في حضرة مقام... أزرق

في حضرة مقام... أزرق

أراه الطفل جيدًا، يبدأ عشريته الثانية في قريته المندسة بين نخيل وجبال.
بين كفيه الصغيرتين، لكنهما خشنتان على أية حال، ثمة مجلة تندس أيضًا بين مقتنياته من مجلات شتى ألقت بها العاصمة بين يديه، وهو يحب تلك العاصمة التي رأى فيها المصباح الكهربائي وعددًا كبيرًا من السيارات، وتلك الشاشة التي تضيء على أشكال شتى اسمها التلفزيون، بينما قريته ما زالت تشعل قناديلها حين يأتي الليل، وتأوي إلى فراشها باكرًا لأنها لا تعرف التلفزيون، وإذا مرت سيارة في الحارة يوثّق على أنه حدث... يستحق مغادرة البيوت الطينية فورًا، والبحث عن مصدر الصوت، وقد كان هادرًا بما يكفي.
كبر الطفل قليلًا، وعرف بيتهم الراديو، وانسابت إليه الأغنيات عبره، فهجس قلبه بـ«غريب» عبدالكريم عبدالقادر، و«باختصار» فإنه يجمع الزمن بين كفيه، اللتين ما زالتا صغيرتين، لكنهما تخشوشنان بفعل العمل في حقول النخيل، ولم يعرفا من الألعاب إلا ما يسمح به السعف وخطوط يرسمها على الأرض فيتقافز فوقها، يغني مع رباب «يا ساحر الصوت قول».
وسمع عن «الأزرق» الذي يخطف البطولات، وجاسم يعقوب الذي يهز الشباك، وعرف عن أسماء كروية تلامس شغفه بالكرة المستديرة، فيتعرف على أسماء: فتحي كميل وحمد بو حمد والطرابلسي ومحمد البلوشي وقائمة طويلة.. يقترب بسمعه من صوت المذياع، يتتبع صوت «المعلق»، فيحب هذا الأزرق البطل أكثر، وقد غرّد في سماء العالمية، فكانت أغنيات الفرح تنساب بأصوات عذبة «كوييييت... كويييت».
في خمسينيته يتذكر، كما يهيم بالتذكر، فيستعيد ذلك الـ«غريب» و«الصوت الجريح»، ويغني «يا سعود باقي من الشهر خمسة وعشرين ما شفت خلي»، ويتنادى إليه سعود آخر فيمضي بالصوت «يا سعود أنا عيني سهيرة ما تذوق المنام»، ولا يعنيه من أي خليج تأتي كل تلك الأصوات، لكن يحسبها جميعًا على «الديرة» التي أحبها، بجمال عشقه للون الأزرق الذي يكاد يزهر على قميص جاسم يعقوب حتى وهو يستعيد اللون البرتقالي لناديه القادسية.
وكلما شاهد النجمة سعاد عبدالله تذكر توأمها حسين عبدالرضا في اسكتش «شهر العسل» الذي سمعه عشرات المرات حتى حفظه عن ظهر قلب، فتخفُت طاقة «البطارية»، لكنه ينتشي قوة وهو يسير لاحقًا على «درب الزلق» برفقة «خالتي قماشة»، مكررين «باي باي لندن» بقفشات جيل ذهبي من رموز الفن الكويتي.
يرى، ذلك منذ كان طفلًا، زرقة الكويت في كل مشروع فكري وفني وحضاري شكّل وعي أجيال، ممن تربت معرفيًا على مجلة «العربي» وإصدارات عالم المعرفة وسلسلة إبداعات عالمية ومن المسرح العالمي وغيرها.
حين كبر الطفل أكثر، أكثر مما ينبغي، كان حفيده يشاغبه، وهو يكتب هذه الكلمات، وعينه على الصفحة الأخيرة في مجلته الأثيرة... «العربي» التي تمتد ضفافها بزرقة بحر الكويت وسمائها من صفحتها الأولى و«إلى أن نلتقي» على ضفافها بكل حلم خبأته، كبر الصغير، وقد كبرت الكفان معها، لكنهما لم يعودا بتلك الخشونة ■