عصا تقرأ سر الأرض خالد أحمد خلف

عصا تقرأ سر الأرض

لا بد أن الكثير منا قد رأى أو سمع على الأقل بأن أحد الأشخاص يستكشف المياه باستخدام عصا أو غصن ما.. فهذه الطريقة للكشف عن المياه منتشرة انتشارا واسعا في الأقاليم الريفية لبلداننا العربية والكثير من بلدان العالم بما فيها البلدان المتقدمة كأمريكا مثلا.

وهذه المقالة تلقي بعض الضوء على تاريخ هذه الطريقة وموقف العلم منها.

في هذه الطريقة من طرق التنقيب عن المياه (وغيرها) يمسك الشخص المنقب بيديه عصاة على شكل شعب ويسير في المكان الذي تُستْكشَف المياهُ فيه وعندما يشعر بأن العصا تميل نحو الأسفل يتوقف ويشير إلى المكان الذي يقف عليه. وللتأكد أحيانا، يمكن أن يقوم بإعادة البحث والعودة إلى المكان ذاته وفي حال تكرر الظاهرة ذاتها يتم تعيين الموقع بشكل نهائي وأكيد.

ومن الضروري التنويه إلى أن استخدام هذه الطريقة ليس محصورا في الكشف عن المياه فقط بل يتعداه إلى الكشف عن الكثير من الأشياء المختلفة عن بعضها البعض في طبيعتها الفيزيائية والكيميائية كالفلزات المعدنية، والآثار المطمورة تحت السطح، والنواقل الكهربائية، وسطوح تماس الصخور وغير ذلك.

كذلك لا بد من الإشارة إلى أن الأداة التي يستخدمها المنقبون في بحثهم ليست وقفا على العصا، بل يستخدمون أدوات مختلفة في نوعها وشكلها: كالإطارات أو الأسلاك المعدنية، وأغصان من الرمان أو التين أو الصفصاف أو غيرها. والأكثر من ذلك أن بعض الأشخاص لا يستخدم أية أداة بل يسير في المكان، الذي تُستْكشَفُ المياهُ فيه بأيد ممدودة، وبعضهم يشعر بالتأثير الخارجي بكامل أجسامهم، إلا أن التنقيب باستخدام العصا يبقى الطريقة الأكثر انتشارا.

تواريخ لعصا سحرية!

تعود أول المصادر التاريخية التي تصف طريقة التنقيب هذه إلى عام 1556 ميلادي تقريبا، إذ يصف عالم الطبيعة الشهير ومؤسس علم المناجم والتعدين جيورجوس أغريكولا هذه الطريقة في كتابه " العمل المنجمي" كطريقة مستخدمة عمليا ويقترح الحذر في استخدامها وينصح بإعارة الانتباه إلى دراسة الظرف الجيولوجي للمكان الذي يجري التنقيب فيه، إذ بدأت وقتها تتجمع المعلومات حول إخفاقات هذه الطريقة وفشلها أحيانا. أما العالم الروسي الفذ لومونوسوف م. ف فيذكر في كتابه "الأسس الأولية للتعدين أو الأجسام المعدنية" ما يلي:

"للكشف عن مناجم الأجسام المعدنية يستخدم بعض الناس الجبليين عصاة تشبه الشوكة ذات السنّين، يمسكونها بأصابعهم فإذا انزاح محورها من تلقاء نفسه نحو مكان ما، فهذا يشير كما لو أنه يوجد فلز أو معدن. وخاصة فضة أو ذهب". ومن الطريف في هذا الموضوع أن شعار مدينة بتروزافودسك الروسية يرتبط بالعمل المنجمي ارتباطا وثيقا، فهو مكوّن من مطرقتين متصالبتين وعصاة البحث عن التوضعات المعدنية التي رسمت على الشعار، وفقا لمرسوم ايكاتيرينا الثانية حول اعتماد شعار المدينة بتاريخ آب- 1798 م. وفي منتصف هذا القرن كّرس الكاتب القصصي ك. روبنتس العديد من قصصه للحديث عن طريقة التنقيب هذه والدفاع عنها ومنها "هنري كروس وعصاه السحرية"- 1951 م و"المياه غير المحدودة" - 1957 م. أما الكاتب كولن ولسن فيذكر في كتابه "الإنسان وقواه الخفية" أنه رأى رجلا يمسك في يده غصنا جافا ويسير حول الحقل الذي شيد منزله في وسطه ويقتفي مسار نبع خفي تحت الأرض ويميز بينه وبين أنبوب ماء ممتد ومدفون تحت سطح التربة. ويذكر أيضا أنه عندما عاد إلى خرائط المنزل وجد أن الرجل كان دقيقا دقة كاملة فيما يتعلق بأنبوب الماء. ويشير الدكتور فارس شقير في مقالة له بعنوان "الطرق الغيبية في استكشاف المياه الجوفية" نشرت في مجلة "الطاقة والتنمية" السورية (العدد 34، أيلول 1987) إلى أن الإحصاءات تدل على وجود 181 منقبا يستخدم هذه الطريقة، لكل مليون نسمة في الولايات المتحدة الأمريكية في أيامنا هذه.

