الواقع النسوي في أعمال الفنانة التشكيلية علا الأيوبي

الواقع النسوي في أعمال الفنانة التشكيلية علا الأيوبي

التجارب الإنسانية التي نمر بها كأفراد في معترك الحياة، وما تحمله من مواقف متتالية، نتعرض لها بين الحين والآخر، لتنتشل من دواخلنا كل ما هو مكنون ومكتوم، وتظهره بأشكاله المختلفة على أرض الواقع حسب الميول واهتمامات الفرد.
وما إن نتكلم عن الفن التشكيلي وإحساس الفنان تجاه ما يدور حوله، وكيف يتمكن من أن يستلهم من واقعه ويظهره على هيئة عمل تشكيلي متكامل الأبعاد يحاكي ويخاطب قضية ما، ويكون السبيل للبوح عن رأيه وأفكاره بأسلوبه الخاص ومن منطلق التقاء الموهبة بالشغف الذي يتملكه منذ الطفولة، حتى نلحظ جمال وعمق المنتوج الفني الذي يتجاوز حدود البدايات مع الوقت ويثبت نفسه بهوية واضحة في الوسط التشكيلي.

علا الأيوبي، فنانة تشكيلية سورية مواليد 1973، امرأة متفرّدة منذ طفولتها بإصرارها وأسلوب فرشاتها وألوانها العاصفة وارتجاليات الخطوط في أعمالها، وتداخل العناصر المجسدة للأنوثة التي تغزو أعمالها مكوّنة بها توجهات واضحة حول قضايا المرأة المستحقة، وليكن العمل الفني بالنسبة إلى علا هو المنبر الذي تجهر به عن أفكارها وصرخاتها أحيانًا، متمثلة في الألوان الكثيفة على أسطح العمل والمجموعات اللونية والضربات الحادة والتكوينات التي تطلقها علا كإشارات رمزية في العمل الفني.
كانت البدايات داخل الأسوار المدرسية وبين جدران الفصول، التي ابتدأت بها علا في وقتها بالنحت وتشكيل النحاس لبورتريهات مختلفة لمطربي العالم العربي وبعض الوجوه السياسية والفنانين وملامح الصديقات والأهل، إلى أن تبلورت لديها فكرة التوجه الفعلي في المستقبل لدراسة الفن التشكيلي وتعزيز الموهبة بالدراسة الأكاديمية.
إلا أن الكثير من الأمنيات لا تتحقق لسبب أو لآخر، وكان توجه الفنانة الأكاديمي لدراسة الرياضيات والأرقام -  كلية العلوم / جامعة دمشق، وليظهر في وقتها الأثر الإيجابي من ذلك التخصص على جودة العمل الفني وقوة طرحه ومساهمته في تطوير الأسلوب المتبع في التكوين واختيارات عناصر الترميز المحورية في أعمالها، إلى جانب تمكنها من تفكيك الشفرات التي تواجه الفنان أحيانًا أثناء بناء العمل الفني لما للأرقام ولحلّ المعادلات الرياضية وتلك الممارسة الحسابية من تمكين عقل - ويد الفنان - من إيجاد الحلول الذكية في العمل الفني.

