شاعر الصمت والاحتجاج الأنيق محمد عثمان «كجراي»

  شاعر الصمت والاحتجاج الأنيق محمد عثمان «كجراي»

الموت لا يغيّب المعطاء الذي برزت قدراته وتجلياته - أيًا كانت - بين مجتمعاته، فمن الناس مَن هم  في حضورهم غياب، وقد يتجلى فراغًا محضًا، ويكون أجدى، وثمة آخرون في غيابهم حضور، وإن طمروا تحت التراب، وما بين المتلازمتين (الحضور والغياب) يبقى المنجز هو الحكم، والراسخ في الذاكرة الجمعية تستعيده لتنتفع به متى ما تهيأ لها ذلك، أو كلما دعت الضرورة، وهذا هو الذي يوطن الحضور في جوف الغياب، وربما من دون مناسبة.

 

جاءت هذه المقدمة في لحظات تداعٍ تلقائي غمرني حينما كنت أعيد قراءة ديوان «الليل عبر غابة النيون1987م» للشاعر السوداني محمد عثمان «كجراي»، الأمر الذي حرّك مقود الذاكرة إلى الوراء لتستعيد حوارًا أجرته معه قبل أكثر من ثلاثة عقود صحيفة «الشرق» التي تصدر بمحافظة البحر الأحمر آنذاك، ولم ينشر لتوقفها إلى الآن، وكذلك قصيدة فلسفية عميقة مطولة بخطه الأنيق أهدانيها أحد أصدقائه قبل سنوات، وفي ظني أنها أيضًا لم تحظ بالنشر وعنوانها «من شرفات الأحلام» وعليها توقيعه – م . كجراي – في خاتمها:
يا سليمان الحكيم
قد طرقنا بابك الفضي هذا مرتين
وسمعنا صوت بلقيس تغني لمليك الخافقين
كنتما في ساحة الملك كأبهى فرقدين
نحن من أبناء عصر ضل عن ناصية الحكمة
فاختار دهاليز الهُرَاء
قد تقدمنا كثيرًا فاكتشفنا أننا نلهث نعدو للوراء
فترفق إن دخلنا في ثياب السفراء
نحن يكفينا ائتلاف الحُسنِ زاد الشعراء
كسب الشاعر السوداني «كجراي» ، الذي صادف الثامن من أغسطس 2021م ذكرى رحيله الثامنة عشرة، سمعة عظيمة وشهرة واسعة داخل السودان والعالم العربي في خمسينيات القرن الماضي، ولا أعتقد أن ثمة في الداخل من لا يعرفه، يقينًا بأن شهرته كانت نابعة في المقام الأول من كونه كتب أربعة من أجمل وأعذب الأغنيات بالعامية المتفصحة للمطربين الراحلين محمد وردي «ما في داعي» و«تاجوج»، وإبراهيم حسين «شجون»، و«بسمة النوار»، وغذى بها ساحة الغناء السوداني، وهي كفيلة بأن تمنحه إشراقًا وشعبية جارفة، وثانيًا لاسمه المستعار«كجراي» الذي تميز بالبساطة والفرادة والرنين، وبالكاد ليس في السودان مَن يحمل هذا الاسم، وفوق هذا كله فقد أخذ على عاتقه هم الإنسان حيثما حلّ، ومضى كمدرس في كفاح متصل بخدمة النشء والتعليم من ناحية، وخدمة الأدب والشعر من ناحية أخرى، إذ عكف على التعبير عن الراهن المعيش، وقضايا الإنسان، بصورة شفافة وواقعية (أنا أتحدث عن وبلسان هذا الإنسان المقهور في محاولة لتخطي الواقع المأساوي... لا بالهروب بل بالعمل الدؤوب لتغيير هذه الصورة المحزنة)** فكان صوتًا جديدًا، ونموذجًا فريدًا لجيل التزم أن يعبر بأدواته الخاصة، حتى صار مسموعًا في كثير من دول العالم العربي، نشرت بعض الصحف والمجلات العربية الكثير من أشعاره، وفضلًا عن هذا فهو يعد مثالًا للمعلم التنويري الوفي، والبروليتاري المثقف، ما بوأه مكانة مرموقة لدى الجميع.
 
