الجزائري شمس الدين بلعربي رسام البوستر العالمي

الجزائري شمس الدين بلعربي رسام البوستر العالمي

يعتبر فن رسم البوستر من بين الفنون التقليدية، ويُعنى برسم الملصقات الدعائية للأفلام والإشهارات والحملات الدعائية، وغيرها. وتستعمل الألوان الجذابة في إنجاز البوستر لإخراج مضمون الفيلم، وإبراز توجهه العام، سواء كان فيلمًا دارميًا أو روائيًا أو وثائقيًا، أو تعلق الأمر بأفلام الرعب، وغيرها.

 

بداية هذا الفن كانت في الغرب، حيث أصبح تصميم الملصقات شائعًا عند الفنانين الأوربيين في القرن التاسع عشر. وفي نحو عام 1866 بدأ الفنان الفرنسي جول شيريه بإنتاج أكثر من ألف ملصق ملون من الحجم الكبير باستخدام الطباعة الحجرية الملونة التي كانت حديثة الاختراع. وفي تسعينيات القرن التاسع عشر اكتسب الفنان الفرنسي هنري دو تولوز لوتريك شهرة بسبب تصاميمه الجميلة للملصقات التي صممها للمسارح ولقاعات الرقص. كما صمم عدد من الفنانين في القرن العشرين ملصقات تم جمعها على أنها أعمال فنية. عرف اليونانيون، أيضًا، بتطوير فن البوستر ليصل إلى مستويات عالية، وهو ما جعل لهذا الفن اليوم في الغرب مكانة مرموقة.

مصر رائدة «البوستر»
تجدر الإشارة إلى أن رسم البوستر عرفته مصر، وهي عرابة هذا الفن في العالم العربي، وبعدها سورية، قبل أن يشاع هذا الفن في باقي البلاد العربية. ويرى أحد المختصين العرب في هذا الفن، أن الفضل في صناعة البوستر بالدول العربية يعود إلى المصريين، فهم الذين اهتموا كثيرًا بهذا الفن.
ورغم ذلك، لا يوجد استثمار في فن رسم البوستر بالعالم العربي، كما أنه لا وجود لمدرسة واحدة في العالم العربي تعلم هذا الفن؛ إذ ظل حبيس المتاحف، وإن كانت تلوح في الأفق بعض بوادر التقدم نحو اعتناق هذا الفن في بعض الدورات التدريبية النادرة، هنا وهناك.
من المعروف أن مخيلة رسام البوستر تسهم بدرجة كبيرة في الإخراج المناسب للبوستر؛ إذ يجب على الفنان أولًا قراءة ملخص سيناريو الفيلم أو ما يسمى بـ(synopsis)، حتى يتمكن من تركيب فكرة ملصق الفيلم، حسب الشخصيات الرئيسة فيه. وعندما يتشكل البعد الفني للملصق في مخيلة الفنان ينتقل إلى مرحلة تطبيقه وإخراجه، وهنا على الفنان اختيار الألوان الثلاثة المتناسقة مع موضوع الفيلم، فمثلًا إذا كان الفيلم من صنف «أفلام الرعب»، فإن الفنان يضطر لاستعمال الألوان الأحمر والأسود والأزرق القاتم. أما إذا كان الفيلم من صنف «أفلام رعاة البقر» أو من نوع الأفلام التي تدور أحداثها في الصحراء فيستعمل الفنان الألوان الأصفر والبرتقالي والبني، وهكذا مع باقي أصناف الأفلام، فالألوان المستعملة في رسم بوستر الفيلم يجب أن تجعل المتلقي أو المتفرج يشعر بالجو الخاص للفيلم الذي سيشاهده.
فضلًا عن هذا هناك شيء مهم في البوستر، والذي يعتبر مركز جذب الجمهور، وهو ما يسمى بـ (النقطة الذهبية) للبوستر، وهي جوهر البوستر أو نقطة الجذب فيه، بمعنى أن شيئًا ما داخل البوستر هو الذي يجذب المتفرج إليه، ويجب أن تكون له علاقة مباشرة مع عقدة السيناريو، مثلًا بريق النظارات التي يرتديها بطل الفيلم، يجب أن يكون بريقًا غير عادي، بل مبالغ فيه ويمتد شعاعه إلى شيء ليس له علاقة بأحد ألغاز الفيلم، وغيرها من الأمثلة.

