نيقولاي فاسيليفيتش جوجول والأنفس العائشة حياتها

نيقولاي فاسيليفيتش جوجول والأنفس العائشة حياتها

يحتل الأدب الروسي في نفس وعقل القارئ العربي مكانة متميزة لما يحمل من خصائص ورؤى ومحددات فكرية تجد صدى وتلقى اهتمامًا متزايدًا، ما يدفعنا إلى تأمل هذه الظاهرة ومحاولة الوقوف أمامها لمعرفة طبيعة هذا الصدى الذي وجدناه في تفهّم المتلقي العربي لخصائص هذا الأدب الذي يعتبر من أهم وأبرز الآداب العالمية في كتابها ونصوصها التي نشطت في العالم العربي خلال فترة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي على وجه الخصوص.

 

السؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو: تُرى ما الذي يجذب القارئ العربي دومًا إلى قراءة كتابات «بوشكين»، و«جوجول»، و«تولستوي»، و«دوستويفسكي»، و«تشيخوف»، و«جوركي» وتورجنيف وشولوخوف وبولغاكوف وغيرهم من الأدباء الروس العظام؟
الإجابة عن هذا السؤال ربما من وجهة نظري الخاصة أن هناك ثمة علامة فارقة تميز الأدب الروسي عن غيره من الآداب الأخرى وهي ازدهار الأدب الساخر في هذا الأدب، أو ما يمكن أن نقول عنه أدب العدسة المكبرة التي ترى الكثير من السلبيات والمفاسد الواقعية خلف هذه العدسة، وهي ظاهرة طبيعية ربما نجدها تتجذر داخل النفس البشرية التي عني بها الأدب الروسي خاصة في أعمال وكتابات رواده الأوائل، والذين سار على نهجهم الكثير من كتّاب العالم الثالث والعالم العربي بصفة خاصة.

