رحلة «عابر إلى الضباب» بين تسريد الذاكرة وسلطة الثقافة

رحلة «عابر إلى الضباب» بين تسريد الذاكرة وسلطة الثقافة

صدر مؤخرًا عن دار سليكي أخوين كتاب «عابر إلى الضباب» للكاتب المغربي عبدالصمد الشنتوف. وهو مهاجر مغربي قضى ما يقارب ثلاثة عقود ونيف في إنجلترا. ويعتبر هذا الكتاب باكورة أعماله، ضمّنه تجربة هجرته إلى هذا البلد ووصف معاناة المهاجرين العرب، وعرضًا للقدر العنكبوتي الذي ينسج خيوطه في غفلة من الإنسان.

 

لعل أول سؤال يطرحه هذا الكتاب هو سؤال التجنيس، إذ تشير العتبات إلى «يوميات»، لكن القارئ يدرك منذ بداية قراءته أنه أمام نص سردي رحلي يضم بين طياته معالم يوميات رحّالة عاش في بريطانيا لمدة ثلاثة أشهر بحثًا عن عمل. 

اليوميات والبنيات الخاصة
أقول هذا الكلام لأن كتابة اليوميات تشترط بنيات خاصة كالتنصيص على اليوم وساعة الكتابة، وتزامن الكتابة والحدث،... فهي وليدة اللحظة، أما انحرافها نحو الماضي فهو يسحب عنها صفة اليوميات ويدخلها في باب المذكرات أو السيرة. بالإضافة إلى ضرورة ارتفاع مستواها السيكولوجي، فاليوميات لا ترصد اليومي، بل ترصد ظلال الشمس، وتنظر إلى رجل المائدة بدل المائدة.
وترجع أهمية هذا الكتاب إلى أنه يراكم تجربة الكتابة السردية الرحلية المعاصرة التي تعاني من نقص كبير كما ومساحة جغرافية. فإذا كان تراثنا السردي الرحلي تراثًا غنيًا، إذ يتحدث الباحثون عن الرحلات الحجازية والزيارية والرحلات السفارية والرحلات الاستكشافية والرحلات العلمية والتجارية، فإن النصوص الرحلية المغربية التي انتحت في السنوات الأخيرة لا تكاد تتجاوز أصابع اليد، نذكر منها رحلة أحمد المديني «إلى أرض الله تليها الرحلة إلى رام الله» ورحلة عبدالله حمودي «حكاية حج: موسم في مكة» ورحلة عباس الجيراري «ثلاثون يومًا في الولايات المتحدة الأمريكية»...

فضاء بريطانيا
أما أهميته جغرافيًا فترجع إلى تغطيته فضاء جغرافيًا نادرًا في الرحلة المغربية المعاصرة وهو فضاء بريطانيا وعاصمتها لندن، ومحاولته إعادة التوازن بين النص الرحلي المغربي إلى إنجلترا من قبيل رحلة محمد الطاهر الفاسي «الرحلة الإبريزية إلى الديار الإنجليزية» ورحلة إدريس الجعايدي السلاوي «إتحاف الأخيار بغرائب الأخبار» التي شملت إنجلترا إلى جانب دول أخرى كفرنسا وإيطاليا وإسبانيا، والنص الحلي الإنجليزي الذي انفتح على الفضاء الجغرافي والثقافي المغربي منذ القرن الثامن عشر، فأنتج لنا عددًا من الرحلات المنضوية ضمن الرحلة السفارية والرحلة الاستكشافية، نذكر على سبيل المثال رحلة «مانغو بارك» و«هينري فيلد» و«نينا أبتن» و«آرثر ليرد» و«جون هورن» و«جون درامند هاي» و«جيمس غري جاكسون» و«كانينغهاج جراهام» و«والتر هاريس»...
كما يراكم هذا المؤلف، بنوع من التجوز، كتابة اليوميات التي تعاني هي أيضًا من نقص كبير مرتبط ربما بطبيعة الثقافة العربية، لأن اليوميات هي ضرب من الاعتراف، وهو طقس مسيحي يؤمن بالخطيئة الأولى، ولأن الثقافة العربية هي ثقافة قول لا ثقافة بوح. فأقصى ما يمكن أن يكشف عنه الكاتب العربي، كما يقول أحمد المديني، هو العورة الخارجية، في حين أن كتابة اليوميات، كما هو معروف في العالم، هي كتابة حميمة تخاطب فيها الذات نفسها من دون عقد أو عوائق، ويقوم فيها الشك مقام اليقين، كما أنها تصوّر الذات في هشاشتها وضعفها، في حين أن الغطرسة العربية تأبى هذا الاعتراف، بالإضافة إلى أن كتابة اليوميات مرتبطة بثقافة تمجّد الوقت وتعرف قيمة الزمن. 
لقد خضع النص الرحلي لمجموعة من الدراسات والأبحاث خاصة في النصف الثاني من القرن العشرين، تحت تأثير المدرسة البنيوية بصفة عامة، ومدرسة الشكلانيين الروس بصفة خاصة، التي حسمت الصراع حول تصنيف هذا النص، بعدما طرح رومان جاكبسون مفهوم الأدبية، حيث أعاد الكثير من النصوص، ومن بينها النص الرحلي، إلى رحاب الأدب، بعدما كان مقتصرًا على الشعر والقصة والرواية والنثر الفني، أما ما يسمى بالأدب الرسمي.

