الهوتة كهف يحكمه الظلام

الهوتة كهف يحكمه الظلام

الكهوف إحدى الظواهر الطبيعية الفريدة المثيرة للاستكشاف. عالم في باطن الأرض يحكمه الظلام وتختلف أشكال الحياة فيه من كهف إلى آخر اعتمادًا على البيئة المحلية، بعضها تتدفق فيه الأنهار والبحيرات، والبعض الآخر تتحول فيه تيارات الهواء التي تسقط بالداخل إلى ألحان وموسيقى طبيعية. بعضها مسموح بزيارته والآخر محظور لوعورته. تتدلى الهوابط الطبيعية الضخمة فيه وترتفع الصواعد بشكل متناغم مهيب، وتتجول مخلوقات غير عادية في الأعماق. ولا يزال أكثر المناظر المدهشة في هذا العالم خافيًا داخل الكهوف، لذلك لا تعرف أبدًا ما الذي ستواجهه عندما تستكشف كهفًا جديدًا. كهف الهوتة بولاية الحمراء في سلطنة عُمان أحد هذه الكهوف الطبيعية التي لا تخلو من متعة الاستكشاف.

 

وصلنا إلى ولاية الحمراء صباحًا حيث يقع كهف الهوتة على سفح جبل شمس، وهو أعلى جبل في عمان وجزء من سلسلة الجبل الأخضر. لكن في طريقنا توقفنا قليلًا في مسفاة العبريين... بلدة طينية... مختبئة في هذا الفضاء، كاليرقة في شرنقتها، تحتضن تراثًا عريقًا وأسرارًا دفينة. إيقاع الحياة مختلف هنا لكن لم أفهم السبب. حتمًا سنعود إليها بعد أن نكمل الطريق إلى كهف الهوتة.
الأكثر متعة لي من مشاهدة كهف الهوتة هو الطريق إليه. الصعود من قاع الوادي إلى قمة أعلى جبل في عمان للوصول إلى نقطة الانطلاق، مرورًا بالطرق المتعرجة حول الجبل وأشجار النخيل، مذهلة بصريًا، تمنحك شعورًا تامًا بالهدوء والسكينة.
قدم لنا أصدقاؤنا العمانيون الذين كانوا بصحبتنا موجزًا عن المكان قبل اقترابنا من الكهف. وأخبرونا أن الكهف يمتد على مساحة 5 كيلومترات، وهو الكهف الأول والوحيد في شبه الجزيرة العربية بهذا الحجم الذي تم تجهيزه للزوار. وتشير التقديرات إلى أن عمره يزيد على مليوني عام.
عند وصولنا إلى مركز زوار الكهف كان هناك قطار كهربائي يستقله الزوار للوصول إلى مدخل الكهف، لكننا فضّلنا السير على الأقدام بما أن المسافة ليست بعيدة. كان معنا نحو 30 شخصًا زائرًا ورافقنا مرشد من وزارة التراث والسياحة طوال رحلتنا في الداخل.  الكهف تم افتتاحه للزوار عام 2006 وسمي بهذا الاسم على اسم القرية التي اكتشف بها. استغرقت الجولة الإرشادية الغنية بالمعلومات عن الكهف وتاريخه نحو 45 دقيقة.
كما تقول الحكاية، التي أخبرنا بها المرشد، إنه في عام 1960 كان هناك راعي أغنام فقد ماعزته وخلال بحثه عنها تعثر في الكهف. وبعد اكتشاف الكهف من قبل وزارة التراث والسياحة لم يتبين أنه كان مسكونًا من قبل. لكن هناك قصة أخرى سمعتها من بعض الأصدقاء أن المكان تم اكتشافه قبل ذلك بكثير، وقد استخدم الأشخاص هذا المكان لقرون طويلة كطريق للهروب ومكان للاختباء.

