الرواية الفائزة بجائزة الغونكور الفرنسية في 2021 قراءة في «الذاكرة الأكثر سرية للبشر»

الرواية الفائزة بجائزة الغونكور الفرنسية في 2021  قراءة في «الذاكرة الأكثر سرية للبشر»

  «عندما يموت شيخ في إفريقيا فإن ذلك بمنزلة احتراق مكتبة كاملة»، ذلك هو القول المعروف الذي ذهب مَثَلًا بعدما أطلقه الكاتب المالي الكبير «أحمدو إمباطي با» في ستينيات القرن العشرين. وذلك هو منطلق رواية الأديب السنغالي المبرّز محمد امبوغار صار نفسه، «الذاكرة الأكثر سرية للبشر»، الفائزة بجائزة الغونكور الفرنسية برسم سنة 2021، أرفع جائزة أدبية تمنح للأعمال السردية في لغة موليير. 

 

حظيت هذه الرواية، مثل جميع الكتب التي أصدرها المؤلف الشاب من قبل، باحتفاء نادر المثال في الساحة الثقافية والإعلامية الفرنسية، احتفاء يتفهّم القارئ أسبابه بمجرد ولوجه الصفحات الأولى من النص العميق الذي يمتح من أعماق الثقافة السنغالية بمكوناتها القبلية والشفاهية والأسطورية الشديدة التنوع، عَبْر موضوع متميز لا يمكن إلا أن يذكّرنا بقوة بالرافد العربي الإسلامي الذي يشكّل مكونًا أساسيًا من مكونات الخيال الجمعي في هذا البلد الإفريقي: موضوع ضياع النص واقتفاء أثره بواسطة نص آخر يلعب على حبل غواية اللغة وسحر البيان، فالرواية لا تتحدث إلا عن تأثير اللغة على الواقع وعلى مصير الكائنات موتًا وحياةً وذكرى وتراثًا، وعن الإشكالات الكبرى لعلاقات للمثاقفة بين جنوب العالم وشماله، مع تمكّنٍ مذهل من تقنيات السرد التي تنقل القارئ إلى أجواء سحر الحكواتي الشفاهي وتجعل الدوائر الملغزة تدور به وعليه قبل أن تفتح في وجهه أسرارها بهدوء ورويّة.