السفر في الكتابة
أما السفر في الكتابة فيتجلى في طغيان الوصف النابع من رحم السرد واختصار الزمن وانتقاء الأمكنة... فضلًا عن خصائص جمالية متعددة أنتجت السارد الجوال الذي يتجول بسرده في كل الأمكنة، مستخدمًا السرد الموقعي الذي يتجاوز الطوبونيميا الشائعة مادامت الرحلة تعيد صياغة الأمكنة، رؤية ومعجمًا، بآفاق متنوعة .  (الريف الإنجليزي - لندن - ساحة هايد بارك - سوق الخضر في لندن - مدينة العرائش...).
كما تتميز الرحلة ببنية التعرف، فالرحلة ليست سفرًا جغرافيًا، بل سفر ذهني تتغير فيها الذهنيات والتمثلات والمعارف والخبرات...  يقول السارد: «تعلمت كيف تأخذ المرأة حقها عندما تُهان وتكون ضحية عنف أسري، تعلمت كيف تذوب الفوارق بين الأقليات رغم اختلاف اللون والدين، كما تعلمت كيف يدار الصراع السياسي بين فرقاء متنافرين برباطة جأش «كما تعلمت كيف تربي البرجوازية الإنجليزية أبناءها على الاعتماد على النفس»، وتعرف على الوضع السياسي في بريطانيا، وطريقة تاتشر في إدارة البلد وشخصيتها القوية. كما تعرف على واقع الدول الشيوعية من خلال الشابين البولنديين.  يقول السارد: «حقيقة الصراع الطبقي والعالم الشيوعي سأتعلمها هنا بمزرعة كوركانس جنوب إنجلترا عبر احتكاكي ببورس وألكسندر».
كما تشكّل الرحلة عادة مناسبة لإعادة تمثلات الرحالة وتجديد معارفه وتغيير نظرته للأشياء. إذ لا يهدف الرحالة من تقديم صور المرئيات والمشاهدات لغاية الجمالية فقط، بل تقديم المعرفة بصورة المكان.
وتحضر الخلفية الأركيولوجية للموصوفات بشكل لافت في الرحلة، فهي لا تكتفي بتقديم المرئي (الآني)، بل تنطلق من الموصوف المباشر، بواسطة حركة ارتدادية تسترجع تاريخية الموصوف وتحوّلاته... (تاريخ ساحة هايدبارك - تاريخ ساعة البج بن ومنطقة «نوتينغ هيل»).
ومن أهم الخصائص البنيوية للرحلة خاصية التحول والتحويل، إذ تمكّن الرحلة الرحّالة من تحول أفكاره ومعارفه وقناعاته بين أن يكون على حد تعبير تودوروف مثل الآخر، أو أن يكون الآخر مثل الرحّالة. كما يتحول الرحالة، بعد كتابة النص الرحلي، من متلقٍ إلى مرسل يقوم بتحويل مشاهداته إلى متلقٍ آخر يشاركه الثقافة نفسها، كما أن التحويل يتعلق أيضًا بإخضاع المرئيات إلى مادة قابلة للتداول أو التلقي.
لقد غيرت رحلة «عابر إلى الضباب» نظرة السارد إلى حياة المهاجرين في لندن... ونظرته إلى حياة الشباب الإنجليز: «لم أعرف أن الشباب الإنجليزي متشبّع بأفكار اليسار التحرري إلى هذا الحد، ومستعد أن يضحي بكل ما يملك من أجل تحرير الإنسان الإفريقي من القهر والظلم». كما غيّر نظرته للمجتمع الإنجليزي الذي كان يعتقد أنه يعيش الرفاه المطلق، وغيّر موقفه من الشعارات الماركسية بعد لقائه مع الشابين البولنديين في المزرعة.
وتتميز البنية التلفظية للرحلة باستعمال الضمير المفرد، على الرغم من توظيف الرحّالة ضمير الجمع. وتكمن أهمية ضمير المفرد في تأكيد الملكية الرمزية الداخلية للنص، بالإضافة إلى الملكية المادية المؤشر لها في ديباجة النص وغلافه الخارجي.
ويمكن أن نضيف إلى جانب هذه الخصائص سمات أخرى تتمثل في:
تزاوج الواقعي والخيالي: فعلى الرغم من أن النص الرحلي يسرد أحداثًا واقعية عاشها الرحالة، ويصف أماكن حقيقية نزل بها أو شاهدها أثناء الرحلة ويعرض لشخصيات التقى بها أو رآها، فإنه غالبًا ما يضفي عليها طابعًا تخييليًا ناتجًا عن انفعالات بالموصوفات، أو استرجاعه للأحداث أثناء الكتابة، التي تحصل أكثر الأحيان بعد العودة إلى الديار.
بنية المقارنة: يحفل الكثير من الرحلات بالمقارنة بين بلد الرحالة الأصلي والبلاد الجديدة التي يزورها، وتشمل هذه المقارنة جغرافية البلدين ومناخهما وغطاءهما النباتي وطبيعة نظامهما السياسي وثقافتهما على اختلاف مظاهرهما الدينية واللغوية والاجتماعية والفني والفلكلورية... وتعج رحلة عابر إلى الضباب بالمقارنات بين منظومتين ثقافيتين (المقارنة بين علاقة موريس وتيريزا الزوجية وعلاقة وبوشتى وخدوج - المقارنة بين سوق الخضر في لندن وسوق الخضر في العرائش - بين السكارى في لندن والسكارى في العرائش، بين طريقة تربية الإنجليز لأبنائهم القائمة على الاعتماد على النفس وبين طريقة المغاربة التي تربي فيهم الصلف والعجرفة، بين حرية التعبير في هايد بارك والاختلاف في المغرب). يقول: «استهواني الركن الذي استحال إلى بقعة ساخنة للجدال وانبهرت به كثيرًا لاسيما أنني شاب متعطّش للحريات أتيت من بلاد عربية تسودها أجواء خانقة وأنفاس محصيّة».
بنية التمثلات والانفعالات: تزخر الرحلة بوصف الانفعالات والعواطف التي تنتاب الرحّالة أثناء مشاهداته، وهي تتأرجح في الغالب بين الخوف والرهبة والاندهاش والتعجّب والسرور والفرح والحزن. كما يذكر الرحّالة في كثير من الأحيان التمثلات التي كان يحملها هو ورفاقه عن البلد الذي يصفه.
لاشك، إذن، أن الخصائص البنيوية الكثيرة والمتعددة للرحلة أغرت الدارسين ونقّاد الأدب باستكشاف مساربها والغوص في أعماقها، مما أنتج كمّا هائلاً من الدراسات في هذا المجال. كما أن الطبيعية التوثيقية للنص الرحلي أغرت الباحثين في مجال التاريخ بتعميق البحث في هذا المتن. لكن غنى النص الرحلي لا يمكن اختزاله في هذه الأبعاد البنيوية الفنية التوثيقية فقط، بل لابد من البحث عن آفاق أخرى يحفل بها هذا النص، وأخص بالذكر أبعاده الثقافية التي لم تحظ بالقدر الكافي من الدراسات والأبحاث التي يمكن، في نظرنا، أن تلقي الضوء على مناطق واسعة من جغرافية هذا الجنس.

