تاريخية المفهوم العلمي للثقافة
لا يقف الإنسان عند حدوده البيولوجية بل يتعداها نحو ما هو ثقافي، وهذا التعدي يمكّنه من التأقلم مع محيطه، ومن تأقلم المحيط معه أيضًا، لذلك كان الإنسان موضوع دراسة من قبل العلوم الطبيعية التي تهتم بجانبه البيولوجي، والعلوم الاجتماعية التي تهتم بالجانب الثقافي، فهما جانبان متداخلان فيه بشكل صميمي، فممارسة الجنس أو النوم أو الأكل أمور لا تتم بالطريقة نفسها داخل كل المجتمعات، وإنما لكل مجتمع طريقته التي تحددها ثقافته الخاصة، ما يدفعنا إلى الإقرار بأن كل سلوك بيولوجي هو ثقافي في الآن ذاته.
رغم إمكانية التوافق حول ما قيل سلفًا، إلا أن إفراد مفهوم الثقافة بالقول بغية تحديد دلالة معينة له يثير قدرًا كبيرًا من الغموض، لذلك خُصّص الفصل الثاني من كتاب «مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية»، لصاحبه دنيس كوش Denys Cuche، وترجمه إلى العربية الدكتور منير السعداني، وراجعه الدكتور الطاهر لبيب، وقد صدر عن مركز دراسات الوحدة العربية، وهو يتكون من سبعة فصول ومقدمة وخاتمة، وهي فصول تحاول أن تدرس حضور مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية، خُصص هذا الفصل لدراسة أطوار تشكّل الحمولة الدلالية العلمية لهذا المفهوم، وهو تشكّل ينبغي أن يكون واضحًا لدى الباحثين في ظل التناقضات التي تحفل بها استعمالاته في مجالات مختلفة، وقد عبر الدكتور فؤاد زكريا عن هذا الأمر قائلًا: «إن هناك احتمالًا كبيرًا في أن يكون أي جدال حول الثقافة في حقيقته جدالًا بين أشخاص لا يتحدثون جميعًا عن شيء واحد».
ساهم التفكير الوضعي في وضع أسس دلالة علمية لمفهوم الثقافة، خصوصًا عندما تجاوز هذا التفكير حدود العلوم الطبيعية، مسهمًا بذلك في ظهور علم الاجتماع Sociologie كما هو واضح لدى أوغست كونت Auguste Comte، كما أسهم في ظهور الإثنولوجيا Ethnologie، التي حاولت أن تجد تفسيرًا لمسألة التنوع الإنساني، عبر تجاوز التفسيرات البيولوجية.
انبثق في هذا السياق مفهوم الثقافة في معناه الإثنولوجي الوصفي، ورافقته إشكالية الحديث بلغة الثقافة أم بلغة الثقافات، إذ من الإثنولوجيين من أعطى الأولوية للوحدة على حساب التنوع متأثرًا بالنهج الوضعي، ومنهم من قام بالعكس بتأثير من خصوصيات الظواهر الثقافية الإنسانية التي تختلف عن الظواهر الطبيعية، مما أعطى تصورين للثقافة، الأول: كوني ، والثاني: تخصيصي.
تايلور والتصور الكوني للثقافة
عرف إدوارد تايلور الثقافة بأنها ذلك «الكل الذي يشمل المعرفة والمعتقدات والفن والأخلاق والقانون والعادات وكل القدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان بوصفه عضوًا في المجتمع».
يتميز هذا التعريف حسب دنيس كوش بكونه تعريفًا موضوعيًا خالصًا، فهو غير معياري، وهو يقطع مع التصورات الفردانية، ويعبر عن كلية الحياة الإنسانية الاجتماعية، ويؤمن بأن الثقافة مكتسبة، وأنها كلمة محايدة تمكّن من التفكير على نطاق الإنسانية كافة.