إيمان راسخ
   عاش «كجـراي» في الحقبة الاستعمارية وما تلاها حياة لا تختلف كثيرًا عن غيره من السودانيين، وبما لديه من استعداد فطري وسعة اطلاع وثقافة عالية، لم يكن أبدًا مجرد شخص عادي، بل كان نافذ النظر، دارسًا للمجتمع وجوهر المشكلات التي تحيط به وانعكاساتها على الناس.  ولحساسيته المفرطة استطاع أن يدرك عن كثب حجم معاناتهم، على يقين من استفحالها في حالة البقاء على ما هي عليه، ومن ثمّ انفرد بإبداعه يستجلي من الواقع والمجتمع والخاصية الزمكانية (الزمان والمكان) صورًا تختلف عن مألوف الرؤى، تقوم على إشاعة الحرية والمبادئ المتصلة بالقيم الإنسانية، ما فتح أمامه مغاليق الخلق والابتكار التعبيري، وكان أن تحقق أول ظهور له في ميدان الأدب والصحافة في نهاية الأربعينيات حينما بدأ ينشر مقالات أدبية مرتبطة بالواقع السياسي والاجتماعي في جرائد عدة، منها (السودان الجديد)، و(الصراحة)، ولما (كان الإنجليز يحرّمون على الموظف أن يكتب في الصحف تسترت وراء اسم مستعار هو - كجراي - وهي لفظة بجاوية معناها جندي)**.
بعد فترة أطلق «كجراي» العنان لخياله الشعري، متسلحًا بالموهبة، واللغة الشعرية الرفيعة، والرؤية الثاقبة كيما يعبر عن قضايا الناس خاصة المهمّشين منهم والمعذبين، بمعايشته ومخالطته إياهم خلال تنقله في حقل التعليم:
وعجائز المتسولين وبعض أبناء السبيل
الراقدين على الرصيف
الجوع يدفعهم إلى الأبواب 
يلتمسون رائحة الرغيف

وليست مصادفة أن يكون «كجراي» شاعرًا مجيدًا، وهو الذي كان يتلمس طريقه منذ الصغر (إن ما جذبني للشعر وأنا صغير بيت شعرٍ كان يردده والدي في لحظات أصفائه، وهو رجل متصوف، فكثيرًا ما كنت أسمعه ينشد هذا البيت الشعري، وكان له وقعٌ ضخم في أعماقي وهو لأبي صخر الهزلي:
وإني لَتَعرُوني لذكراكِ هـِزةٌ 
كما انْتَفضَ العصفورُ بَلَّلَهُ القَطرُ
 ومنذ أن استمعت إلى إنشاد هذا البيت الشعري لأول مرة أحسست بانجذاب غير طبيعي لهذا الكلام المموسق الذي يتضمن شحنة كبيرة من العاطفة. كان مدخلي إلى هذا الكلام الشعري الوصف العاطفي البليغ). ** وكان (في بداية الخمسينيات بدأت بالشعر العاطفي التقليدي الشكل الذي هو تراثنا الخالد)**.
   لكن الشاعر الذي توفرت له شروط كتابة الشعر الذاتية والموضوعية، كانت روحه الثورية النازعة للتحرر تستجيب وتتفاعل مع معطيات الحس والتجربة ومقتضيات الواقع، وكلما تجددت تلك المعطيات جدد في مضامين قصائده، فكيمياء الشعر في ينابيعه الشعورية في حراك دائب وتجدد مستمر، متأثرًا بالتغير الذي حدث آنئذٍ في حركة الشعر، في أعتاب النشاط السياسي والنضالي الذي طغى عقب الحرب العالمية الثانية، (بعد سنوات أحسستُ بحاجة مُلِحة إلى التطور فاتّجهتُ إلى شعر التفعيلة أو الشعر الحر، وفترة الخمسينيات كانت تمثل فترة المـَدْ النضالي العنيف في العالم العربي والأفريقي، وفي تلك الفترة بدأ تلاقح الأفكار يؤتي ثماره)**.
ومن ثمّ أظهر نجابة وقدرة فائقة في تطويع الحرف لينقل صورة حية لما هو كائن، فجاءت قصائده ماتعة ومشعة، تحمل أفكارًا وخطابًا جديدًا، منمطًا بالفكر السياسي التحريضي والثوري في أزمنة يصعب فيها التعبير والجهر بالطغيان دون أن يلتفت إلى العواقب، ما قاده إلى المعتقلات ومصادرة ديوانه الشعري الأول «الصمت والرماد» 1961م، وغدا كمن يتنفس تحت الماء:
هأنا رغم ﻛﻞ المسافات 
ﻳﻤﺘﺪ ﻓﻲ ﻇﻠﻤﺔ الليل ﺻﻮﺗﻲ
ﻗﺪ تعودت ﻓﻲ زمن الزيف
أن ﻳﺼﺒﺢ السجن ﺑﻴﺘﻲ،
ﻟﻦ ﻳﺰﻟﺰﻟﻨﻲ الذل ﻓﻲ زمن 
الانكسار!