تأثيرات فيزيائية حيوية

بعد هذا الاستعراض التاريخي الموجز لهذه الطريقة، ما هو موقف العلم ورجالاته منها يا ترى؟ في الوقت الحاضر، تتم دراسة المسائل المتعلقة بالشرح العلمي لهذه الظاهرة، إلاّ أنه لا يوجد حتى الآن رأي موحد ليس حول أسباب هذه الطريقة فقط، بل حتى حول وجودها ذاته.

فبعض العلماء ينفي وجود أي تأثير للأشياء المبحوث عنها على المنقب أو الأداة التي يستخدمها، ويعزو انحراف العصاة أو الأداة التي يحملها إلى الصفات النفسية والفيزيالوجية له. ويعتقد هؤلاء العلماء بأنه تنشأ لدى الإنسان المنقب انقباضات ذاتية للعضلات تؤدي إلى تذبذب العصاة نتيجة توتره العصبي. وقد ينشأ تطابق عرضي بين تذبذب (أو انحراف) العصاة ووجود مكمن للأشياء المبحوث عنها في بعض الحالات.

أما البعض الآخر من العلماء فيعتقد بوجـود تأثير بيوجيو فيزيائي للأشياء المبحوث عنها يجعل المنقب يشعر بتغيرات الحقول الفيزيائية لتلك الأشياء ويظهر رد فعل المنقب في حصول تشنج في عضلاته، وبالتالي في انزياح أو تذبذب موافق للعصاة أو الأداة المستخدمة من قبله. أما أي الحقول الفيزيائية بالذات تبدي هذا التأثير على أعضاء حواس المنقب فهذا ما هو غير واضح حتى الآن. وهذه المسألة لا تزال مفتوحة أمام البحث والدراسة. ويؤكد هؤلاء العلماء أن ميلان العصاة أو دوران الإطار المعدني أو ما شابه ذلك، يلاحظ لدى 7-10% من الأشخاص فقط، ويفترضون بأن هذا الإحساس أو الشعور ينتمي إلى مجموع الأحاسيس التي يدفعها الإنسان ضريبة لتقدمه الحضاري في الوقت الحاضر. علما بأن تلك الأحاسيس كانت متطورة عند أجدادنا القدماء بدرجة أكبر بكثير مما هي عليه عندنا الآن، ومن الأمثلة التي يمكن أن نسوقها في هذا المجال أن الزيادة في الإضاءة الاصطناعية القوية أدت إلى انخفاض كبير في حساسية الرؤية عند الناس، فمنذ أكثر من 100 عام ونيف كانت خشبة مسرح ماري في مدينة سانت بطر سبورغ الروسية تضاء بـ40-50 مصباحا كيروسينيا ولم تكن الإضاءة تثير أي امتعاض من قبل رواد المسرح آنذاك، أما اليوم فإن خشبة المسرح ذاتها تضاء بأقوى المصابيح الكهربائية الكاشفة، ومع ذلك غالبا ما يشتكي المشاهد من الإضاءة الباهتة لخشبة المسرح تلك. إن الطلب على إضاءة أكبر لا يقتصر على المسرح فقط، بل يتعداه إلى الكثير من مجالات الحياة الأخرى، والسبب هو انخفاض حساسية جهاز الرؤية للضوى الذي ما هو إلا إشعاع كهروطيسي لا أكثر، ويؤكد كولن ولسن الفكرة ذاتها في كتابه المذكور سابقا فيقول: إنه ليست هناك حاجة إلى أن نضع خطا مميزا حادا بين "الإحساس العادي" العلمي وبن القدرات التي يمكن أن تكون قد صنفت ذات مرة فوضعت بين القدرات (السحرية). ففي المملكة الحيوانية ليست القدرات (السحرية) سوى قدرات عادية شائعة أما الإنسان المتحضر فقد نسي كل شيء من هذه القدرات لأنها لم تعد ضرورية لبقائه أو لمواجهة الحياة.