لقد آمن تايلور بالوحدة النفسية للإنسان، وبقدرة الإنسان على التطور، من ثم سيقول في كتابه «الثقافة البدائية» إن الشعوب البدائية تمثل الثقافة الأصلية الخاصة بالإنسانية، التي مرت بها الشعوب المتحضرة يومًا من الأيام.
هذه الفكرة في نظرنا ستشكل سبيلًا ميسورًا سيركبه دعاة الاستعمار تحت شعار تعميم الثقافة والمساهمة في تنمية الشعوب الأخرى، وهو ما واجهته خطابات التعددية الثقافية التي شكلت حسب يمنى طريف الخولي «خطابًا فلسفيًا رصينًا مسلحًا بصياغة مفاهيم دقيقة، وبترسّم وتحليل استراتيجيات خطابية وواقعية فعالة لاستيعاب التعددية والتشاركية واجتثاث المركزية والاستعمارية».
اعتمد تايلور منهج تفحص البقايا، مؤكدًا أن دراسة الثقافات المتفردة لا تستقيم دون إقامة مقارنة بينها، فبعضها يرتبط ببعض، وبذلك سيهاجم أولئك الذين يقيمون قطيعة بين الإنسان المتوحش الوثني وذلك المتحضر التوحيدي، فالاختلاف بينهما لا يعدو كونه فارقًا في درجة التقدم.
هكذا لم تنزع تطورية تايلور حس النسبية، إذ نجده يميل في بعض الأحيان إلى الانتشارية، فالاشتراك في السمات الثقافية يمكن أن يكون سببه انتشار من ثقافة نحو أخرى.
بوا والتصور التخصيصي للثقافة
انشغل فرانز بوا كثيرًا بالجغرافيا وقاده ذلك إلى الأنثروبولوجيا Anthropologie بعد ملاحظته أن المحيط الاجتماعي تحدده الثقافة أكثر مما يحدده ما هو فيزيائي، حيث أنجز عدة تحقيقات إثنوغرافية Ethnographie حول هنود الساحل الشمالي لكولومبيا، واهتم كثيرًا برصد الاختلافات بين المجموعات البشرية، مؤكدًا أن أصلها اختلاف ثقافي وليس عرقيًا. وأكد أنه لا توجد خصائص عرقية ثابتة، بل هي في تغير مستمر حسب الظروف الطبيعية، من ثم نفى القول بوجود صلة بين السمات الفيزيائية والسمات الذهنية، وتبنى مفهوم الثقافة لأنه يعبر من وجهة نظره عن التنوع البشري ويشكل تجاوزًا لمفهوم العرق Race.
أدى به ذلك إلى التحدث عن الثقافة بصيغة الجمع، بدلاً من الثقافة بصيغة المفرد، فالثقافة ثقافات. انتقد في هذا الصدد التصور التطوري الذي قال به تايلور، وكذلك التصور الانتشاري للثقافة، أي إنه كان يستبعد كل تعميم وعني بتسجيل دقائق الأمور خلال دراسته ثقافات بعينها، حتى تفاصيل التفاصيل، وهو ما جعله يخوض تجربة الإقامة المطولة مع من يريد دراستهم.
جاء بوا بتصور أنثروبولوجي واضح عن النسبية الثقافية، فكل ثقافة بالنسبة إليه واحدة ومخصوصة، ولا يمكن تفسير عادة معينة إلا من خلال إحالتها إلى سياقها الثقافي، إذ لكل ثقافة أسلوب يعبر عن نفسه عبر اللسان والمعتقدات والعادات والفن، ويؤثر في الأفراد.
بناء على ذلك حدد بوا مهمة الإثنولوجيا في بحث الصلة بين الفرد وثقافته، مؤكدًا أن كل ثقافة تعبر عن طريقة متفردة ينبغي أن تحض بالتقدير والحماية، ومن ثم كان داعيًا إلى التسامح الثقافي.