انطلاق الذات 
يلاحظ القارئ لشعر «كجراي» مدى حساسيته في تناوله للموضوعات المتصلة بالحياة، وأنه انصب منذ البداية على نبش الواقع المنحدر من ركام الماضي، وكذلك فصاحته اللغوية المشربة بالتعبيرات المختلفة عن لغة الذين جايلوه، وتبلغ الدهشة منتهاها عندما يدرك أنه من أبناء البجا، إحدى القبائل الراطنة في شرق السودان، يقول الشاعر مصطفى سند... (لسانه أعجمي ودمه عربي وتلك هي المعجزة بالضبط ... تعلم العربية وأتقنها وتفوّق فيها وكتب بها شعرًا بذّ فيه جميع أقرانه من أبناء الوسط والشمال والغرب الذين ليس لهم في الرطانات نصيب، كتب أجمل الشعر، وأرقّه وأعذبه، وأقواه وأرصنه).
   يأتي السؤال مَن هو «كجراي»؟... هو الابن الشرعي للعصر والظروف اللواتي أنجبنه، اسمه الفعلي محمد عثمان محمد صالح، وُلد عام 1928م في مدينة القضارف (هي مهد طفولتي ومرتع صباي الأول، ولها الفضل في أنني ما كنت سأصبح شيئًا مذكورًا لولا أن نشاطي بدأ في هذه المدينة العظيمة، فالجذور التي تربطني بها جذور عميقة، وإنها شكلت شخصيتي)**.
  وكانت نشأته (في بيئة دينية صرف. وكان والدي - رحمه الله - من المتشددين في الدين، يأخذ أولاده بالشدة التي تبلغ أحيانًا حدّ القسوة، فكان يأمرنا ونحن إخوة أربعة بأن نصحو في الرابعة لصلاة الصبح جماعة، ثم نوقد المصابيح ونخرج ألواحنا ونقرأ أجزاء من القرآن الكريم مكتوبة على الألواح، ونظل على ذلك حتى الساعة السابعة صباحًا، ثم نعرض القراءة على والدنا. والويل لمن لم يكن يحفظ لوحه فإنه عرضة للعقاب الصارم).* ولما بلغ الرابعة عشرة كان قد حفظ القرآن وأتم المدرسة الأولية، وأرسله والده مع إخوته إلى أم درمان للدراسة في معهدها الديني. (سررتّ بذلك لأن السفر كان يمنحني قدرًا كبيرًا من الحرية وانطلاقًا من القبضة الحديدية التي غرست في نفسي الخوف على نحو عميق).*
في المعهد العلمي الذي تمتد فترة الدراسة فيه اثنتي عشر عامًا، وكان صرحًا كبيرًا من صروح العلم والمعرفة الدينية والدنيوية في السودان، بدأ يشعر بالتحرر من وصايا الأب، وأخذ يتمتع بقدر كبير من انطلاق الذات، فيما ظل ملازمًا لمكتبة المعهد، فأغنى روحه وحسّه وعقله وخياله، وتزوّد بمخزون فكري وأدبي عالٍ، ولغوي ضخم يقبس منه دائمًا أنصع الكتابات وأصفى القصائد.

