علاج جديد للإدمان

جهاز صغير لإزاحة همٍ كبير

لأن علاج الإدمان هو أشد فروع الطب إحباطا بسبب فشل كل الطرق التقليدية، فإن الأبحاث لم تتوقف. وهذا الجهاز الجديد الذي طورته طبيبة بريطانية قد يحمل الأمل في وقف التدهور الذي يحدثه الإدمان للمريض.

سيدة صغيرة الحجم تقدم جهازًا صغيرًا لعلاج الإدمان وتقول: إن نجاحه غير مسبوق. صورة تستدعي صورة أخرى بعيدة، لرجل ضخم الجثة عظيم الشارب. طبيب خبير في علاج الإدمان كان شهيرا في زمانه دخل ونحن جلوس في قاعة محاضرات بأحد مراكز الطب النفسي فكف اللغط. ملأ مقعد المحاضر بفتوة هيئته، وكان يملأ عيوننا بما بلغنا عنه من كفاءة مهنية وعلمية. وما أن بدأ محاضرته حتى أحسسنا به ينهار في مكانه ويتهاوى مع كل كلمة يقولها. ابتدأ بالتعريف فراح يقول بلغة متثاقلة مقهورة: "الإدمان هو أشد الفروع إحباطا، ضمن أشد التخصصات إحباطا في الطب كله. أو هو أكثر الفروع تعاسة ضمن أكثر التخصصات تعاسة" وهكذا. أخذ يلون تعريفه في كل مرة بلون قاتم جديد. وكنا ننفجر في الضحك. لكنه لم يكن يضحك أبدًا ولا يعير ضحكنا أدنى التفاتة. وواصل تقديم محاضرته بل سلسلة محاضراته عن الإدمان. مرت عشر سنوات على ذلك، ومن المؤكد أن أيا منا - نحن الذين استمعنا إليها لم ينس ذلك المحاضر وتعريفاته الساخرة اليائسة، لكننا مع تذكر تلك التعريفات لم نعد نضحك، فلم يعد في الأمر بعد خبرة السنين ما يضحك، فلقد عرفنا ما يعرفه القاصي والداني عن بؤس الإدمان، وخبرنا من همومه مالا يخبره إلا الأطباء النفسيون المعالجون له، وفي القلب من ذلك ينتصب هم الهموم جميعا.

من التسمم إلى إزالة التسمم

والإدمان يمكن تعريفه بأنه حالة دورية أو دائمة من تسميم الذات "Intoxication" يتعاطى فيها المدمن مادة مخدرة بغية الحصول على تأثير نفسي وجسدي منشود، تقوده في ذلك رغبة قهرية للتعاطي مع ميل إلى زيادة الجرعة بشكل متصاعد، ثم ينشأ الاعتماد النفسي والجسدي على المادة المخدرة. وفي هذا الاعتماد مكمن الداء، لأنه السبب الرئيسي للاستمرار في الإدمان وأهم أسباب فشل العلاج. فهذا الاعتماد - في شقه الجسدي خاصة - نوع من التأقلم الشاذ للجسم مع المادة المخدرة، تتغير فيه الفسيولوجيا إلى درجة أن الجسم يبدي سلسلة من الأعراض المرضية المفزعة إذا لم ينل ما تعود عليه من هذه المادة، سواء بالامتناع عن التعاطي أو تناول مادة تبطل أثر المادة المخدرة داخل الجسم، وتبدأ سلسلة الأعراض تلك في الظهور بعد ساعات من التوقف عن تعاطي المادة المخدرة، كما يمتد توقع ظهورها إلى نحو أسبوعين. وتختلف مجموعة الأعراض باختلاف المادة المخدرة التي كان يتعاطاها المدمن، فهي في حالة الأفيونات كالمورفين والهيروين تشمل: التعرق والرشح والإدماع والرجفان والقيء والإسهال والاختلاج والتقلص، وربما ارتفاع الضغط والحرارة وتسارع الأنفاس. وفي حالة بعض المهدئات والمنومات تشمل: التشنجات والاختلاط العقلي والهذيان والهلوسة وفقد القدرة على تمييز الزمان والمكان. تلك هي بعض سمات "حالة السحب" أو "تناذُر التوقف عن التعاطي". مرحلة قاسية كأنها البرزخ بين الهلاك والنجاة، ولقسوتها يتضح أن أكبر هموم العلاج من الإدمان يكمن في عبور هذه المرحلة بأقل قدر من المعاناة والتوتر، فإذا كان الإدمان تسميما للنفس يكون جوهر العلاج إزالة لهذا التسمم "Detoxication" وتخفيف وطأة ما يظهر جراء ذلك من أعراض، ولهذا يتم اللجوء إلى العلاج عزلاً داخل المصحات النفسية، وهناك يكون التقويم والتخدير طويل المدى بالعقاقير. وأحيانا يُعطى عقار بديل لفترة قد تمتد أسابيع وأشهرا.