الثقافة لدى مؤسسي الإثنولوجيا الفرنسية
بقي مفهوم الحضارة Civilisation هو السائد في فرنسا، وتأخرت الإثنولوجيا في الظهور بسبب الأولوية التي أعطيت لعلم الاجتماع خلال القرن التاسع عشر، فعلماء الاجتماع، حتى الإثنولوجيون، تشبعوا بكونية الأنوار المجردة، واعتزلوا التفكير في التعددية، وكان الاستعمار يتخذ «رسالة فرنسا الحضارية» شعارًا له، إضافة إلى النزاع بين ألمانيا وفرنسا، ثقافة/ حضارة. هكذا غاب مفهوم الثقافة إلى أن نمت إثنولوجيا ميدانية مع مارسيل غريول، وميشيل لوريس، فنحتت أدواتها ومفاهيمها الخاصة وأدرجت مفهوم الثقافة بحمولته النسبية.
1 - دور كايم والمقاربة الموحدة للظواهر الثقافية:
لقد جاء إميل دوركايم Émile Durkheim بعلم اجتماع ذي وجهة أنثروبولوجية، ساعيًا إلى فهم الواقع الاجتماعي في كل أبعاده، بما في ذلك البعد الثقافي، وقد ساهم في تخليص مفهوم الحضارة من حمولته، مؤكدًا أنه يتضمن فكرة «تعدد الحضارات من دون أن يعني ذلك إبطال القول بوحدة الإنسان»، فالإنسانية واحدة وكل الحضارات لها إسهامات فيها، فقد بيّن رفقة مارسيل موس في مقالتهما المشتركة حول بعض الأشكال البدائية للتصنيف De quelque formes primitives de la classification، أن للبدائيين قدرة كاملة على التفكير المنطقي، وهو ما أكده أيضًا في كتابه «الأشكال الأولية للحياة الدينية»، كما تجنب النظرية التطورية بقوله إنه ما من دليل قائم يثبت أن حضارة الغد ستكون امتدادًا لحضارة اليوم.
لقد حاول تخليص المصطلح من عموميته الضبابية التي كان يختص بها، مكسبًا إياه محتوى إجرائيًا، ومدافعًا عن وجود حضارات مختلفة، مؤكدًا أولوية المجتمع على الفرد من خلال فكرة أن الوعي الجمعي يتشكل من المثل والقيم والعادات السائدة، وهو خارجي ومتعالٍ، وهو الذي يحقق وحدة المجتمع، وصارت بذلك الثقافة جسمًا فوقيًا.
2 - ليفي برول والمقاربة الاختلافية:
اهتم برول Lucien Lévy-Bruhl بالاختلاف الثقافي بعد صدور كتابه «الوظائف الذهنية في المجتمعات الدنيا»، حيث حاول فيه دحض النظرية التطورية المدافعة عن أطروحة التقدم الذهني، وهو ما يعبر عنه قوله «إذا ما وقع الكف عن التأويل المسبق للنشاط الذهني للبدائيين... على أنه طفولي ويكاد يكون مريضًا... فسيبدو عاديًا في الظروف التي ينشط فيها».
كما دخل في جدال عميق حول مسائل الآخر والهوية الثقافية مع دوركايم وتايلور، مؤكدًا في السياق نفسه أن اختلاف الذهنيات لا يقصي الاتصال بين المجموعات البشرية، بفضل انتمائها إلى إنسانية مشتركة تربطها وحدة نفسية.
خاتمة
يظهر إذن أن الولادة العلمية لمفهوم الثقافة ولادة عسيرة، إذ ليس هنالك اتفاق شامل حول ما يعنيه هذا المفهوم، غير أننا بإمكاننا أن نؤكد، بناء على ما سبق، أن الثقافة تحيل على كل ما هو مكتسب وقابل للإكساب، فهي نتاج تفاعل العقل مع الطبيعة، وتفاعل الأجيال البشرية، لا تحيل الثقافة إلى ما هو مادي وإن كانت تظهر عبره، فهي ذات سمة فوقية، إنها وصف علمي للفاعلية الإنسانية التي تختلف من مجتمع إلى آخر، يوحد بينها الوجود، وتختلف باختلاف أنماط هذا الوجود ■