تأثير على الأجيال
   ولعل الحديث عن أحد هؤلاء الكتّاب الروس، الذين أثروا آدابهم بصفة خاصة وانعكس ذلك على الآداب الأخرى بصفة عامة، هو الكاتب نيقولاي فاسيليفيتش جوجول صاحب القصة الشهيرة «المعطف»، التي قال عنها كتَّاب روسيا إنهم جميعًا قد خرجوا منها، ما يعطي دلالة على عظمة هذا الكاتب وتأثير كتاباته على الأجيال التي جاءت من بعده من الكتّاب الروس العظام.  ويكفي أن يقول عنه دوستويفسكي:  «ضحك جوجول وأضحكنا معه طوال حياته، وأطلنا نحن الضحك حتى بدأنا نبكي في النهاية». وقد صدر عن جوجول العديد من الكتب النقدية، إلا أن أبرزها ما كتبه الكاتب الفرنسي هنري ترويا تحت عنوان «جوجول... سيرة نفس ممزقة» وهنري ترويا كاتب فرنسي من أصول روسية، الكتاب يحكي حياة جوجول منذ مولده حتى رحيله.  ويقول عنه ترويا: إنه أشبه برواية عذبة تقدم لنا حياة جوجول صاحب الروائع التي عرفها القارئ في كل مكان «المفتش العام»، «المعطف»، «الأنف»، «تاراس بولبا»، وصاحب العمل الكبير «الأنفس الميتة». وهو غني عن أي تعريف، قال عنه الناقد «بولينيسكي» إن جوجول يقف في المكان الذي خلفه بوشكين»، فهو حياة غنية ومضطربة وصلت حد الجنون، وعطاؤه المتنوع قلما نجده بهذا التنوع والعمق في التعبير عن حركة الحياة والتاريخ، كل ذلك في إطار أدب ساخر رفيع يزلزل الأخطاء أينما وجدت، فهو الذي قال:  «السخرية هي أكثر الأشياء جدية، وإن الذي لا يخاف فهو يخاف من السخرية».
والناظر إلى الأدب الروسي يجد أن معظم هذا الأدب الذي كتبه مؤلفوه الرواد قبل ثورة 1917 وعكسوا فيه صورًا صادقة لمجتمع إقطاعي مريض بشتى العلل. خاصة حكم الفرد المستبد وما يخلقه حوله من مفاسد ومباذل وأجواء مريضة، وهي الصورة  نفسها التي عاشتها بعض أقطار العالم العربي سنوات طويلة. أما من ناحية الشكل فقد تميز هذا الأدب بالبساطة والوضوح والاهتمام بالمتناقضات الموجودة داخل المجتمع. ويجمع كبار النقاد والمؤرخين على أن أهم وأبرز أديبين روسيين أثريا الأدب الروسي بكتاباتهما وأثرا فيه هما ألكسندر بوشكين ونيقولاي جوجول، وعلى الرغم من التناقض الحاصل بينهما، كان بوشكين كلاسيكيًا محافظًا في كتاباته، وهو الذي وضع أسس البساطة والوضوح والواقعية في القصة الروسية، بينما جمع جوجول في معظم أعماله بين الرومانتيكية، التي تصل إلى حد الخرافات والأساطير من جهة، وبين الواقعية المعقدة التي نلمسها في الاستطرادات الطويلة والإغراق في التفاصيل السردية في أعماله من جهة أخرى. ورغم ذلك، فقد أجمع معظم النقاد على أنهما يعتبران البداية الحقيقية للأدب الروسي الحديث. وعلى الرغم من ذلك كان لهما تأثير كبير على كتّاب روسيا الذين جاؤوا من بعدهما.
ولعل أروع أعمال جوجول هو روايته الطويلة «الأرواح الميتة»، أو «الأنفس الميتة» كما جاءت في بعض الترجمات، والتي قال عنها أكثر من ناقد إنها رسمت الطريق لكل الروايات الروسية التي جاءت بعدها، وتدانيها في هذه المكانة مسرحيته «المفتش العام» (ترجمها الدكتور رشاد رشدي ونشرها في مجلة المسرح التي كان يرأس تحريرها فترة الستينيات، واقتبسها مسرح التليفزيون ومثلت في موسم 62/63) ويجمع النقاد على أنها تمثل مع مسرحيتي «الذكاء المهلك» لجريبدوف، و«الحضيض» لمكسيم جوركي مكانة رفيعة لا يدانيها فيها أي عمل مسرحي روسي آخر. اشتغلت مسرحية «المفتش العام» على البيروقراطية والفساد المستشري في المؤسسات الحكومية وقتئذ وأظهرت المساوئ التي كانت ترزح تحتها هذه المؤسسات، لهذا السبب منعت الرقابة في روسيا تمثيلها في ذلك الوقت، إلا أن القيصر نيقولا الأول تدخل في هذا الأمر، وسمح بعرضها على خشبة المسرح بل حضر حفل الافتتاح بنفسه في 19 مارس عام1936، وبعد أن رآها قال: «لقد نال فيها كل موظف بالدولة ما يستحقه من نقد... حتى أنا». وأهمية هذين العملين، الرواية، والمسرحية ترجع إلى أن جوجول قد استغل العنصر الاجتماعي الموجود في المجتمع الروسي في تجسيد موضوع هذين العملين، والأعجب من ذلك أيضًا أن الذي أوحى له بكتابتهما هو صديقه الشاعر «بوشكين»، وقال بعد أن قرأ هذين العملين «يا إلهي يا لها من بلاد حزينة روسيا هذه» ثم أضاف: «إن جوجول لم يخترع شيئًا وإنما روى الحقيقة الرهيبة ببساطة شديدة». كذلك كانت أعمال جوجول الأخرى مثل «الانتقام القاسي»، و«مذكرات مجنون»، و«الأنف» وهي أعمال قصصية تصله بمدرسة التحليل النفسي والاتجاه السيريالي في الفن.