حبكة الرواية
تنطلق حبكة الرواية الأساسية من بحث أدبي تقوم به الشخصية الرئيسية، شخصية  الكاتب الشاب المعاصر لنا دييغان لاتير فاي، المبْتَعث من بلاده السنغال إلى باريس كطالب دكتوراه، والذي يهمل إتمام رسالته الأكاديمية الأصلية، لا عن كسل، لكن لشغفه بقضية كاتب سنغالي آخر قدِم إلى باريس من قبل، في سنة 1938، وكتب رواية يتيمة حملت عنوان «المتاهة اللاإنسانية» حظيت باهتمام طيّب من الصحافة الغربية، وتم ترشيحها بدورها لجائزة الغونكور المشهورة، قبل أن تشنّ عليها أقلام صحفية فرنسية يمينية حملة نقد عنيف وأن «يكشف» أكاديمي فرنسي كبير أن الرواية كلها كُتِبت عبر نقل جمل ومقاطع من مجموعة من الأعمال والنصوص الأدبية والفلسفية الكبرى للثقافة الغربية، عبر تقنية الكولاج، لسرد قصة سنغالية محضة تحكي عن حاكم سنغالي متجبِّر يحرق جثث معارضيه ويغرس في رماد كل جثة شجرة بحديقة قصره التي يحب التجوال بين أرجائها، إلى أن كبرت أشجار الحديقة مع توالي عمليات اغتيال المعارضين، وصارت غابة/متاهة ضاع داخلها الديكتاتور يومًا، بعدما فشل في إيجاد الطريق للخروج منها. كما سيكتب أكاديمي فرنسي آخر أن صاحب رواية «المتاهة اللاإنسانية»، سليمان بن الحسن مداغ، لم يفعل أكثر من نقل قصة «المتاهة» من إحدى الحكايات الشعبية الشفوية لقبائل «الصيريريين» البدوية القاطنة في الغابات الواقعة بين جنوب العاصمة داكار وحدود غامبيا، عِلْمًا بأن الأكاديمي المرموق لم يسبق له زيارة السنغال قط! إثْر ذلك تقوم مجموعة من دور النشر الغربية التي استقى منها الكاتب سليمان مداغ الجمل والمقاطع والاستشهادات لكتابة «المتاهة اللاإنسانية» برفع دعاوى قضائية، بتهمة السرقة الأدبية، على دار النشر التي أصدرت «المتاهة» وأخرجت صاحبها من الخمول إلى الشهرة. فيحكم القضاء لصالح الخصوم ويقضي بسحب «المتاهة» من المكتبات وإتلاف نسخها ودفع ناشرها غرامات وتعويضات مادية معتبرة لضحايا «السرقة الأدبية». 
غير أن السر الأكبر لم يعُد مرتبطًا باستحقاق رواية «المتاهة» صيْتها ومدى صحّة ما كُتِب ضدها في أجواء ثلاثينيات القرن العشرين المفعمة بالعنصرية ورفض فكرة أن يكتب مبدع زنجي نصًا يضاهي أكبر الأعمال الغربية، وإنما بمصير كاتبها سليمان نفسه، الوافد إلى باريس في الأصل بحثًا عن والده حسن مداغ الذي تطوّع من قبل للدفاع عن فرنسا والقتال إلى جانبها في الحرب العالمية الأولى.  وها هي الحرب العالمية الثانية تقوم، ويختفي في أتونها الابن القاص سليمان بدوره، لذا يقوم السارد الرئيسي دييغان لاتير فاي، المعاصر لنا، بتقفّي أثر سليمان والبحث عن مصيره ومصير نصه الروائي «المتاهة» الذي لم تنج منه إلا نسخة واحدة فريدة.  هذا هو باختصار شديد موضوع رواية محمد امبوغار صار «الذاكرة الأكثر سرية للبشر». فما مكامن القوة في هذا النص؟

نص متميز وكاتب مبدع
يتميز نص امبوغار صار بكونه يمتح، على مستوى السرد، من تقنيات تنتمي إلى أجناس أدبية متنوعة ومتباعدة، فالكتاب يفتح آفاق قراءته أولًا بتقديم نفسه كجزء من تحقيق يذكّرنا كثيرًا بالرواية البوليسية التي تستند إلى عمل المحقق الدؤوب على جمع المعطيات المتفرقة الدقيقة وتركيبها للوصول إلى احتمالات كثيرة يتم تتبّعها وتمحيصها قبل اختيار أقربها إلى المنطق وقبل تجلّي الحقيقة كاملة في الصفحات الأخيرة. وهي تقنية يقودها السارد هنا بتمكن وبراعة مبهرة.
      كما أن الكاتب يمتح أيضًا ببراعة باذخة، من تقنيات أدب الرحلة عبر الانتقال بين أماكن متباعدة ومتناقضة ليستعرض عبرها المشترك الإنساني في خضم الخلافات والأحقاد، إذ نتتبّع معه مراحل سيرة حياة سليمان مداغ منذ نعومة أظفاره بالريف السنغالي، ودراسته في إحدى مدارس المبشرين الفرنسيين وقراره البحث عن قبر أبيه الذي سقط في الحرب العالمية الأولى «ضحية حرب بين البيض لم تكن حربه ولا قضيته»، الشيء الذي يقوده إلى باريس في سنة 1938.  غير أن ظروف الحرب العالمية الثانية والتعريض المشين الذي تعرّض له الكاتب سليمان مداغ على يد مجموعة من النقاد الغربيين الرافضين إمكانية وجود عبقرية سردية إفريقية قادرة على محاورة النصوص المُؤسِّسة للحضارة الغربية، ظروف تجتمع كلها لدفع سليمان إلى الاغتراب مرة أخرى في دول أمريكا الجنوبية قاده إليها فراره بعد انتقامه (المفترض) من كل النقاد اليمينيين الذين دمّروا حلمه الأدبي، وبعدما لقوا جميعًا مصائر دراماتيكية تتراوح بين الانتحار والاغتيال. هكذا يقرر الروائي المحبط الاختفاء تمامًا من رادارات الأدب والنشر، بحثًا عن الضابط النازي الذي كان وراء اعتقال ناشر «المتاهة» خلال الاحتلال الألماني لفرنسا. قبل أن تكشف الصفحات الأخيرة عن عودته مرة أخرى إلى مسقط رأسه في قريته الأصلية بالسنغال بعدما جاب الآفاق غارقًا في حالة من اليأس والمرارة، كارهًا الأدب والأدباء والكتب والناشرين والكتّاب. وبعد عودته للريف السنغالي سيعيش ما تبقى له من العمر على منوال الآباء والأجداد نفسه، يصبح عرَّاف القرية ووليَّها الصالح الذي يداوي جراح النفوس والأبدان بالطرق التقليدية التراثية، ويعمّر إلى أن يبلغ مئة واثنتين من السنين، ويُدفن في جبَّانة القرية إلى جوار قبر عمه العرّاف السابق الحسين بن مداغ ديوف، قبالة شجرة المانجو التي دأبت والدته «موسان» على الجلوس تحتها والبكاء على مصير زوجها الذي قتل في حرب البيض إلى أن فقدت عقلها واختفت من  دون أن يُعرف لها أثر.

