كتاب «بدايات حكايات وتقاطعات» حفاظاً على الهوية واعتزازاً بالتراث

كتاب «بدايات حكايات وتقاطعات» حفاظاً على الهوية واعتزازاً بالتراث

عشت سبع سنوات في مدينة المحرق من 2010 إلى 2016، وكنت وقتذاك بمنصب مستشار الحفاظ والترميم لوزارة الثقافة بالبحرين (الآن: هيئة البحرين للثقافة والآثار)، عملت في العديد من مشروعات الحفاظ على التراث فيها، ومؤخرًا قمت بزيارتها وإلقاء محاضرة بمركز الشيخ إبراهيم عن التراث والتنمية المستدامة، وبعد المحاضرة أهدتني الشيخة مي بنت محمد آل خليفة كتابها الأخير بعنوان «بدايات حكايات وتقاطعات»، وقرأته ووجدت فيه دروسًا يمكن أن تفيد العالم العربي في الحفاظ على الهوية، والاعتزاز بالتراث المحلي، لذا كتبت هذا التحقيق المتواضع لأسلط الضوء عليه لكنني أبدًا لن أعطي للكتاب في هذه الكلمات المختصرة حقه.

صفحات «بدايات حكايات وتقاطعات» هي مزيج من أسطر مطبوعة، وكلمات مكتوبة بخط اليد ومن القلب، وصور ورسومات جميعها تسطر بداية طريق التنوير في مدينة المحرق، هي صفحات مصارحة إنسانية لشخص أحب التراث، وآمن بأن في التاريخ قيمة ومصدرًا للبحث عن النفس. 

إعادة اكتشاف «المحرق»
تبدأ الرحلة بإحياء ذاكرة الجد الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة وإعادة اكتشاف مدينة المحرق في البحث عن البيت والدعم الأسري لشراء الأرض وتأسيس المركز على الرغم من الشكوك في أنه سيأتي أحد لأزقة المحرق التي استبدلت آنذاك الهيكل الديموغرافي وأصبح معظم فرجانها سكنًا للعمال العزاب، ورويدًا رويدًا، بيتًا تلو الآخر يطرح البحث عن الذات والاعتزاز بالهوية، مؤسسات تنويرية ينقشع من حولها الجهل، وتستقطب نور طريق التطور، ويتم تأسيس إحدى أهم قاعات مركز الشيخ إبراهيم والتي تستقطب الفنانين والمثقفين وأهل العلم والعلوم من جميع أنحاء العالم، بيوت تحتفي من جديد بقيم تاريخية وعمرانية كامنة بها، مثل بيت عبدالله الزايد لتراث البحرين الوطني، بيت محمد بن فارس لفن الصوت الخليجي والقاعة الموسيقية التي ألحقت به مرفوعة على أعمدة لتعرض أطلالًا أموية لتؤصل تاريخ المدينة الأصيل، و«بيت الشعر إبراهيم العريض»، «عمارة بن مطر»، و«ذاكرة البيت»، وبيوت ترى حياة جديدة من خلال خدمات مجتمعية تثقيفية مثل «اقرأ» بنسختيه و«ابحث»، وبيوت تحيي الفنون والحرف التقليدية مثل «بيت الكورار»، و«حرف الديار»، و«دار الفن» و«بيت التراث المعماري»، و«بيت النوخذة» وهو البيت الذي نبعت منه فكرة تسجيل المحرق على قائمة التراث العالمي عام 2012 لتكون شاهدًا على صناعة اللؤلؤ وأملًا في إحياء اقتصاد جزيرة المحرق، ومشروعات تدعم فكرة استدامة التراث والتوافق مع البيئة المحلية المتمثلة في «الحديقة العمودية» و«الركن الأخضر»، وبيوت أعيد استخدامها لتطرح خدمات افتقدتها المدينة التاريخية مثل المطاعم في «عمارة بوزبون»، و«لقمتينا» و«بيت القهوة» وفنادق مثل «النزل» في شمال المحرق و«نزل السلام» جنوب المحرق، وكل مبنى يساعد على الارتقاء العمراني المحيط، الأمر الذي وضح جليًا في محيط مركز الشيخ إبراهيم، وذلك من خلال تهيئة طريق الحي وفراغ عمراني عام مميز بحديقة مائية تعمل على تلطيف الجو من جهة ويفتخر وينتمي لها أهل الفريج من الجهة الأخرى، وامتدت أيدي التنمية للمنامة في «منامة القُصيبي»، و«ذاكرة المنامة في بيت خلف»، وكل بصمة في المدينة لها حكاية خاصة جدًا عن الشيخة مي، لتسرد كيفية تبلور الفكرة، وتذكر الداعمين لها من أشخاص وهيئات آمنوا جميعهم بالحلم، وعدد من المهندسين المعماريين ومهندسي الديكور، والمرممين، ومصممي العروض تذكر أسماءهم الشيخة مي بفخر واعتزاز كأنها ترسم لوحة لنفسها يحوطها محبو الفن والثقافة والعلوم، والنجاح في صياغة وإنهاء مشروع يقود للآخر حتى وصل عدد المشروعات إلى ثمانية وعشرين مشروعًا تنمويًا، يعد كل منهم فخرًا لأي انسان يحلم وينفذ، فما بالك بهذا العدد من المشروعات تقوده سيدة تؤمن بأن التراث هو «النفط الذي لا ينضب، وشغوفة بتاريخ وطنها». 