صواعد وهوابط
كان الكهف ضخمًا ومظلمًا، والخفافيش تحوم في الأعلى. شعرت كأننا على كوكب آخر، المكان تفوح منه رائحة الصخور والرطوبة. الكهوف عادة بيئات مناخية مستقرة نسبيًا، درجة حرارتها ثابتة إلى حد ما ورطوبتها عالية.
أحببت السلالم الكثيرة هبوطًا وصعودًا. التشكيلات الصخرية منحوتة بشكل غير عادي. والأجمل الصخرة التي كانت على شكل رأس الأسد وهي تشكلت طبيعيًا من تكلس الأملاح الذائبة في مياه الأمطار.
ليست المرة الأولى التي أدخل فيها إلى كهف لكن في كل مرة عند الدخول إلى الكهوف ينتابني الشعور نفسه، الغرابة والدهشة، وهو أمر متوقع، لأنها بيئة مختلفة تمامًا عن الحياة على سطح الأرض.  الكهف أصغر وأكثر أمنًا من كهوف أنديانا الأمريكية المليئة بالطرق الوعرة المتصلة التي تمتد إلى أميال، والتي لم نستطع عبورها وتعرضنا للسقوط والانزلاقات الخطرة بها. في الداخل وجدنا عالمًا من الممرات، تشكلت من ذوبان الأحجار الجيرية بفعل المياه الجوفية الحمضية التي تعمل على إذابته عن طريق التسرب على طول المفاصل والصدوع، تاركة الممرات المنحوتة في أعقابها بعد جفافها. يبدأ كل شيء عندما تهطل الأمطار ويذوب ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي أو التربة، مما ينتج عنه حمض الكربونيك المخفف الذي يذوب بدوره الحجر الجيري أثناء مروره فوقه وبالتالي يتشكّل الكهف. وفي كل 100 عام تقريبًا، يذوب الماء 10 ملم من الصخور، لذلك يستغرق الأمر ملايين السنين لتتشكل الكهوف.

التوغل في الظلام
لا تزال آثار المياه تحت الأرض واضحة للعيان وهي مستمرة في نحت ممرات منخفضة في جميع أنحاء كهف الهوتة، مما يترك لك موقعًا رائعًا لاستكشافه، لكننا امتثلنا لجميع الإرشادات بالالتزام بممر واحد المحدد لنا للحفاظ على سلامة الكهف. فالكهوف هشة للغاية وقد يستغرق الأمر آلاف السنين لإصلاحها إذا حدث أي ضرر ناتج عن الزائرين. الطبيعة الخفية للكهوف وخصائصها تستهوي العلماء وتسترعي انتباههم وتوفر أساسًا ليس فقط للبحوث المتعلقة بالكهف ولكن لمجموعة واسعة من المساعي العلمية ذات الصلة ولأبحاث الفضاء. وهناك دراسات عديدة حول الكائنات الحية الدقيقة في الكهوف والمياه الجوفية يتم إجراؤها بشكل مستمر.
يحتوي كهف الهوتة على بيئة غنية ومنوعة تضم أربع بحيرات، ثلاث منها بحيرات شمالية صغيرة، والرابعة تقع في منتصف الكهف. تقدر هذه البحيرات الجوفية باحتوائها على 30.000 متر مكعب من المياه، ويبلغ طول البحيرة الرئيسية 800 متر وعرضها 10 أمتار، وعمقها الأقصى 15 مترًا.
لا توجد أي نقطة ضوء طبيعية خارجية تدخل إلى الكهف. وهناك نظام إضاءة تم إنشاؤه في الكهف يسمح للمرشدين بتشغيل وإطفاء الأضواء مع تقدم الجولة عبر الكهف، مما يقلل من اضطراب الحيوانات التي تعيش في الكهوف ويمنع تكوّن الطحالب. وللسبب نفسه يتم إطفاء جميع الأضواء في حال عدم وجود جولات.