طريقة جديدة لإزالة السُمّية

تقول السيدة في كتابها الذي صدر تحت عنوان "في المأزق" إن لديها مخرَجًا، فهي تقدم بجهازها الصغير وسيلة غير مسبوقة لعلاج الإدمان وعبور مرحلة إزالة السمية بأسرع وقت وبأقل ما يمكن من المعاناة، أي أنها أزاحت هم تناذر التوقف ومجموعة أعراض سحب المخدر. وكيف؟ بجهاز يشبه جهاز التسجيل الصغير النقّال "الوكمان". وهو مثله يمكن أن يوضع في الجيب أو يُشبك في الحزام ويخرج منه سلكان دقيقان ينتهيان بسماعة تشبه "الهِدفون". غير أنه بدلاً من سماعتي الأذن الدقيقتين يوجد قطبان يختفيان في وسادتين صغيرتين من مادة جيدة التوصيل للكهرباء وبدلاً من الاستقرار في ثقبي الأذنين تستقر الوسادتان على منطقتي "الرئة" في صيواني الأذنين، ومع استقرار الوسادتين بعد لبس السماعة يُفتح للتيار ويضبط ليناسب المريض، ولا يشعر المريض مع سريان التيار إلاّ بتنميل خفيف ودفء في صيواني أذنيه ما يلبث حتى يتأقلم معه. وتُلبس "سماعة" الجهاز باستمرار على مدى عشرة أيام ويسمح بخلعها عند الاستحمام وكذلك لإعادة شحن الجهاز مرتين يوميًا ولمدة عشر دقائق في كل مرّة. هكذا ينتهي الإدمان!

قصة المكتشفة والاكتشاف

اسمها ماج باتيرسون وعمرها الآن خمس وستون سنة. وقبل أن تتسمى بكنيتها الحالية حاملة كنية زوجها كان اسمها "مارجريت انجرام " اسكتلندية اتجهت إلى دراسة الطب. وكانت أصغر طبيبة تحصل على المؤهل من كلية طب "ابيردين". تلقت تدريبها الطبي في مستشفى "سان جيمس" بجنوب لندن، ثم وقع عليها الاختيار لتعمل مستشارة للجراحة تمارسها وتدرسها في المستشفيات الإنجليزية بالهند. وفي العام 1953 تزوجت الكاتب البريطاني "جورج باتيرسون"، حملت كنيته وطافت معه بمعظم أنحاء العالم ومن خلاله تعرفت على مشكلة الإدمان والمدمنين التي كان مهتماً بها. وفي العام 1962 حط بهما الرحال في هونج كونج حيث كان جورج مفوضا من الحكومة البريطانية بكتابة دراسة وافية عن موضوع المخدرات في منطقة "المثلث الذهبي" أحد أهم مصادر المخدرات في العالم، وفي البيت راح زوجها يستقبل الكثيرين من المدمنين لدراسة أسباب إدمانهم وعدم قدرتهم على الإقلاع وكان من بين هؤلاء فتيان بريطانيون وأمريكيون خشوا أن يتحدثوا في ذلك مع ذويهم، وهو ما أثر في السيدة باتيرسون كثيرا. كانت تعمل آنذاك كرئيسة قسم وكبيرة للجراحين بمستشفى "تون فا". وهناك وقعت على اكتشاف طريقتها لعلاج الإدمان التي تسميها الآن "Neuro Electrical Therapy" أو العلاج العصب كهربائي ويرمز له اختصارا بالحروف NET ففي المستشفى كان زميلها جرّاح الأعصاب "أويان" عائدًا لتوِّه من الصين بعد اطلاعه على طريقة جديدة - آنذاك 1963 - لعلاج الآلام والتخدير اسمها "الوخز بالإبر المكهربة". بدأ أويان بتطبيق طريقته هذه على مرضاه، ولم يكن يعرف أن 15% منهم مدمنون يتعاطون الهيروين وغيره من المخدرات. وفي مرة قال له أحد المرضى - وكان مدمنا - إن الوخز بالإبر المكهربة ساعده قبل كل شيء على التخلص من معاناة امتناعه عن المخدرات خلال فترة العلاج. وتكررت الملاحظة من مرضى آخرين خففت عنهم الإبر المكهربة أعراض امتناعهم عن التدخين والكحول والمخدرات. وانتبه الدكتور "أويان" إلى أن الإبر كانت تأتي بأفضل تأثير مضاد للإدمان عندما تغرز في نقطة "الرئة" بالمحارة السفلى في صيوان الأذن، وأن أعراض سحب العقار كالرشح وتقلصات الأمعاء كانت تختفي خلال 10 - 15 دقيقة.