أنهر الجزالة
رغم الجو المثالي الذي وجده في المعهد وسبل الاطلاع التي توفرت له في مكتبات مدينة أم درمان، إلا أن رياح حظه هبّت بما لا يشتهي، إذ اضُطر إلى قطع دراسته بعد خمس سنوات لأسباب أسرية، ليعود من حيث أتى، ويتخذ مجالًا غير مجاله ...  (اشتغلت في التجارة برأسمال بسيط لأعول والدتي، لكن الدكان الصغير الذي افتتحته احترق أيام الحرب حينما أمر المستر (لي) حاكم القضارف بحرق القرية التي اتخذتها موطنًا لتجارتي، إذ اتهم أهلها بأنهم يُهرِّبون الأسلحة من الحدود الحبشية إلى منطقة القضارف، فأشعل الجنود النار في القرية ليلًا بعد أن أمروا السكان بالخروج منها، دون أن يأخذوا شيئًا من أمتعتهم.
عدت إلى القضارف خاوي الوفاض. وقدمت طلبًا إلى مفتش تعليم المديرية لأشغل وظيفة مساعد مدرس عام1947م، فقبل طلبي وتلقيت تدريبًا علي التعليم في معهد بخت الرضا ثلاث مرات)* وهي الفرصة السانحة التي مكّنته من التطواف على كثير من المدارس في القرى والمدن بكل أنحاء السودان، وأتاحت له التعرف على شرائح المجتمع ومختلف الثقافات السودانية، متدرجًا في وظيفته حتى صار مفتشًا للتعليم، حيث انتهى به المطاف في مدينة بورتسودان، ثم أحيل للمعاش في1987م، واستمر كاتبًا لصحيفة «الشرق» التي كانت تصدر فيها. تحدث للعربي - الأديب والإعلامي عبدالوهاب مالك الذي شغل مديرًا للتحرير بالصحيفة - يقول... (عرفته صوتًا نافذًا خلف جدار الوطن، وسوّد حبره إصداراتنا الصحفية شعرًا يغتسل على أنهر الجزالة ونثرًا متدفقًا في أرضٍ يباب. وفوق ذاك كان معلمًا يوظف الحرف والرقم ويبني بأدواته جسرًا متماسكًا لفضائل التربية والترشيد).
   ولأن داء الحروف يعيش طويلًا مع المصابين به ظل (كجراي) بعد أن نفض يديه من (طباشير) العلم يُعلمنا كيف نبني أعشاشًا نجترّ بداخلها أبياته الشعرية السامقة كقامته. وعلمنا أن الجلوس عند أبواب السلاطين والتمسّح بأعتاب وسطائهم وحاملي أختامهم لا يَرِدُ في قاموسه، سلوكًا كان ذلك أو شعرًا)، ولك أن تقرأ... (فاسمعوني إنني أعرف حقًا ما أقول/ فأنا لا أعرف المسح على الجوخ ولا قرع الطبول)، وكذلك قوله:
كفكف أحزانك يا قلبي
الدمعة ميراث الإنسان
بعض الشعراء تنابلة
في موكب حاشية السلطان
والشعر يمر بلحظات
تتكشف فيها الأحزان
تتساوى في شرفات الظن
جميع تخاريف الألوان