حقائق الحياة الكاملة
 كما تمثل القصص الشعبية أيضًا في منجز جوجول القصصي حقائق الحياة الكاملة وهي تتبدى في هذه القصص كاملة حيث يحتفي جوجول بالنقد الاجتماعي في قصصه، ظهرت هذه السمات في مجموعته «أمسيات قرب قرية دكانكا» في التي صدرت في جزأين خلال عامي 1831 و1832، أما مجموعة «جيرجورود أو مدينة السلام» فقد ظهرت عام 1835 وهي تضم قصص «الملائكة الزائلون، وتاراس بولبا، والساحر، وكيف تخاصم إيفان إيفانوفيتش مع إيفان نيكفوروفيتش»، ويرى الناقد بيلينسكي في هذه المجموعة عمق وخبرة أكثر بالنسبة لتصوير الحياة الواقعية في روسيا شأنها شأن معظم أعمال جوجول الإبداعية.
ومن السمات المهمة أيضًا في كتابات جوجول قدرته العجيبة على ملاحظة الناس ملاحظة دقيقة والتقاط الجوانب الفكهة فيهم واستخدام سلاح السخرية المأساوية السوداء في التعبير عن حياتهم، وفي هذا يقول جوجول: «الفكاهة موجودة في كل مكان، لكننا لا نفطن إليها لأننا نعيش وسطها، أما حينما يعالجها الفنان بأسلوبه ونراها على المسرح فإننا ننفجر ضاحكين، ونعجب كيف لم نلاحظها في أنفسنا من قبل».
وتعتبر قصة «المعطف» وهي من أهم مؤلفاته القصصية وأشهرها وقد ذكرها في مجموعة القصص البطرسبرجية، وظهرت فكرتها عام 1834 وقرأها بوشكين مخطوطة وأثنى عليها كعادته مع أعمال جوجول. ويقول عنها الناقد الروسي بيلينسكي «لقد استطاع جوجول في قصة «المعطف» أن يجد الشيء المأساوي ليس في الكوميديا فحسب بل في حقارة الحياة ووضاعتها. فبطل القصة أكاكي أكاكيفتش باشماشكين نموذج إنساني معرض دائمًا للإهانة والاستهزاء، وهو لا يعرف أي معنى للسعادة في حياته، وعندما يعود إلى بيته يفكر في أن سعادته الكبرى ستتحقق عندما يتمكن من الحصول على معطف يقيه برد الشتاء ويمنحه شيئًا من الإنسانية والسعادة بين الناس. وكان يشعر بأنه أخ للجميع، لذا فإن هذا المعطف سيعوّضه عن هذا الشكل المأساوي الذي يرزح تحته، وعندما حصل بالفعل على المعطف أحس وهو يرتديه بسعادة غامرة لم يشعر بها من قبل، لكن ضربة القدر تمكنت منه عندما سرق منه المعطف وهو عائد إلى منزله فشعر بشيء من الأسى والحزن الشديد ينتابه، وأحس مرة أخرى بالدونيّة وسط جموع الناس التي يعيش بينها، فمات من حسرته، ويظهر شبحه كل ليلة في المدينة ليخطف من الناس السائرين معاطفهم، ويسبب لهم المأساة نفسها التي كان يشعر بها وهو حي.
   في هذا السياق بقصة «المعطف» التي قال عنها كتاب روسيا، إنهم جميعا قد خرجوا إبداعيًا من قصة هذا المعطف الذي ابتدعه جوجول في قصته. ولو عدنا إلى نهاية القصة كمثال لتراث القصة القصيرة في تاريخها الحديث لاصطدمنا حتمًا بعنصر الحكاية، حيث أراد جوجول أن يؤكد الأهمية الخاصة للبنية الحكائية في قصته، لذا كان مشهد التعاطف بين أكاكي أكاكفيتش ومعطفه هو العنصر الباقي لحركة النص في خاتمته قبل موته وبعده. 

واقع المجتمع الروسي
ولا شك أن البحث عن الحقيقة في قصة المعطف والتناقض الذي كانت ترزح تحته تركيبة واقع المجتمع الروسي آنذاك كان هو الرمز الذي حدا بشبح أكاكي أكاكفيتش أن يظهر في شوارع بطرسبرج في نهاية القصة للبحث عن معطفه المفقود ومن ثم يفقد الناس السائرين معاطفهم أو بالأحرى هويتهم الخاصة، مما أهل هذه الخاتمة بعد ذلك إلى تناصات عدة عند العديد من الكتاب المعاصرين ليس في روسيا وحدها، بل في جميع أنحاء العالم أمثال بورخيس، وماركيز، وكالفينو، وكافكا، وبوتزاتي، ونجيب محفوظ وغيرهم من كتاب القصة في العالم الذين عرفوا جيدًا مدى فنية وجمالية هذا النص في اختراع جوجول لقصة المعطف ما أهّلهم إلى أن يستنبطوا ويستلهموا مواطن جمالية مشابهة في تناصات أخرى بنصوصهم القصصية الحاملة في جيناتها الأبعاد الإنسانية  نفسها التي اتسمت بها قصة «المعطف». إذ تعتبر قصة المعطف حالة إنسانية فرضت نفسها كنموذج يحتذى في عالم السرد.  وهي على بساطتها الشديدة، إلا أن الأثر الذي تركته في محيط القص العالمي كان كبيرًا ونافذًا. فهذا النساخ الفقير أكاكي أكاكيفتش يحلم طويلًا بشراء هذا «المعطف» الذي يمثل هويته الحقيقية، وحين ينجح في ذلك بعد جهد جهيد يسرق منه المعطف، أو تنتزع منه هويته، ولا يفيده لا رئيس الشرطة المرتشي ولا أي شخصية سلطوية أخرى يشكو إليها، فيعود إلى داره ويموت، ولا يبقى منه إلا شبح يبحث عن العدالة التي لم تعنِ بالنسبة له أكثر من المعطف المفقود». وربما كان هذا النص معبّرًا تمامًا عن رؤية الكاتب الخاصة بمجتمعه وما يحدث فيه من مفارقات. ففي مجال الكتابة القصصية يكون الكاتب هو نفسه، ذاته، أسلوبه، حيث لا انفصال بين الأداة والتشكيل والموضوع ■