حقول قوية وأخرى ضعيفة

إن حقيقة شعور بعض الناس بالحقول الفيزيائية لا يثير أي دهشة، فالخلايا الحية خضعت خلال فترة تطورها لتأثير مختلف الحقول الفيزيائية الخارجية ويمكنها بشكل أو بآخر الاستجابة لفعل هذه الحقول وانطلاقا من إمكان تأثير أي حقل شاذ على جسم الإنسان يصبح من الممكن البحث عن أشياء مختلفة تشكل عدم تجانس في انتشار الحقول الفيزيائية بالقرب من سطح القشرة الأرضية.

إن تأثير الحقول الفيزيائية القوية: العواصف المغناطيسية والجرعات القوية من الإشعاع والكهرباء وغيرها مدروس دراسة جيدة، فمثلا أظهرت المعاملة التحليلية لأكثر من مائة ألف طلب إسعاف سريع في حالات أمراض القلب والأوعية الدموية في مدينة سانت بطرسبورغ أن عدد الطلبات في اليوم الواحد غير ثابت ويتعلق بعوامل الوسط المحيط. ويبدو أن التغيرات غير المناسبة لهذه العوامل هي التي أثرت على ارتفاع أو انخفاض هذا العدد، وتبين أن تغيرات المجال المغناطيسي هي الأساس بين تلك التغيرات وكانت النتيجة الرئيسية من هذه الدراسة هي أن جهاز القلب والأوعية الدموية يملك حساسية دقيقة مدهشة لتغير المجال المغناطيس للأرض.

أما بالنسبة للحقول الفيزيائية الضعيفة فتؤثر- على ما يبدو- تأثيرا ضعيفا على جسم الإنسان، وهي لم تدرس الدراسة الكافية بعد، وعلاوة على ذلك يبدو أن الأشخاص المنقبين الذين يستخدمون طريقة التنقيب هذه يشعرون بتأثير مركب ناتج عن مجموع الحقول الفيزيائية المختلفة، إذ إن المراجع المتعددة التي تتناول طريقة التنقيب هذه تتضمن أوصافا كثيرة كشف الباحثون فيها عن أشياء مختلفة جدا في طبيعتها الفيزيائية بحيث يصبح من المستحيل شرح الكشف عن هذه الأشياء نتيجة تأثير أحد الحقول الفيزيائية فقط.

طريق إلى اكتشافات جديدة

وحاليا يتابع العلماء البحث والدراسة بهدف معرفة الفعل البيوجيوفيزيائي لهذه الظاهرة، والمسألة الرئيسية في هذا المجال هي ضرورة تنظيم مراقبة بيوفيزيائية دقيقة لجسم الشخص المنقب واستخدام أجهزة جيوفيزيائية حساسة جدا لتحديد قيم وطبيعة التأثير الفيزيائي على جسمه. وأول ما يجب القيام به هو فرز الغث من السمين، فقد انخرط في عداد المنقبين الذين يستخدمون هذه الطريقة أدعياء كثر، وبالتالي كثرت حالات الفشل والإخفاق، الأمر الذي أثر بدوره تأثيرا سلبيا على موقف العديد من الناس العاديين وبعض العلماء تجاه هذه الطريقة.

وفي الختام يطيب لي إنهاء هذه المقالة بتأكيد كولن ولسن على أنه حينما يتم إدراك قدرة الكاشف عن مكان الماء فإن تلك القدرة ستتكشف- بلا شك- عن شيء بسيط ومذهل مثل حاسة الشم عند أسماك السلمون أو حساسية فأر الظبي الصغير إزاء الإشعاعات النجمية. وبإشارة الأكاديمي الروسي أوفتشينيكوف يو. آ. إلى أن استخدام طريقة التنقيب هذه يعطي وفرا ملحوظا في الاقتصاد الوطني وضرورة دراستها لا تثير أي شك.

 

خالد أحمد خلف

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




رسم تخطيطي للمنقب عن المياه باستخدام العصاة





صورة قديمة لطريقة التنقيب عن التوضعات المعدنية باستخدام العصاة