الأسماك العمياء
يعيش في كهف الهوتة عدد متنوع من الحيوانات النادرة من الخفافيش والمفصليات وخنافس الماء والرخويات والقواقع، والأسماك العمياء، التي يمكن أن تكون بمنزلة موارد علمية قيمة، وهي كائنات حية تعيش في الظلام، أغلبية هذه الكائنات يعيش بشكل دائم في الكهف، ودورات حياتها بأكملها في الظلام، لأن أنظمة الكهوف بلا ضوء، وبالتالي لا تتوفر عمليات التمثيل الضوئي. وفي هذه البيئة محدودة الموارد، طورت هذه الكائنات قدراتها الخاصة للبقاء على قيد الحياة. وهي تستخدم دورات بيولوجية تعتمد بشكل كبير على الكربون، والنيتروجين والكبريت. للكهوف سلسلة غذائية خاصة بها مثل الموائل الأخرى، تعيش الكائنات الحية في الداخل على بعضها البعض. الخفافيش تلقي بفضلاتها داخل الكهف، وتلك الفضلات تمثل غذاءً للحشرات الدقيقة التي يتم افتراسها من قبل العناكب والكائنات الأخرى.
 الأسماك العمياء من أشهر الحيوانات التي تعيش في قاع كهف الهوتة، وتفضل قضاء حياتها مختبئة في الظلام. وغالبًا ما تكون تحت الحجارة أو في الشقوق بين الصخور. تتغذى هذه الأسماك على المخلفات والطحالب. وتضع بيضها في الحصى، الذي يفقس في غضون 24 ساعة، وهذا يفسر التكاثر السريع لهذا النوع من الأسماك. اكتشفت هذه الأسماك في عام1980، وهي عمياء تمامًا، على الرغم من أنها تولد بعيون إلا أنها مغطاة، وأجسامها شفافة فاقدة للون، ما يسمح لك برؤية هياكلهم العظمية أثناء مرورك بجانبها.
في عالم الكهوف الخالي من الضوء تصبح العيون لا قيمة لها. وبدلًا من ذلك تستخدم أسماك الكهف حواس بديلة لمساعدتها على التنقل في الظلام، كحاسة السمع فهي حساسة بشكل كبير للصوت والاهتزازات، ولديها أيضًا حاسة شم فائقة للمساعدة في توجيهها. وهذا يفسر قدرتها على السباحة بنشاط وإيجاد الطعام، وعدم اصطدامها بالجدران. كما أنهم لا ينامون أبدًا، ففي أعماق الكهوف لا يوجد ليل أو نهار، لذا فهم يسبحون باستمرار. وتستخدم بقية الكائنات شعيرات حسية كيميائية كقرون استشعار خاصة بها لاكتشاف فرائسها.
عندما قيل لنا إن الأمر انتهى لم نشعر بأننا على استعداد للخروج، الرحلة داخل كهف الهوتة استغرقت أقل من ساعة لكننا طلبنا من المرشدين البقاء لوقت أطول. أمضينا ساعات أخرى، بعيدًا عن الزائرين والمرشدين لالتقاط الصور. وفي النهاية خرجت من هذا الظلام، كان ضوء الشمس والسماء الزرقاء، والأشجار الخضراء ورفقائي الذين سبقوني...  ينتظروني في الخارج.

الصخور والشعاب المرجانية 
الرحلة لم تنتهِ بعد، بالقرب من الكهف، هناك معرض جيولوجي يضم أكثر من 150 نوعًا من الشعاب المرجانية والصخور ليستكشفها الزوار. تشرح العمليات التفاعلية لتكوين هذه الصخور وتشكيل الكهف وتطوره بالإضافة إلى معروضات ومجسمات حيوانية من العقارب وعناكب الصيد إلى الثعابين والخفافيش.  ويوجد متجر للهدايا التذكارية المتعلقة بالكهوف ومنتجات حرفية يدوية عمانية وكذلك عينات من الصخور يمكنك الاختيار من بينها، والتي ستذكرك دائما بهذا المكان.