اسأل مجربًا وراجع العلماء

من بين 186 حالة عالجتها الدكتورة باتيرسون - بعد التجارب السريرية الأولى - خلال 8 سنوات، كان هناك العديد من مشاهير موسيقيِّي "الروك" : "إريك كلابتون " و "كيت ريتشاردز" و "بيت تاوتسند" شفتهم الدكتورة باتيرسون وجهازها الصغير من إدمانهم القاتل. وبعد الشفاء لم يجحدوا فضلها وفضل الجهاز، راحوا يقيمون الحفلات تطوعًا ويوجهون عائدها لتدعيم جهد الدكتورة باتيرسون، ولم يبخلوا عليها بشهاداتهم العلنية. يقول "كيت ريتشاردز" : "في الطرق الأخرى (التي لابد أنه جربها وفشلت) تكون الأيام الاثنان أو الثلاثة الأولى من أصعب الأيام ويحس الإنسان حقًا بالفظاعة، إنها الفترة التي يتنظف فيها الجسم من المخدرات، أما في هذه الطريقة فلا، لا صعوبة ولا فظاعة". ويقول "بيت تاوتسند" : "كنت أشم الكوكايين وأشرب يوميا زجاجة ونصفا من البراندي وأبتلع ثماني حبات مهدئة وثلاث حبات منومة، وعندما لم تعد تكفي الأقراص اتجهت إلى الهيروين أيضا. وصلت إلى درجة الموت، كنت أموت حقًا عندما جئت إلى الدكتورة ماج. لم أكن واثقًا في أن شيئا سيساعدني، لكنني في اليوم التالي من العلاج أدركت أنني حقا على طريق السلامة. كان هذا شيئا لا يمكن تصديقه، وأحسست بفرح داخلي عندما تيقنت أنني فعلا أتخلص من الإدمان"

ملاحظات عابرة. ونداء مقيم!

هناك بالطبع ما يؤخذ على الدكتورة باتيرسون.

فإضافة إلى انفرادها ببحث بدأه زميلها الهونج كونجي "أويان" الذي تبدد ذكره مع دخول بنت بريطانيا العظمى إلى الساحة، لابد من الإشارة إلى أنها غرست في أرض سبق حرثها بجهود لا تنكر، فالمعالجة عن طريق صيوان الأذن معروفة منذ ما يقارب أربعة آلاف سنة، أتى على ذكرها كتاب "الإمبراطور الأصفر" كطريق إلى كل أعضاء الجسم الداخلية. وفي التاريخ الحديث يعود الفضل إلى "بول نوجيه" الفرنسي (وهو جراح أعصاب أيضًا) الذي أعاد تقديم الطب الأذني عام 1951. أما استخدام الكهرباء عن طريق أقطاب على سطح الجلد بدلاً من توصيلها بالإبر المغروزة فيها فقد سبق أن قام بتطبيقها عالم فسيولوجيا الأعصاب الصيني "جي شنج هان" منذ سنة 1966 وسميت تحريض الأعصاب الكهربائي عبر الجلد ويرمز لها بالحروف الأولى من الكلمات "TENS" ، كما شرح "فوما جريجور بفتش" من "ريجا" آلية العلاج عن طريق التأثير في نقطة من نقاط صيوان الأذن سواء بالكهرباء أو التسخين أو الضغط أو الوخز أو شعاع الليزر، وبين أن هذه كلها أنواع من الطاقة تتحول عند النقطة إلى وسيلة تحريض تنشئ إشارات تمر عبر المسارات العصبية لتنبه مناطق في المخ. وفي حالتنا هذه يكون رد الفعل على التنبيه إطلاق مواد لها أثر قاتل للألم داخل الجهاز العصبي. وقد نجح "هيوز" و"ليتز" عام 1975 (وهما اسكتلنديان أيضا كالدكتورة باتيرسون) في عزل ومعرفة التركيب الجزيئي لواحدة من هذه المواد وهو "الانكفالين" ، أي أن الكهرباء عبر نقطة الرئة في صيوان الأذن تعمل على إطلاق مزيد من المخدرات الطبيعية داخل جسم المدمن فيزهد في طلب المخدرات من خارج جسمه ويزدريها. ولأن رد الفعل هذا طبيعي فإن تلاشيه - بعد إبعاد المنبه الكهربي - يتم بسلاسة وبأكبر قدر من الأمان. هذه الرحلة قطعها آخرون كثيرون، فما كان ينبغي أن تُقَدَّم طريقة الدكتورة باتيرسون "NET" على أنها جديدة تماماً. من ناحية أخرى يوجد تحفظ على نتيجة التجارب السريرية الأولى التي أعلنت في ندوة الأمم المتحدة وكانت 100%، لأنه بات معروفاً أن 80% فقط من الناس يستجيبون للوخز وبدائله.

وتبقى كلمة، نداء سبق أن أطلقناه في أحد أعداد "العربي" عن حاجتنا إلى مركز عربي للطب البديل، أو المُكمِّل، الطب الذي ينبو عن مزيد من الغرق في العلاج بالعقاقير، مركز يستطلع وينتقي ويختبر ويبتكر وسائل بسيطة لطب آخر نحن أحوج ما نكون إليه.

نكرر النداء، لأن هذا الجهاز ما هو إلاّ مُنتج لرافدٍ من روافد ذلك الطب.