إسهاماته عقب استقلال إريتريا
    بعد أن وضعت الحرب الإريترية أوزارها باستقلال إريتريا بداية التسعينيات سافر إليها وعمل في حقل التعليم، حيث شارك في وضع المناهج التعليمية للدولة الحديثة، واحتل مكانة رفيعة في التعليم الإريتري حتى عام1999م، ثم رجع إلى موطنه السودان، وبقي فيه حتى رحيله الأبدي في عام2003م.
   من ينظر إلى «كجراي» في حياته العامة يجد مفارقة كبيرة فرغم خلفيته الصوفية وتعليمه الديني إلا أنه ارتبط بالفكر الماركسي والحزب الشيوعي السوداني، فيما كان عصاميًا مبرزًا، صنع شهرته بنفسه، ولم تغير فيه شيئًا، إذ كان حريصًا على مشاركة ومجالسة الناس على اختلاف طبقاتهم، يتأذى ويتألم حين يرى غيره يعاني من وطأة القهر وثقل الحياة، (وحدي قطعت رحلة الأسَى على أجنحة الأرقْ/ مشاعري كما عهدت مثلما أغنية/ تخضر في مساحة الورقْ)، لكنه في الوقت نفسه كان على قناعة بالمستقبل البهي الزاهر (مولد الشمس/ لن يتأخر/ فالفجر أغنية/ لقدوم النهار)، وليس أبلغ في الدلالة على هذا من قوله... (سنبيد على مر الأيام بذور الشر الملعونة/ سنذوب هنا/ في قلب الريف الأسيان/ فضحايا الليل هنا أبدًا تدمي أعماق الإنسان/لا عذر لنا/ فالليل هنا/ تنِّين مرهوب خاتل/ وظلام مسموم قاتل/ حتمًا سيموت إذا شئنا). على يقينًا بأنه لم يستخدم شعره سعيًا وراء تحقيق مآرب ذاتية، وهو القائل في دعابة وتهكم (شعر الأخوانيات)...
لحاك الله أيامًا تـوالــت  
تعبتُ برعبها جسـدًا وروحًا
فكوخي لا رعـاه الله كوخي 
يكاد من التصـدع أن يصيحـا
تعالوا يا مصابيح الدياجي
نؤبن للــوري وطنًا جريحا
يموت الشاعـر الصداح فيه 
ولا يلقى بـه بيـتًا مريحا
 
الاحتجاج الأنيق
   الشاعر الذي نضجت عبقريته الأدبية مبكرًا، بات ذا قدرة عالية على الخلق الفني، والتعبير بمتعة النفس الواثقة، ودائم السعي إلى ما هو إيجابي، ولما أدرك أن بلاده التي نالت استقلالها عام1956م لم تخرج من عباءة المستعمر، دأب على أن تتحرر من ذياك الرق كليًا، وأن تنفض عن نفسها مخلفاته لخلق واقع جديد بانبعاث الروح الوطنية، ومعالجة المشاكل الحياتية ومظاهر البؤس في الواقع السوداني بأسلوب حي قوي، وذكاء في التعبير، لذا دفع صوته بالاحتجاج الأنيق أمام أول حكومة وطنية ديمقراطية ولفت انتباهها إلى الأوضاع غير المرغوبة... (الأحداث التي تمسُّ حياة الإنسان هي مادة الشعر الحقيقية فإذا أهملنا هذا الجانب الأساسي فعن أي شيء يتحدث الشعر، عن الخطرفات والشطحات التي لا يستسيغها غير عقل مريض؟... ألا يُعتبَر هذا هروبًا من الواقع الآسن؟
    نحن لا نريد أن نشغل الناس عن قضاياهم بل نريد من الأدب أن يبلور هذه القضايا من خلال الشعر أو القصة أو الرواية أو المسرحية ويُعبِّر عنها بصدق ليتجاوز السلبيات ويعمل على تغيير الواقع المتخثر)**... ولنتمعن تعبيره عن مدلول الفقر:

والجوع هنا غول أسحم
غول يتلمَّظ لا يرحم
وبلادي ما زالت في القاع
تلوك الأعشاب المُرَّة
خدعوني إذ قالوا مرة
رحل «الكابوس» وفيض النور 
يُقبِّل تُربتنا الحُرة

ثورة  كجراي الأدبية 
مع انفتاح الرؤى وانبثاق الأمل والرجاء خضع «كجراي» لسلطان الشعر خضوعًا تامًا، وغمس يراعه وشعوره ورؤاه في صميم الحياة، منجزًا ثورة أدبية تنقل أرزاء الحياة إلى واقعية فاعلة، فيما كان شعره يمثل نموذجًا لتطور الوعي الشعري، وتفوقه في تلك الفترة، ولا عجب إن نشرت مجلة الرائد الكويتية في الخمسينيات أول قصيدة له خارج وطنه، بعنوان (السأم والأحلام الميتة)... 
 حينما تشرق شمس أو تغيب
نحن نستقبل أفراح الحياة
بعيون فارغة
 بعيون جفَّ منها ألق النور تغشاها السأم
حولنا أقدارنا تسبح في بحر العدم
مات في أعماقنا عرق الندم