اللمسة الفنية
وللإشارة، فإنه مهما تطورت التكنولوجيا الحديثة في تصاميم البوستر، فلن تصل إلى مستوى اللمسة الفنية المميزة التي يضفيها عليها الفنان، هذا الذي يرسم الظل والنور بطريقة مبالغ فيها، بما في ذلك عمله على تضخيم عضلات البطل، بغاية لفت أنظار جمهور المتفرجين وانتباههم، وهذا مستوى تعجز عن إنجازه التكنولوجيا.
وفي هذا الإطار يعتبر شمس الدين بلعربي، الفنان الجزائري العالمي المعروف فنيًا باسم «شمسو بلعربي»، صاحب أشهر لوحات الأفلام الهوليوودية (أفيشات الأفلام) المرسومة باليد، وهو آخر فنان عالمي لا يزال يعمل بهذه الطريقة التقليدية.
وشمس الدين بلعربي، من مواليد1987، بقرية من قرى بلدية عين تادلس التابعة لولاية مستغانم غرب الجزائر. كان يرعى الغنم وهو في سن الخامسة من عمره. كانت تجذبه الصور البراقة لنجوم السينما المنشورة على صفحات الجرائد التي كانت تتطاير أمامه وهو يرعى الغنم، فكان يلتقطها من الأرض ويتمعن فيها ويرسمها باستعمال عود على الرمال. بدأ معلموه يكتشفون موهبته بعد أن انتقل إلى المدينة للدراسة وهو في سن السادسة، فازداد تعلقه بالرسم أكثر من اهتمامه بالمواد الأخرى التي كان يدرسها. نظرًا لفقر العائلة، اضطر شمس الدين بلعربي للتوقف عن الدراسة، فخرج إلى الشارع بغية امتهان الرسم حرفة، مثل تزيين المحلات التجارية والديكور، لكنه تعرض للاستغلال كثيرًا، من لدن مَن حاولوا امتصاص طاقته الفنية، وإن كان أحيانًا يلتقي أناساً ممن اعتنوا به وقدموا له يد المساعدة.

إقامته بالمدينة 
لقد مكنته إقامته بالمدينة، من أنه كان يمر بجوار قاعات السينما فيشاهد أفيشات الأفلام وملصقات كبيرة لنجوم السينما العالمية معلقة على أبوابها، وعندما يعود إلى البيت كان يرسم كل ما شاهده على أوراق الرسم، ونظرًا لظروفه الاجتماعية المزرية كان يلجأ إلى صناعة الألوان والفرشاة بنفسه، موظفًا في ذلك الورود وأوراق الشجر.
وبما أن شمس الدين بلعربي كان يعيش مع عائلته في بيت واحد، يطبخون وينامون فيه كلهم، عدا أن سقف البيت كان مكسورًا جزئيًا، فقد كانت الأمطار في فصل الشتاء تتلف الكثير من رسوماته، وهو ما جعله يفكر في إرسالها عن طريق البريد إلى الخارج، وتحديدًا إلى شركات الإنتاج السينمائية. اتهموه في البداية بالجنون، لكنه لم يستسلم، رغم عدم تلقيه أي ردود عمّا كان يرسله من رسومات، فواصل عمله في الشارع بكل مثابرة، فحصل أن تأثر وضعه الصحي بكل ذلك، فدخل المستشفى لمدة ثلاثة أشهر، ثم جاء اليوم الذي تلقى فيه رسالة من منتج أرجنتيني يعمل بالشراكة مع هوليوود، فعرف بأعماله في الأوساط السينمائية، كما تلقى رسالة من الممثل الهوليوودي ومبعوث الأمم المتحدة الخاص بالطفولة Vincent LYN، وهو من محبي الثقافة الإسلامية.
 هكذا بدأت الطلبات تنهال على شمس الدين من المخرجين والمنتجين الأجانب، فأنجز الكثير من ملصقات الأفلام العالمية، منها على سبيل المثال:Honor, Garra Mortal, The News of America, Bucks، وغيرها من الأفلام الهوليوودية والعالمية، وحصل أن رفض مجموعة من العروض لتصميم ملصقات أفلام، وجد أن مضمونها يختلف عن عقيدته الدينية وثقافته العربية الإسلامية.
عرضت أعمال شمس الدين الفنية في مهرجان كان السينمائي الدولي، ومهرجان الأوسكار وسيزار، فشاهد أعماله الممثل العالمي Jimmy GOURAD TONG، ثم جاءت دعوته إلى المهرجان العالمي للسينما بمراكش، كما دعاه الممثل الهوليوودي الشهير المسلم محمد قيسي، وهو من أساطير هوليوود، وله أفلام شهيرة رفقة «روجي مور» و«جان كلود فان دام»، وغيرهما.
يعتبر الفنان الجزائري شمس الدين بلعربي اليوم من بين أشهر رسامي «البوستر» في العالم، بشهادة كبار الفنانين ومنتجي الأفلام العالميين. وكان أول بوستر صممه الفنان شمس الدين هو RAVANCHA من بطولة الممثل العالميJean Manuel Olmedo، الذي حقق شهرة واسعة في أمريكا اللاتينية وتلقيًا خاصًا من قبل النقاد، كما أعاد تركيب رسم ملصقات أفلام الويسترن.
كانت ميوله لرسم هذه البوسترات لكونها أكثر تقليدية وجمالًا من الناحية الفنية، ولها وقع فني عميق جدًا، وتحتوي على تفاصيل جميلة وألوان متناسقة من حيث التقنية التي استخدمها الفنان.