النقد الثقافي
يحبل النص الرحلي بمعالم الثقافة في بنياته الظاهرة والضمنية. فالرحلة عمومًا، وبخاصة الرحلة إلى بلد أوربي، تعني الانتقال من ثقافة إلى أخرى بكل ما تعني كلمة الانتقال من انبهار وصدمة. وقد عكست رحلة عابر إلى الضباب هذه المعالم الثقافية والتي يمكن إجمالها في:
- صورة الآخر: حيث تحضر في الرحلة صورة متوازنة بين موقف يمثل التحضّر والنظام والقانون والمساواة وحرية الرأي واحترام كرامة الإنسان، وبين صورة لإنجلترا مطبوعة بالعنصرية التي تمثلها جماعات اليمين المتطرف أمثال «تيدي بويز» و«البانك» والاحتقان السياسي بين المحافظين وحزب العمال.
- صورة الذات: وهي قائمة على ثنائية تتأرجح بين ذات محطّمة مأزومة تعاني التهميش والفقر والظلم، وتسود فضاءها الجماعي علاقة التباهي والعنف والعربدة والرشوة والتكبّر والسكيزوفرينيا، وذات معتزة بهويتها، حالمة بمستقبل أفضل (تدريس الفيزياء) تعيش في جماعة تتميز بقدرتها الكبيرة على الانفتاح الثقافي وتعلّم اللغات.
- صورة الآخر للذات:  تظهر هذه الخاصية من خلال الحوار الذي دار بين السارد/الرحالة وحبيبته القبرصية سوزان، إذ طلب منها أن تخبره عن المغرب، فكان جوابها: «كل ما أعرفه هو أنه بلد عربي مسلم يتزوج فيه الرجال بأربع نساء»!
- الانصدام الثقافي :  تمثله شخصية عبدالله الميموني الذي لم يستطع التأقلم مع جَو لندن وطقسها البارد وضبابها الدائم وسلطة النساء فيها، فأصيب بأزمة نفسية عميقة.
- سلطة الثقافة: تشير رحلة «عابر إلى الضباب» إلى قوة الثقافة وهيمنة أطرها المرجعية على الفرد والذات. فعلى الرغم من كل مظاهر الإغراء المادي والثقافي التي عاشها السارد/الرحّالة فإنها لم تستطع أن تنسيه جذوره. يقول: «بعد شهور من الاغتراب داهمني شعور فظيع، شعور شوق وفقد، تملّكني حنين غريب إلى حياة ملخبطة وغير مرتبة، افتقدت زعيق منبهات سيارات مزعجة، افتقدت رؤية عربات مهترئة تجرّها بغال منهكة، افتقدت أشعة الشمس الحارقة، افتقدت مداعبة أمواج الشاطئ بيليغروصا. افتقدت أشياء كثيرة تتراقص في ذاكرتي».
كما تعكس هذه الرحلة وضعية الشباب المغاربة، خاصة الطلبة في فترة الثمانينات، إذ كانوا على دراية واسعة بالتاريخ والأحداث السياسية والرياضية والثقافية والفنية والأدبية (الهجوم على ليبنا - فرقة البيتلز - شكسبير - ماركس - جورج أورويل - آل باتشينو...).
- قوالب الثقافة: يعكس النص قدرة الثقافة على ممارسة الإكراه وإصهار الذات في بوتقتها ووضعها داخل أطرها الخاصة، وهو ما يظهر مع سرعة التأقلم مع الواقع الثقافي الجديد. يقول السارد: «بدأت أتأقلم، أمشي على الرصيف، وأرمي القمامة في مكانها المخصص، في مقابل قدرتها على الاستمرار والصمود. كما يشير إلى ذلك حوار السارد مع عبدالله الميموني الذي لم تستطع كل إجازات تاتشر السياسية الاقتصادية إقناعه بقدرة المرأة على مقارعة الرجل ومناكفته في مجالاته المحتكرة.