معلمة لمادة الرياضيات 
بدأت علا في سلك التدريس معلمة لمادة الرياضيات في وزارة التربية بدولة الكويت للمرحلة الابتدائية - وعملت بين مدرستي عبدالله بن رواحة 2004 - بنين، ومدرسة النزهة الابتدائية – للبنات، وكان على هامش التدريس وممارسة دور معلم الرياضيات في ذلك الوقت غليان الموهبة وحب الرسم والتشكيل الذي دفع الفنانة لأن تعيد بناء نفسها من جديد،  وعزمت على دراسة الفن والعودة إلى دمشق عام2011  معهد الفنون الجميلة، تحقيقا لحلم الطفولة، ومن هنا كانت الانطلاقة الواضحة لمنعطف كبير أثر إيجابًا على المنتوج الفني لدى علا الأيوبي بعد رجوعها إلى دولة الكويت وحصولها على الشهادة الأكاديمية للفنون التشكيلية - معهد الفنون الجميلية / دمشق.
تمحورت أعمال علا الأيوبي في الوجوه الأنثوية التي تصدرت لوحاتها وركزت على ملامح المرأة الجميلة وبتباينات الألوان الجريئة القوية المزدانة بالورود والأزهار المتداخلة مع البورتريهات بألوانها البهيجة، متخذة لفلسفة الفيلسوف الألماني بومجارتن جوتلب 1714 - 1765 - الإستاتيكا Aesthetics   - نمطًا أساسيًا ترتكز عليه أثناء بناء العمل الفني في إظهار جماليات الطبيعة وصدق الفنان التشكيلي في ترجمة إحساسه ومشاعره التي تعكس صورة دهشته في الأشياء إلى جانب التكنيك الذي يستدعي تأمل جماليات العناصر والرموز ودلالات العمل باعتبارها دراسة حسية تظهر على السطح.
 وباستمراريتها في هذا المنتوج تمكنت من أن تفتح منافذ عديدة وزوايا مختلفة لتمسك بقبضة ألوانها وفرشاتها للتعبير عن مختلف المواضيع المتعلقة بالمرأة في ارتجاليات الخطوط السوداء الحادة بطبقات مختلفة على هيئة شبكات العنكبوت المتداخلة والتي ترمي بها الفنانة إلى الصرخات الصامتة أحيانا وصوت المرأة المكتوم أو لخطوط الذكريات التي تعتري تفكير الإنسان، واستطاعت أن تأخذ بأعمالها بعضًا من المناحي السياسية - المتوارية خلف العناصر- وعبر الخطوط والخرائط لحدود الدول العربية وسورية على وجه الخصوص بفعل الدمار والحروب التي أهلكت الأرض ومن فيها، والتي شكلت سببًا رئيسًا في إقدام الفنانة على الهجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
وواصلت علا إنتاجها الفني، وتمكنت عبر التكوينات الجلية في أعمالها والتكنيك المتبع، والتي تجاوزت الوجوه والملامح إلى الاهتمام بمناطق ارتكازية بمساحات البورتريه والتحليل الذي تفرَدت به علا في البورتريهات، ففي مرحلة ما ألغت فيه عنصر الأنف وأهملته عن عمد في الوجوه وارتكزت على الشفاه المكتنزة والعين فقط مع انسيابية التدرجات اللونية – وكانت هذه المجموعة لفترة مؤقتة وانتقالية لأسلوب علا الذي تميزت فيه وهو تركيزها الواضح والأخّاذ على نظرة العين وبريق البؤبؤ وضربات اللون اللامعة الصريحة والواضحة مع تشابك المربعات والزخارف في قلب العيون لتختزل ما أرادت التعبير عبر هذا البريق ولتكون نافذة للتعبير عمّا نعجز أحيانًا عن التعبير عنه في اللغة، لتباغتك أعمال الفنانة بكل ما تحويه من الشعور الأنثوي الذي يغلبه الضعف ربما أحيانًا وليظهر على شكله الصارخ أو الصاخب بإيقاعاته اللونية في العمل ما بين الانطباعية والتعبيرية لضربات اللون قاصدة إظهارها بتلك البقع الجميلة التي تميزت بها حول ازدواجية الصور وتحليل البؤبؤ ونظرة العين لتعكس مشاعرها تجاه العالم.
في رصيدها معارض عديدة بدولة الكويت 2007 ودار الفنون 2008  وغاليري بوشهري 2008 و2010،  وغاليري الغديري 2010، ومتحف الفن الحديث 2011، وغاليري مجموعة بوشهري 2015.
وبهجرتها إلى الولايات المتحدة الأمريكية استقرت علا في ولاية ماساشوستس، وأقامت معرضًا شخصيًا بموضوعه الفلسفي بعنوان (فاكهة الجنة)، والذي قدمته بإحساس ظاهر للعيان عن عمق الفكرة في تكوينات اللوحات التي تمحورت حول تغلب جوانب الخير والشر في النفس البشرية وعلى السلوك الإنساني، وارتكازها على ثمرة الجنة – الرمان – بلونها القرمزي الداكن دلالة على دم الشهيد أو الروح التي فارقت الحياة أو ربما الرمانة التي سقطت وفجرت مدنًا وأراضي وأحرقت زهور الربيع على رقعة شطرنج - رقعة الأرض التي وضعتها علا في أعمالها بتلك المربعات المتناقضة، لتكون حلم وطن، محمولًا على عاتق أنثى، تحمله على كتفها محبة وانتماءً لهذه الأرض.