هكذا آل «كجراي» على نفسه أن يكشف عن تراجيديا الواقع، ويضع النقاط فوق الحروف في لغة شعرية خاصة جمعت ما بين الصرامة والأناقة، والتي تكشف نبل مقصده وقدرته على تصوير الأحداث ورسم الصور شعريًا بإتقان:
ليَّ لغتي فهي قصفٌ ونار 
وملخمة سوف تبدأ
من حيث يبدأ خيط النهار  

وقد أعطت سلاسة الأسلوب ودقة التصوير وفصاحة اللغة قصائده بعدًا مميزًا لأدب الواقعية الاشتركية في السودان، وسرعان ما صار معروفًا وقريبًا جدًا من كبار أدباء هذا التيار، وأحد رواد الشعر العربي الحديث... يقول الشاعر محمد الفيتوري... (كان صلاح أحمد إبراهيم في السودان يؤسس هو ومجموعة من رفاقه، على رأسهم محمد المهدي المجذوب، والشاعر كجراي وعلي المك، لحركة الشعر العربي الحديث).

الصمت والرماد
لم يكن «كجراي» متصالحًا مع كل الحكومات التي تعاقبت على حكم السودان بعد الاستقلال مدنية كانت أم عسكرية، بل أكثر ضيقًا بالأخيرة، وهو يرى أنها ليست سوى استعمار جديد، ما دامت قد بقيت منكفئة على ذاتها، ولم تحرز تقدمًا ملموسًا في تطور البلاد، وحياة إنسانها، وفي وسعنا أن نتأمل رؤاه من قبل أكثر من نصف قرن:
بلادنا يا إخوة الطريق يا طلائع النهار
ما زال في تربتها يزدهر الصبار
وينبت الشوك على سواحل البحار
أو قوله:
أين اختفت مواسم الخضرة في ازدهارها الوريق؟
يا شاهد العصر لماذا نحن في مفترق الطريق؟
فلنعبر الدخان والحريق
حدثني الصمت بأن الصخر لا يرضخ للنكسة والهزيمة
المتأمل في النص الشعري لـ«كجراي» يجده ممتلئًا بالحيوية والصدق التعبيري، لشاعر معتد بنفسه، (كبريائي مثل عرق الذهب اللامع في ضوء الأصيل)، يعي مجريات الواقع، مسقطًا مآلاته على المستقبل بمخاوف وتطلعات وآمال عريضة، ما ينبئ بأنه يتمتع بحدس صادق وفراسة قوية، (قد تقدمنا كثيرًا فاكتشفنا أننا نلهث، نعدو للوراء)، وكان - كما يقولون - أبصر من زرقاء اليمامة:
يكفي عزاء أننا نصارع الظلام في انتشاره الرهيبْ
نقول للناس ارفعوا رؤوسكم
لأننا نعرف أنَّ غدنا
يشرق من ذؤابة المغيبْ
فَلنُشْعِلِ الأحرف يا صديقتي
يكفي بأنا نفضح الظلمة من أعماقها ونصنع الحياةْ

وفي كل مرة كان يزداد في خطوه اقترابًا من حياة الناس وواقعهم، فكان أوفر خيالًا، وأصدق إحساسًا بما اجتلى من مشاهد، ودونكم قصيدة «الصمت والرماد»:
أترى أﻋﻴﺶ أ‌ﺷﻬﺪ الموتى يشقون الدروب؟
ويباركون بحيرة اﻟﺤﻘﺪ المقدس ﻓﻲ ابتهالات 
الغروب 
شلال ﻧﻬﺮ ﺟﺎﻣﺢ الوثبات هدار العيون 
ويمزقون 
أكفانهم 
ﺗﻠﻚ التي اهترأت ﻧﺴﻴﺠﺎ ﻣﻦ رماد 
أترى ﺳﻴﻨﺘﻔﺾ الرماد؟