المنهج البلاغي
تحضر في هذا النص مجموعة من الخصائص التي تضفي على الرحلة ميزة خاصة وتجعله في قلب الاهتمام الأدبي،  ولعل أهم هذه الخصائص جمالية الوصف «طبيعة آنجيلوا - شوارع لندن - قوة الذاكرة والقدرة على تذكّر التفاصيل والأحداث والانفعالات ومسلسل التشويق، خاصة عندما تغلق الأبواب في وجه السارد/الرحّالة ويهيم على وجهه في شوارع لندن من دون مال أو مأوى. كما تحضر المفارقة التي تعكس تناقض مواقف الغرب بين المبادئ الإنسانية التي يبشر بها، وواقع الاستغلال البشع لخيرات الشعوب. جاء في الكتاب: «.. ماذا يقول الكاهن؟ إنه يدعو للبشرية جمعاء بالمحبة والسلام وتخليصها من كل الشرور. فقلت له: لكن شرور العالم مصدرها الإنجليز أنفسهم أليس كذلك؟ كما تندرج ضمن المفارقة قصة عسو الذي أخذ فلقة من الفقيه لكنه ظل وفيًا له يقبّل يده طول السنة الدراسية. كما تحضر هذه المفارقة لتعكس واقع الانفصام الذي يعيشه المسلم من خلال قصة السارد مع الشاب التركي الذي حذّره من الصفير أثناء الأكل لأن الدين يحرّم ذلك، مع أنه لم يكن يصلي ولا يصوم.
ومن المظاهر البلاغية في النص «السخرية والإضحاك» وتمثله قصة المهاجر بوغالب الذي ادّعى الجنون للحصول عن تعويضات من الحكومة، لكنه اضطر إلى قضاء عدة أشهر في مستشفى المجانين بعدما تأكد الطبيب المعالج من جنونه، ورفض إطلاق سراحه.
تغتني رحلة «عابر إلى الضباب» بمجموعة من المعلومات والمعطيات والحقائق، بالإضافة إلى تنوّع أساليبها وخصائصها الجمالية، ما يجعلها علامة مميزة في المنجز الرحلي المغربي ■