لماذا اخترت هذه القصص؟

لماذا اخترت هذه القصص؟

شاركت في مسابقة هذا الشهر خمس عشرة قصة قصيرة لمبدعات ومبدعين من 8 دول عربية هي: مصر والمغرب وسورية ولبنان والأردن والسعودية والبحرين وعمان، منها 8 قصص لمبدعات شابات، و7 قصص لمبدعين شباب.
تراوح مستوى القص تبعًا لمستوى فهم المشاركات والمشاركين ماهية القصة القصيرة وأركانها؛ فبعض القصص لم يكن سوى طرفة، أو موقف وعظي، أو أمثولة للعبرة، أو أقرب إلى المقال، بينما الأخرى يفهم أصحابها ما تتطلبه القصة القصيرة من فكرة وحبكة وإدارة للصراع الدرامي والشخصيات مع التركيز على اللحظة القصصية الملتقطة للتعبير عن فكرة القصة.  وهنا نجد أن البعض رغم فهمهم هذا كتبوا قصصًا جيدة، لكنها تناولت فكرة معتادة بأسلوب تقليدي، فلم تضف إلى القارئ ولم تدهشه؛ لذا حرصت على اختيار القصص التي تتناول فكرة غير مطروقة قدر الإمكان، وتتماس مع واقع القارئ المعاصر، ويحاول كاتبها، أو كاتبتها، أن يلعب بأدوات كتابة القصة قدر استطاعته.

المرتبة الأولى: «سيلفي» لجاسم الحمود ــ سورية
إذا كان البعض يتحدث بأسى عن تقطع أواصر العلاقات الأسرية؛ فإن هذه القصة تتناول تفتت هذه الأواصر تمامًا، بل ترصد المنحى غير الأخلاقي وغير الإنساني الذي اتخذته هذه العلاقات لدى شريحة كبيرة من الناس.
فالرجل المريض ليس له في المدينة سوى زوجته، حالته المرضية تستدعي وجوده في حجرة الرعاية الفائقة، من دون قدرة على الحركة بسبب الأجهزة الطبية الكثيرة المعلقة به، يتواصل مع زوجته عبر زجاج الحجرة عندما تزوره، ويشعر بالحزن لأن جيرانه في الحجرة يحظون بزيارات من الأهل والأصدقاء الذين يشيرون إليهم بأيديهم ويبتسمون لهم، لكن الأهم أنهم جاؤوا يزورونهم، أي إنهم يشعرون بهم ويهتمون لأمرهم.  يتمنى الرجل لو أن له ابنًا يزوره، أو صديقًا يتذكره، وتتحقق أمنيته بزيارة ابن أخيه له، هذا الشاب الطيب الذي جاء من مدينة بعيدة ليزور عمه ويطمئن على صحته، وربما ليبقى معه بضعة أيام يرعاه فيها.  لكن سعادة الرجل لا تكتمل، فقد كان كل ما يشغل الشاب هو التقاط صورة «سيلفي» مع العم المريض ليضعها على صفحة الفيس بوك الخاصة به، مع تعليق أجوف يبين اهتمامه بعمه، ليحصد بذلك الإعجابات والمتابعين، وربما يصل إلى أن يكون «تريند» لنبله وإنسانيته المزعومة.  وتكون المأساة الأكبر بالنسبة للرجل المريض وزوجته، أن الشاب لم يأتِ إلى المدينة بقصد زيارة عمه أصلًا، بل جاء لحضور حفل زفاف صديق له، وقرر المرور  لدقائق على عمه لالتقاط الصورة!
ربما أهم ما يميز هذه القصة؛ غير موضوعها، هو وعي الكاتب بضمائر الحكي فيها، فالقصة كلها تقدم بضمير الراوي العليم، عدا الفقرة التي يرى فيها الرجل ابن أخيه، تكون على لسان المريض نفسه ليعبر عن فرحته بهذه الزيارة المرتقبة، وهو ما حقق حيوية للقصة، وساعد القارئ على النفاذ إلى عمق أفكار ومشاعر الرجل.  كما جاء الحوار خاطفًا ومعبرًا عن حالة التبلّد الإنساني التي يمثلها الشاب عند اختياره أفضل صورة له مع عمه لنشرها على صفحة الفيس بوك، وهو يطلب من زوجة عمه المصدومة أن تشاركه في الاختيار!