في كل الأحوال أخذ شعر «كجراي» يشكّل نبض عصره وتحولاته، ويعبر عن أحداث كثيرة تمس الإنسان في داخل السودان وخارجه في تلك الفترات، إذ غنى لإنسان أفريقيا، ولمناضلي إريتريا، كما غنى للجزائرية الثائرة جميلة بوحيرد، والمغربي المهدي بن بركة الذي اختطفه الإسرائيليون عام1965، ومعركة الكرامة في منطقة غور الأردن عام1968، وأطفال صبرا وشاتيلا في فلسطين 1982 والزعيم المصري جمال عبدالناصر في مصر، وقرطاج في تونس:
 دفنت مع الليل خارطة للكآبة
فكل الحروف تؤدي إلى عرش قيصر
ما عاد قيصر يملأ ثوب المهابة
أقول لسيدتي دفتري عربي الكتابة

لغة الصمت 
   جمعت قصائد الشاعر في مجملها كثيرًا من رموز الميثولوجيا الإغريقية، مثل «أوزوريس»، «باخوس»، «أوليس»، و«أورفيوس»... إلخ، ما يكشف عمق ثقافته وتنوعها. كما حملت عناوين غريبة ذات دلالة رمزية عميقة مثل (تباريح الغرام المزمنة)، (ارتديت الحريق)، (من ثقوب الغرابيل)، (الليل عبر غابة النيون)، (شجو المزامير)، (العشق الدامي)، (الأفعوان)، (العنكبوت وسيد الساحة)، (الصدى لغتي الثانية) وهكذا، وكانت تجد القبول خاصة من المستنيرين، وذوي النزعة التحررية، ونراه - كما ذكر الدكتور محمد مصطفى هدارة في مؤلفه - تيارات الشعر العربي المعاصر في السودان - (مولعًا ببدء قصائده بمطالع غريبة تشد الانتباه، لما فيها من تصوير إيحائي لشيء مبهم يثير التساؤل والخيال، وهو إلى جانب ذلك كله قادر على استخدام الرمز ليرسم صورًا تعبيرية دقيقة عندما يريد إلقاء بعض الظلال على المضمون).   
كما استخدم الشاعر مفردة «الصمت» في جل قصائده، ووردت أكثر من مرة في كثير منها، ذهب إلى أبعد حينما جعل من الصمت (لغــة) خاصة، (آه من لغة الصمت)، (حدثني الصمت)، بل جعله كائنًا يتحرك ويمشي على قدمين، يتشكّل ويتلوّن حسب مقتضيات الحال، ويتصرف وفقًا للظروف، مثل قوله (دعني مع الصمت)، (أيها الصمت الضبابي )، (جلس الصمت على مقعده)، (وهأنذا مع الذكرى، مع الصمت)، (وهأنذا أتحدث عنك إلى الصمت)، ولم يكن استخدام هذه المفردة عبثًا أو مبهمًا، وإنما عن وعي، ومرآة حقيقية لما يدور، وما يعتمل في نفسه، (ونفتح للصمت بابًا/ إذا ما رأينا على الواقع المتخثر شبهة ما لا يجوز)، وكان حري به أن يطلق عليه (شاعر الصمت):
أنا من أُمةٍ سكرى بخمر الصبر
آه يا لخمر الصبر تخرس صوت آهاتي
وتخنق لي عباراتي...
يمر العام تلو العام لا الأحلام تصدق
لا ركام الهم يسقط من حساباتي...
ويخجلني امتداد الصمت 
لون الصمت
عري الصمت في جدب المسافات

خلّف «كجراي» تراثًا أدبيًا كبيرًا يجعله حاضرًا في المشهد السوداني على الدوام، جمعه في دواوين «الصمت والرماد»، «الليل عبر غابة النيون»، «في مرايا الحقول»، و«إرم ذات العماد» مع كتاب في أدب الأطفال بعنوان (خماسيات أبي الشول) ■

___________________________________________________________________________________________________________________________________

 * من مقدمة ديوانه «الصمت والرماد»   
 ** من الحوار الذي أُجراه الصحفي صالح حجير( الشرق)، ولم ينشر.