«خِفّ تعوم»

«خِفّ تعوم»

«خِف تعوم»، أي: كن خفيفًا لتستطيع العوم، وهو مَثل سمعته لأول مرة في مدينة العقبة، المنفذ الأردني البحري الوحيد على البحر الأحمر، عندما عيّنت بها مُعلمًا عام 1991. وهو مَثل من البيئة العقباوية التي تتعامل مع البحر سباحة وغوصًا وصيدًا وإبحارًا ومدًا وجزرًا. وهو مَثل يمكن تعميمه ليشمل كل ما يتطلب الخفة والرشاقة واللطف واللين والمرونة والبساطة من أجل علاقات أوثق وحياة أفضل.
كن خفيفًا لطيفًا إذا زرت، ولا تُطل المقام، غادر وهُم في شوق إليك، ولا تكثر من الزيارات، و«زر غبًا تزدد حبًا» كما أرشدنا الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم. وتحدث بكلام جميل، لا يجلب السأم أو الملام أو التأويلات الجائرة، وليكن مزاحك – إن فعلت – مرحًا لا يسيء لأحد، بل يجلب الابتسامة النابعة من القلب، ولا يقلل من احترامك. وفي العمل تلطف وترفق بزملائك، وكن لهم نسمة صبًا لا عاصفة هوجاء أو غبارًا مؤذيًا، وليكن حضورك في البيت محببًا، ووجودك مرغوبًا، وإياك إياك أن يكون غيابك فرحًا وحضورك ترحًا.
الحياة لا تحب الثقلاء، والمتكبرين، والمتبجحين، والمتعالين، والنرجسيين، والمنتفشين، والمزهوين، ومن على شاكلتهم، هؤلاء الذين خاطبهم أبو العلاء المعري:
خفّف الوَطْءَ ما أظنّ أَدِيْمَ الـ 
 أرض إلا من هذه الأجساد
فعلام تتكبر وتنتفش وأنت تراب تمشي على تراب تراكم من تحلل أجساد أسلافك؟!
الحياة والناس بشكل عام في كل تعاملاتهم وعلاقاتهم وأحوالهم لا يحبون المتعالم المتعالي، ولا يحبون من يُنَظِّر عليهم ويرى نفسه أفضل منهم، ولا يطيقون من يعاملهم بدونية واستخفاف.
في المقابل، عندما تكون خفيفًا لطيفًا يتقبلك الناس، ولا يحتاجون أمامك للتكلّف ولبس الأقنعة، وفي الغالب ستكون محل ثقتهم، وكاتم أسرارهم، يفضفضون إليك، لأنهم يأنسون بك، وتطمئن قلوبهم بوجودك، فأنت لهم فرجة أمل، وباقة ورد، ونسمة عليلة في لظى حياتهم.
الناس يحبون ويقدمون المتواضع، الرفيق بهم، المؤنس لوحشتهم، المستمع إلى همومهم، الذي يكون على قلوبهم أخف من ريشة، لكن أثره عظيم، وسمعته طيبة، لا يتدخل فيما لا يعنيه، ويبادر إلى كل خير، ولا يستأثر دونهم بشيء، يتقدم عند المغرم، ويتأخر وقد يغيب عند المغنم، هو منهم و لهم، على شاكلتهم، ومن طينتهم.
لكن الخفّة لا تعني أن تكون سطحيًا أو هلاميًا أو زبدًا، بل أن تكون ثقيلًا، وثقيلًا جدًا، غير أنك تُتقن فن العوم، مثل السفينة الثقيلة الضخمة تجري على سطح البحر ولا يستطيع أن يجاريها مسمار مهما خفّ وزنه، لأنه ببساطة يُكشِّر عن أنيابه، ويستخف بالماء، فيلقّنه البحر درسًا قاسيًا، بأن يجره إلى الأعماق ويدفنه هناك ■