قراءة وتأمل بأعمال الأيوبي
اتسمت أعمال علا الأيوبي بقوة التعبير اللوني وجرأة اختيار المجموعات اللونية في خلفيات العمل الفني وعناصر التكوين إلى جانب تحليل المساحات في طبقات اللون بين شفافية العناصر أحيانًا وكثافتها بمناطق أخرى من العمل الفني، وهو ما يضيف إلى ثقل الموضوعات جانبًا آخر من القوة في الطرح، ويتيح المجالات الواسعة من المساحة التي تتعدد بها أوجه قراءة العمل الفني وفهمه، فلك أن تتوه في التجسيدات المرسومة أو أن تتأمل الطبقات اللونية كقراءة ثانية وثالثة تندهش منها ومما يمكن استقراؤه بالتحليلات العميقة في كل تكوين.
وفي أعمالها التي أثبتت بها علا هوية تفردت بها عبر مسيرتها الفنية لتضيف معرضًا آخر أقامته في الولاية ذاتها، متخذة الحشرة المسالمة الحمراء ارتكازة أساسية في هذه المجموعة - تلك الحشرة التي يتفاءل بها الكثير ويستبشر بوجودها إن حلت بمكان ما، أو إذا حطت بأجنحتها الصغيرة على بقعة أرض - وكعادة فنانتنا في الترميز، اختارت تلك الحشرة الصغيرة أن تكون العنصر الرئيسي للمعرض الشخصي الثاني الذي أقامته في الولايات المتحدة الأمريكية، للتعبير عن السلم والأمان ومحاولات التفاؤل والإيجابية، والتي عمدت من خلاله الفنانة لأن تبالغ بحجمها أضعافًا مضاعفة عن حجمها الطبيعي، لتكون هي بؤرة العمل الفني من دون أن تغفل توازن التكوين ونضج الفكرة، فكانت (الليدي بيرد) ركيزة المعرض وبتمثيل اللون القرمزي ذاته في الوجوه بأعمالها السابقة.

تناول الوباء بأعمالها
 تستكمل علا، مثلها مثل معظم الفنانين المعاصرين في تناولهم لموضوع الوباء العظيم الذي باغت العالم بما فيه، ولترتجل بخطوطها التعبيرية ذاتها عن هذا الموضوع العالمي بالطريقة التي تمثل فرشاتها، كأنها تخاطب اللون وتحكيه عبر التجسيد المركَّب وبازدواجيات الخطوط عبر تداخل اليدين في عمق الفيروس الكبير، كأنها تضفي على هذه المعضلة بعضًا من الأفكار التي شلّت تفكيرنا وأربكتنا كبشر من خلال عقدة الأيدي الواضحة في العمل، مجسدة هذه المرأة المقيدة، بوجود فيروس لئيم أتعبنا وأهلك قوانا، لتتضاعف الخطوط المرسومة بهذا الشكل المركَّب،  والتي لا تجد كمتلقٍ غير أن تلمح (مجموعة إنسان) يحمل بين طياته أكثر من مجرد جسد، هي المشاعر التي تملكتنا، هو الخوف والقلق والانتظار ومحاولة الحفاظ على ما تبقى من الروح  ■