النهج الذي اقترحته د. منال بالحائزة العريبي، في إدماج التربية التشكيلية بالتعليم العالي.
ويقترح د. بدر بن سالم السناني إدماج اللعبة الإلكترونية في إنماء الذكاء اللغوي، فإضافة إلى دورها في «كسر رتابة الطرائق التقليدية فإنها تشجع على اكتساب المنطق والمهارات والمعرفة بطريقة ممتعة» (ص118). 
وتقترح دراستا د. نورة مستغفر ود. خالد مساوي تقديم أنموذج لمهارة «تحليل صورة» وتعزيز الثقافة الأيقونية عبر المشروع الشخصي للمتعلم، الذي يسمح له بالمشاركة في اختيار الصور والأيقونات التي تعبر عن شخصيته، وتستجيب لميوله، مع تعزيز الجوانب القيمية في استهلاك الصور، أو اختيارها، أو بنائها، وزيادة الدافعية الداخلية للنجاح والتميز.
وهو المنحى ذاته الذي سطره د. محمد سمكان في دراسته، عبر رصد أثر بناء الثقافة الأيقونية في بناء المشروع الشخصي للمتعلم، بوساطة إستراتيجيات داعمة يعدها «الأستاذ الرئيس» لفائدة متعلمي السلك الثانوي الإعدادي، وخاصة أنهم ينتمون إلى فئة عمرية ترتبط باستهلاك مفرط للأيقونات والصور.
كما اقترح د. عبدالرزاق المصباحي بناء ثقافة رقمية مضادة عند مدرسي المستقبل، وانطلاقًا من مؤسسة «المدرسة» لتمهير المتعلمين على التفكير الناقد، الذي يفهم الخطاب الأيقوني، فيميز بين الاستهلاك الجمالي عبر التذوق الذي يفضي إلى متعة التلقي من جهة، وبين تفكيك علاماته وعلاقاتها للكشف عن القصد الثقافي الذي بموجبه يتم تنميط الوعي وتسريب قيم سالبة من جهة أخرى. 
إن تنوع منظورات الدراسات أسهم في بلورة بدائل واقعية لتحيين الكتب المدرسية والمناهج الدراسية، حتى تواكب التحولات التي يشهدها عالمنا، فتصير المدرسة العربية في عمقها: فهمًا وتحليلًا وتحيينًا وتطبيقًا.

خاتمة
ساهم في كتاب (الثقافة الأيقونية في المناهج الدراسية بين الدعامات الورقية والرقمية: تصور للمغايرة والبدائل) باحثات وباحثون من المغرب وتونس وعمان، من المتخصصين في قضايا الديداكتيك والبيداغوجيا، فضلًا عن تخصصاتهم الأكاديمية في المسرح والنقد التشكيلي والثقافة الشعبية والنقد الثقافي والبلاغة... بما يجمع بين الخبرة الأكاديمية والتجارب المهنية، فهم أساتذة مكونون أو جامعيون أو مؤطّرون تربويون أو أساتذة ممارسون في التعليم المدرسي، بما أغنى الدراسات المقترحة في الكتاب.
ورغم أن الكتاب يدرس قضايا مشتركة تطرحها المدرسة العربية في علاقاتها بمستويات حضور الثقافة الأيقونية بمناهجها، لكنها دراسات تستحضر خصوصية المناهج التعليمية والتربوية في هذه البلدان، فضلاً عن التنوع اللغوي للدراسات بين اللغة العربية واللغة الفرنسية، التي قدم فيها الباحثون: د. محمد مهرير، و د. مصطفى أبو علي، و د.عبدالعزيز دادي، ود. نادية الوسدادي والأستاذة سارة رشدي، قراءات حول توظيف السند البصري والتوظيف التدريسي للصورة في تدبير دروس اللغة الفرنسية في الثانوي التأهيلي، فتنوع المنظورات والخبرات المهنية واللغات رهان اتخذته اللجنة العلمية للكتاب مؤشرًا لبناء رؤية متعددة الأبعاد، قمينة بإضاءة أهمية حضور الثقافة الأيقونية في مناهجنا الدراسية، وفي حياتنا اليومية التي تقصفنا بفائض الصور ■