عمل توثيقي واقعي
يتم تقديم كل ما سبق في سياق كورالي متنوع الأصوات حيث يعمد السارد الرئيسي، باعتباره قادمًا من مجال البحث الأكاديمي، إلى تضمين الرواية نصوص رسائل تبادلتها الشخصيات، ومقالات مفترضة نشرتها الصحافة سابقًا حول كتاب سليمان، وصفحات من دراسات أدبية كتبها نقّاد من آفاق مختلفة حول الموضوع، بهدف إضفاء نوع من أجواء العمل التوثيقي الواقعي على الرواية، وتحقيق مزيد من تداخل الأجناس الأدبية والصحفية داخلها، وهو ما يمنحها خصوصية كبيرة ويزيد من متعة قراءتها بفعل تعدد الأصوات بها وصعوبة توقّع مآل أحداثها المثيرة المتوالية التي تحبس الأنفاس على امتداد صفحاتها الـ454.
على مستوى الأمكنة، تنقلنا الرواية عبر أجواء متنوعة تمتد على ثلاث قارات، من باريس إلى أمستردام وبوينس آيرس في الأرجنتين ولاباث في بوليفيا قبل العودة إلى العاصمة السنغالية داكار وقرية عائلة مداغ، مسقط رأس سليمان بن الحسن ديوف مداغ ومرقد جثمانه إلى جانب قبر عمه الحسين، بينما يظل جثمان أبيه الحسَن في الغرب البعيد من دون مدفن ولا مزار، في إشارة، لا تخفى دلالتها، إلى محاذير الاستلاب ومخاطر المثاقفة. ولا نكتشف نهاية مسار ومصير صاحب رواية «المتاهة اللاإنسانية» فعلًا إلا في الصفحة الأخيرة من نص محمد امبوغار صار، «الذاكرة الأكثر سرية للبشر»، التي تصبح في النهاية قصة انكتاب وانمحاء نص «المتاهة». هكذا تنغلق دورة السرد بإقامة جسر من الخيال المجنّح بين النص الذي ضاع والنص الذي جاء لتخليد ذكرى سابقة، جسر بين التراث الشفاهي الإفريقي المتوثّب الحي من جهة، وأكبر المتون الإنسانية الخالدة من جهة أخرى، جسر يبني الكاتب الشاب محمد امبوغار أسسه على دعامات منتقاة من أجناس القصة البوليسية وأدب الرحلة ودراسات جماليات التلقي المعاصرة والبحث الوثائقي، ويضع في واسطة عقده شحنة ضخمة فوَّارة من الخيال الإفريقي تمتح عصارتها من الجذور العميقة للثقافة الشعبية الشفاهية السنغالية. وهذا ما يعطي في النهاية وصفة سحرية تأخذ بلبّ القارئ وتمارس عليه ما اصطلح الغربيون المحدثون تسميته غواية أو «لذة النص» وما أوجزه التراث العربي الإسلامي من قبل في عبارة: سحر البيان ■