قائمة طويلة من الأحلام
الأحلام تتوالى وقائمة طويلة أباحت عنها الشيخة مي في كتابها، لكنني على يقين بأنها فقط قائمة مختصرة من أحلام كثيرة في جميع أنحاء مملكة البحرين والعالم العربي. طبيعة المشروعات المطروحة تدعم أهداف التنمية المستدامة بركائزها الثلاث: المجتمع، والبيئة والاقتصاد، إلا أن للركيزة الأخيرة لم تفعل بعد كما أفصحت الشيخة مي بتنويهها عن كم المصروفات التي تتحملها لصيانة وتشغيل هذه المشروعات.
 «تقاطعات» عمل الشيخة مي في صفوف المجتمع المدني مع عملها الرسمي كوزيرة ثقافة ثم رئيسة لهيئة البحرين للثقافة والآثار، هي وقفات تسردها لتوضح أن العَمَلين يتكاملان في إحياء تراث الوطن، وكل منهما يحتاج الآخر، العمل المجتمعي والتنموي الجاد يحتاج إلى مؤسسات الدولة لتعظيم مردوده، وهو الأمر الذي نادت به الشيخة مي أحيانًا كثيرة، وعانت من تجاهله أحيانًا أخرى، وهي تسرد هذه الوقفات بكل شفافية، وبتوثيق جاد ليصبح هذا الكتاب مرجعًا أكاديميًا للباحثين في مجال التراث في البحرين والوطن العربي.
تكتب الشيخة مي عن بيوت وساحات للحي، وهي الشق العمراني الملموس من التأثير الإيجابي، وتضيف بابًا عن إصدارات دعمها المركز لدراسات أصحابها فارقوا حياتنا، فتسارع الشيخة مي إلى لملمة هذه الأوراق ونشرها قبل أن تؤول للضياع، لكن بجانب هذا وذاك هناك قيم لم تسطر بعد، وهي تخص إعلاء قيمة الثقافة والتراث وربط المجتمع المحلي بحراك تنويري واسع المدى. في كل بيت وتجربة تزرع الشيخة مي في محيطها حبًا وشغفًا، وتفانيًا، لتبرهن أن الهوية هي ما يبقى، وأن التاريخ لا يمحى، صفحات توضح كمّ الحب والإيمان بقدرة النفس، ليفيض ويحتوي مدينة أصيلة، مدينة المحرق، وثقافة وطن وأمة ■