فن ومفهوم جديدان
وبما أن التكنولوجيا اليوم طغت على البوستر الرسمي للأفلام، فالفنان شمس الدين يحاول دمج الصورة الفوتوغرافية بتقنيات الفوتوشوب للبوستر، محافظًا على اللمسة الكلاسيكية للبوستر، وبهذا أصبحنا أمام فن ومفهوم جديدين يدمجان البوستر الأصيل بالمعاصر، وهذا ما أثار إعجاب نقاد السينما العالمية والعربية وجذبهم لهذا الفن الذي قام الفنان شمس الدين بإخراجه من المتاحف إلى المهرجانات السينمائية العالمية.
لم يفكر الفنان شمس الدين بلعربي يومًا من الأيام، في أن تكون أعماله الفنية تجارية، حتى ووضعه الاجتماعي كان صعبًا جدًا، في بداية الأمر، غير أنه شيئًا فشيئًا بدأ يستفيد من مردود أعماله في مجال هذا الفن، فبدأت حياته تعرف تغيرًا بشكل ملحوظ، لكن ليس بذلك الشكل المرتجى، فازدهار هذا الفن يبقى في الغرب فقط، وهو ما جعل بعض البلدان من أوروبا وأمريكا وأمريكا اللاتينية تقدم لهذا الفنان عروضًا، لكنه لم يقبل بها، لكونه أحب أن يناضل من أجل فتح مدرسة في العالم العربي لتعليم فن رسم البوستر، وذلك لما يعانيه الشباب في بلده، ممن ليس لهم مستوى دراسي معين، من حرمان من دخول مدرسة الفنون الجميلة.