مسفاة العبريين
 قبل غروب الشمس عدنا مرة أخرى إلى مسفاة العبريين لمشاهدة منظر الغروب من هناك. المدينة قديمة وصغيرة، مموهة بين الجبال الداكنة لكنها لافتة للنظر، تقع على ارتفاع1000 متر من سطح البحر. المساكن بنيت من الصخور والحجارة المأخوذة من المنطقة ومثبتة بالطين، والأسطح مغطاة بسعف النخيل، مطلة على بساتين خضراء.
توجهنا إلى الحي القديم. لاستكشاف البلدة لا بد من السير على الأقدام. الممرات ضيقة والمنحدرات شديدة في الأعلى والأسفل. البيوت مهجورة في معظمها باستثناء النزل الجميلة والقليل من المشاريع السياحية الصغيرة التي يعمل بها عمانيون. التنقل بين هذه البيوت هو رحلة عبر الزمن تعود بنا إلى الوراء مئات السنين، آثار في غاية الأصالة والروعة والتفرد، ونحن الآن نقف على آخر ما بقي.  قيل لي إن السكان الأوائل تخلوا عن جزء كبير من المنازل القديمة للسكن في مدن أحدث، أو في مساكن جديدة قريبة، وهي القسم الآخر من البلدة، وقام البعض بتحويل هذه المساكن الطينية القديمة إلى فنادق صغيرة ونزل ومطاعم تقدم مسكنًا ومأكولات عمانية تقليدية للعابرين والسياح، ويجهّز الطعام في بيوت أهالي البلدة في الأغلب، ما يجعل من الزيارة لها مذاقًا خاصًا ومختلفًا عن أي مكان آخر. بعض السكان حوّلوا منازلهم القديمة إلى متاحف يعرضون فيها المقتنيات الأثرية المتوارثة عن أجدادهم، والتي تعبر ببساطة عن الحياة اليومية للعمانيين. من بين هذه المنازل بيت المسفاة للمقتنيات التراثية، الذي يحتوي على كنوز تراثية، لكن لم يسعفنا الوقت لمشاهدته.
التقينا امرأة كبيرة في السن تعيش وحدها داخل أحد البيوت القديمة، سألتها عن سبب تفضيلها العيش في هذا البيت والابتعاد عن المدنية والتمتع بالتطور، قالت لي «ولدت هنا وأنا أعيش على أرضي وفي بيتي، وأتبع طريقة أجدادي في تفاصيل حياتي اليومية، وهذا المنزل هو آخر ما تبقى لي». سألتها عن سبب تسمية المكان «مسفاة العبريين» وأخبرتني أن التسمية جاءت لأن الرياح تسفيها من ثلاث جهات. وسكانها الأوائل هم قبيلة العبري العمانية لذلك سميت «مسفاة العبريين».
حكايات شبيهة بألف ليلة وليلة، غامضة رغمًا عنها، مخبأة في كل بيت مهجور هنا، عن قصص الجن المتوارثة لسنين طويلة، روت لي بعضها هذه السيدة، عن الجن الذي يختطف الغرباء ليلًا ليجدوا أنفسهم خارج البلدة صباحًا. والأموات الذين يظهرون ويتنزهون ليلًا في الحي القديم. والنيران ذات اللهب الخضراء التي تشتعل في أحد المنازل المهجورة ليلًا.
وصلنا جنوب البلدة بالقرب من المساكن الحديثة إلى مكان يسمى (السيبان) وهو أفضل موقع لمشاهدة صورة كاملة للبلدة والمدرجات والبساتين الخضراء ومن فوقها البيوت الطينية الأثرية، والتقاط الصورة التذكارية.
من أجمل مشاهد البلدة المدرجات المزروعة بجميع الثمار. أخذنا نزهة جميلة داخل هذه البساتين المزروعة بالموز والبابايا والمانجا والليمون وأشجار النخيل. رأينا مزارع يتسلق أحد الأشجار صعودًا وهبوطًا ليقطف الثمار، وعند اقترابنا منه أكثر قدم لنا بعض ثمار المانجا ترحيبًا بنا.
يوجد الكثير من الأفلاج الطبيعية أيضًا هنا. والتي شاهدناها في أكثر من مكان في عمان، وهو عبارة عن نظام للري يتكون من قنوات محفورة في الصخور صنعت يدويًا، تتصل جميعها بالينابيع الجبلية. ويتدفق الماء فيها ببطء على مسارها ويتفرع ليروي الحقول والبساتين المتدرجة المتناثرة على أطرافه، وينصب في منتصف القرية في حوض كبير. وهذه الأفلاج هي الطريقة المثلى التي أصبحت بها الزراعة في هذه البلدة ممكنة. ويصل عمر بعض هذه الأفلاج إلى ثلاثة آلاف عام.
يوجد العديد من المقاهي في مسفاة العبريين وصلنا إلى إحداها «روغان». وهو أحد المشاريع الذي قام بها الجيل الجديد لأهل البلدة من الشباب العمانيين. المقهى رائع، يمزج بين الأصالة والمعاصرة، ويقدم أطباقًا عمانية تقليدية من المكونات المزروعة محليًا، المكان كان مزدحمًا، صعدنا إلى الطابق الأعلى للحصول على الإطلالة الأجمل من شرفة المقهى لمنظر غروب الشمس بين أشجار النخيل الشاهقة، والأفلاج والمساحات الخضراء والجزء القديم من البلدة. 
مضى الوقت سريعًا، ومع قدوم الليل قررنا العودة إلى مسقط. بعد أن حظينا بتجربة ثقافية أخرى فريدة في مسفاة العبريين بولاية الحمراء، بلدة ملونة كالفراشة، تحلق في سماء عمان، تفاخر بجمالها الذي لم يحرقه التمدن والتطور. قدمت لنا نظرة عميقة للتراث العماني الأصيل... ليكتمل هذا اليوم الجميل الذي سيبقى حتمًا في الذاكرة ■

كهف الهوتة

طريق القطار الذي يأخذك لمدخل الكهف 

صخرة على شكل رأس أسد تشكلت طبيعياً بفعل مياه الأمطار

بيت قديم رغم اندثاره بقي بعض جماله