المرتبة الثانية: «ممنوع من الصرف» لحنان العطار  ــ  مصر
استطاعت الكاتبة أن تقدم مأساة حياة بطلتها من خلال وصف التفاصيل الصغيرة في مطبخها، فصرف الحوض المسدود ومحاولات البطلة لتسليكه ورفض الزوج مدّ يد العون..  كل ذلك يشير إلى واقع العلاقة الزوجية المأزومة التي باتت مجرد حبر على ورق، لدرجة أن الطفلة تنصح أمها باستبدال الزوج/الأب بآخر، أكثر طيبةً وحنانًا مثل أبطال المسلسل الهندي.
سنوات طويلة تستغرقها البطلة في التردد، فلا تفعل ما ترغب فيه نفسها، ويأتي الفعل البدني بتسليك صرف الحوض حافزًا لها ليقضي على التردد، ثم يأتي اكتشافها مفقوداتها خلف الثلاجة واستعادتها كاستعادة أحلامها ورغباتها وآمالها التي تركتها تضيع منها في غمرة التردد والأسى، ولا يخفى أن الثلاجة رمز لما آلت إليه حياتها مع هذا الزوج من برودة وغربة لا تطاق.
يأتي فعل البطلة البدني وعثورها على مفقوداتها إشاريًا ومعبرًا عن استردادها لنفسها وقدرتها على الفعل، لذلك تقضي على ترددها تمامًا، وتتصل بزوجها، وتخبره أنها توافق على الطلاق، فالطلاق هنا ليس نهاية حياة بل هو استرداد للحياة التي فقدتها بالفعل بسبب زواج ليس فيه توافق ولا سعادة، وهو بداية لحياة حقيقية تؤكد فيها البطلة ذاتها التي استعادتها، بعد أن وثقت بما تريده، وعرفت ما تستطيعه.
لعل أهم مصادر قوة هذه القصة هو الحكي البسيط الخارجي الذي يعبر إشاريًا عن صراعات الذات وأفكارها وهواجسها، وهو ما يجعل الصورة القصصية رغم بساطتها عملًا عميقًا في رمزيته، وهي رمزية شفيفة غير مباشرة، لكنها لا تستغلق على فهم القارئ في الوقت نفسه.

المرتبة الثالثة: «حتم» لنسرين خليل ــ مصر
تبدأ القصة بداية واقعية، وبأفكار وهواجس معتادة حول مشاكل الزوجة/ البطلة مع زوجها، ورغبتها في الطلاق، وتخيلها ما ستقوله أمها، وما ستفعله لتعيدها إلى بيت الزوجية.  تهرب الزوجة مما يمكن أن تفعله أمها، تسير في الشوارع على غير هدى، لكنها تقرر من نفسها أن تعدل عن الطلاق مؤقتًا عندما تشعر بأن موعد عودة الأولاد من المدرسة قد حان.
ثم تأتي النقلة الكبيرة في القصة عند عودة الزوجة إلى البيت، إذ نكتشف أنها ماتت بالفعل، وأن الزوج يرجوها أن تذهب لأن الأطفال أخيرًا تقبلوا موتها.  ولا تكتفي الكاتبة بذلك، بل تزيد دهشة القارئ؛ فالزوج هو الوحيد الذي يرى الزوجة الميتة، لأنه هو أيضًا ميت، لكنه لا يزال مع أطفاله لأنهم لم يصدقوا موته بعد.
يبدو جمال القصة في حكيها لغير الواقعي بالنبرة ذاتها التي حكت بها الجزء الواقعي، إضافة إلى إثارتها أسئلة فلسفية ووجودية حول ماهية الموت، وهل هو موت الجسد أم غياب الشخص من ذاكرة من يحبونه؟ وهل الحب أقوى من الكراهية؟ فحب الزوجة للأبناء أقوى من كراهيتها للزوج، لذلك تعود إلى المنزل.
ربما أجد اسم القصة غير مناسب لها وغير جاذب للقارئ ولا يقدم له مفتاحًا لقراءتها. واسم الإشارة (تلك) في أول جملة بالقصة لا داعي له.