شهرة عالمية
حقق الفنان شمس الدين شهرة واسعة في أمريكا وغرب أوروبا وغرب روسيا، بمثل ما اشتهرت قصته مع رسم البوستر في الوطن العربي، اعتبارًا لما قدمه له هذا الفن من شعور بالسعادة، فهو الذي أنقذه من المعاناة والفقر والحرمان، رغم شعوره بأنه لا يزال في بداياته، والطريق ما زال طويلاً.
ومن بين من ساعدوا الفنان شمس الدين على اعتناق هذه المغامرة الفنية يذكر والديه اللذين قدما له ما كان يحتاجه لإنجاز أعماله، رغم فقرهما، فضلا عن دعم معلميه وبعض الناشطين في المراكز الثقافية، وأبناء منطقته من المخلصين الذين كانوا يشجعونه طوال الوقت. ورغم أن هذا الفنان يتلقى التشجيع الشعبي، فهو يشتكي من تقصير القائمين على الثقافة في بلاده، ومن غياب الاهتمام بأعماله، بل إنه لم يحصل بعد حتى على «بطاقة الفنان»، لكن «شعبيته» تبقى بالنسبة له أكبر اعتراف به وبأعماله. كذلك نشير إلى شكواه من نقابة التشكيليين ببلاده، التي لا تعترف بفن رسم البوستر كفن قائم بذاته، لأنه لا وجود أصلاً لصناعة سينمائية في الجزائر، على حد تعبيره، ولا لجهة وصية هناك، على الصناعة السينماتوغرافية.
للفنان شمس الدين بلعربي أعمال معروضة في المركز السينمائي الجزائري، كما أن بعض ملصقاته معروضة في جنيف بمكتب اليونيسكو، والتي عرضت في مهرجان سويسرا للفيلم الشرقي، وتم نشر أعماله بكتاب خاص في سويسرا، فضلًا عن أعمال فنية أخرى معروضة في دار الأوبرا في مصر. وله أعمال معروضة في بعض استوديوهات هوليوود، وفي بعض بيوت نجوم هوليوود، وفي أماكن أخرى بالعالم، وهو ما جعل اسمه يسجل في القاموس العالمي للسينما العالمية.
كان المغرب أول بلد يكرم الفنان شمس الدين بلعربي، وهو يعترف بأن المغاربة هم من عرّفوا بأعماله في الغرب، كما لا ينسى فضل المنتج المغربي الهوليوودي Maître Mahla عليه، حيث يذكر أنه زاره شخصيًا في الجزائر، وعاد لزيارته ثانية على رأس وفد من مهنيي السينما، حيث قاموا بتكريمه في حفل كبير، باعتباره آخر فنان ما زال يصمم أفيشات الأفلام يدويًا عن طريق الرسم. ويذكر كذلك بتقدير بالغ فضل المغرب عليه في كونه فتح أمامه أبواب المهرجانات السينمائية، من بينها دعوته لحضور المهرجان الدولي للسينما في مراكش، حيث تم استقباله هناك بترحاب كبير.
دخل الفنان شمس الدين بلعربي، وبعد أن حقق حلمه في الوصول إلى العالمية ورغم مسار حياتي شاق وعصامي، في تجربة فريدة مع تصوير فيلم وثائقي بعنوانCHEMSEDDINE، والذي يختصر حياته، منذ طفولته في قريته الصغيرة بمستغانم، حيث قضى طفولة صعبة، في ظروف عائلية مطبوعة بالفقر الشديد والحاجة، ما جعله يلج عالم الكبار بمزاولة بعض الأعمال الشاقة لمساعدة العائلة. يشارك في الفيلم ممثلون مغاربة وجزائريون، وتكمن الغاية من هذا الفيلم، في كسر العراقيل التي تحول دون إنجاز مشاريع ثقافية مشتركة. وتقاسم كتابة سيناريو الفيلم الفنان شمس الدين نفسه مع الكاتب الأمريكي دافيد موريل، ويقوم بإخراجه الأمريكي جورج بليري. والفيلم من إنتاج مؤسسة هوليوود العالمية، وتم تصوير لقطات منه داخل البيت الأبيض الأمريكي، بتيسير من الرئيس الأمريكي الأسبق «باراك أوباما»، الذي أعطاه ترخيصًا للتصوير، بعد قراءة أوباما مقالًا عن مسيرة الفنان شمس الدين بلعربي في مجلة «مؤثرون» الأمريكية الشهيرة، والتي قدمها له أخوه ومستشاره مصطفي أوباما، وهي المجلة نفسها التي اختارت هذا الفنان شخصية مؤثرة لعام 2020 ، اعتبارًا بمسيرته الفنية العالمية ودوره في ترسيخ مكانة فن الملصقات عالميًا. وقد شارك معه في التعليق الصوتي للفيلم الممثل العالمي علي أحمد سالم، صاحب دور «بلال» في فيلم «الرسالة» لمخرجه الراحل مصطفى العقاد.
 وهذا الفيلم موجه أيضًا لنشر الثقافة الإسلامية، حيث يتم خلاله نشر مقاطع من القرآن الكريم بصوت الشيخ محمد رفعت، رحمه الله، بعد أن حصل على الموافقة من حفيدته هناء رفعت، كما ستظهر فيه جوانب من الحضارة الإسلامية، مجسدة في الزخارف الهندسية بالبنايات والمساجد.
كما يهدف الفنان شمس الدين بلعربي من وراء هذا الفيلم إلى الاحتفاء بعلاقات الأخوة بين الشعبين المغربي والجزائري، وتكسير العراقيل التي تقف أمام تحقق المشاريع الثقافية بين هذين البلدين الشقيقين، المغرب والجزائر، وهو ما جعله يهدي الفيلم إلى روح الشهيدين، الطفل ريان من المغرب والشهيد جمال بن سماعيل من الجزائر ■