فلسطين المستقبل لمن؟

فلسطين المستقبل لمن؟

هل هناك أمل؟ يا له من سؤال صعب لواحدة من أعقد القضايا حول العالم، قضية الوطن المغتصب فلسطين. يزيد من صعوبة السؤال أن الصورة حتى الآن تبدو قاتمة، ويبدو أن المستقبل سيكون صورة مطابقة من الماضي، مزيدًا من التجبّر الإسرائيلي والتشتت العربي، وتبدو فلسطين كأنها في زاوية النسيان بالنسبة للضمير العالمي، وكأن خروج إسرائيل عن كل قوانين العالم وإيغالها في التوحش العنصري والاغتيال اليومي للإنسان الفلسطيني أمر طبيعي لا يثير امتعاض ذلك الضمير، وكأن العالم قد تعوّد على أن تكون هناك ضحية تقدّم له كل يوم، ودون وعي يطلبون من الفلسطينيين أن يكونوا القرابين التي تقدم من أجل خلاص البشرية.

 

ألا يوجد أي أمل؟ أي ضوء ضئيل في نهاية النفق، أمل في انتصار الحق والعدل حتى لا تتواصل هذه المظالم والمجازر، لا يمكن أن يتواصل سريان التاريخ وهو مختل لهذه الدرجة، لابد أن هناك درجة من العدالة على وجه الأرض، فكل الفلسفات وكل نظريات العدل والحق والفضيلة لم تنشأ من فراغ، لا بد لها من وجود في الطبيعة البشرية ومن ثمن لكل أرواح الضحايا الذين سقطوا وهم يقاومون هذه الآلة الغاشمة التي تؤازرها القوة الأولى في العالم، إن درس التاريخ يعلّمنا أن هناك أملًا ضئيلًا لكنه موجود.

مشاريع توطين فاشلة
فلسطين حقيقة مؤكدة في مواجهة كتلة ضخمة من أكاذيب إسرائيل، فهي ليست الأرض الموعودة لهم كما يدّعون، كانوا يبحثون عن أي أرض، وعندما كانوا يبحثون عن أرض تضمهم بعد الشتات لم يفكروا فيها، وكانت أوربا قد ضاقت بهم وتعتبرهم كابوسًا يريدون التخلص منهم بأي ثمن. فكرت ألمانيا النازية في جمعهم بجزيرة مدغشقر، وكانت تنتظر حتى نهاية الحرب لتخرج منتصرة وتستولي على الأسطول البريطاني ثم تنقلهم بواسطته إلى هذه الجزيرة وتمنع انتقالهم منها إلى أي مكان، لكن ألمانيا هُزمت وألغي المشروع، وحاول الإنجليز توطينهم في أوغندا، وكان زعيمهم حاييم وايزمان راضيًا بذلك، لكن اليهود خافوا من انتقام القبائل الإفريقية. وقام مليونير يهودي بتوطين بعضهم في الأرجنتين، لكن السكان كرهوهم منذ الأشهر الأولى، وبذلت محاولات مستميتة لتوطينهم في مناطق أخرى إلا أنها فشلت جميعها، ولم يبق إلا فلسطين كبش الفداء والهدف الأقصى لهم، ومن أجل هذا الغرض بذل الغرب كل جهوده للتخلص منهم، وقامت بريطانيا باحتلال فلسطين حتى تمهّد لهم الأرض وتمكّن المهاجرين اليهود من امتلاك الأرض وإقامة مستعمراتهم عليها، وكان الهدف الأبعد هو زرع جسد أوربي في هذه المنطقة ليحافظ على مصالحهم ويحبط أملهم في الاستقلال، وأحاط اليهود هذا الأمر بهالَة من الأساطير الدينية عن أنها أرض الميعاد، ويوجد بها هيكل سليمان الذي لم يوجد حتى الآن، ولم يوجد أي أثر يدل على أنهم كانت لهم دولة قديمة في هذا المكان.

حروب إبادة
إسرائيل بعيدًا عن أي ادعاءات دينية هي آخر موجة من موجات الاستعمار الاستيطاني، بقايا متخلّفة من القرون الماضية، وهو يحدث عندما تستولي جماعة قوية على قطعة الأرض وتبيد سكانها الأصليين وتدّعي أن هذه الأرض خاصة بها، حدث هذا مع اكتشاف أمريكا، التي لم تكن خالية بطبيعة الحال، بل كانت مليئة بالسكان والحضارات القديمة، لكنها كانت تفتقر إلى التعامل مع الحديد، ولم يستطيعوا الصمود أمام السيوف الصلدة وفوهات المدافع المحشوة بالبارود، اجتاحتهم الأسلحة التي حملها الغزاة، ليست هي فقط ولكن الأمراض التي كانوا يحملونها، لقد نقلوا للقارة العذراء كل الأمراض التي كانت تعانيها القارة القديمة، وكان السكان الأصليون لا يملكون مناعة مكتسبة ضدها، فأهلكتهم الأوبئة ضعف ما أهلكتهم الأسلحة، واستغرق الأمر سنوات طويلة من أجل إبادة السكان الأصليين وتدمير مدنهم وقراهم.
لقد ارتكبت الحضارة الأوربية العديد من المجازر الوحشية، أبيد فيها آلاف السكان الأصليين، وحل بدلًا منهم مهاجرون من كل أنحاء العالم، فانمحت شخصية القارة تمامًا، بكل ما فيها من معالم ثقافية وإنسانية، وتحول السكان الأصليون إلى تجمعات بشرية صغيرة تعيش في «جيوب» معزولة آخذة في الانقراض.
من أجل هذا كله نجح الاستعمار الاستيطاني في إقامة دولته في كل من أمريكا وأستراليا ونيوزيلندا، لكنه حقق فشلًا ذريعًا في الجزائر وجنوب إفريقيا، وكانت فرنسا تعتبر الجزائر أرضًا فرنسية ما وراء البحار، أي إنها مجرد امتداد لها في إفريقيا، وملأت الجزائر بالمستعمرين الفرنسيين حتى تستولي عليها اقتصاديًا، وفرضت عليها تعلم اللغة الفرنسية في كل المراحل لتخضعها ثقافيًا، لكنها لم تستطع أن تبيد الشعب الجزائري أو تطرده خارج بلده، لقد ظل متشبثًا بالأرض والمكان يقاوم كل محاولات الفرنسة والتغريب، وفعلت فرنسا المستحيل تقريبًا لقمع الجزائريين وتحويلهم إلى مواطنين طائعين دون جدوى.
لقد أفلتت الجزائر من حرب إبادة غاية في البشاعة، والأهم من ذلك أنها أفشلت تجربة الاستعمار الاستيطاني وأعطت الأمل والنموذج لكل الشعوب المستضعفة.
جنوب إفريقيا تجربة أخرى، أقامها البيض من أصول أوربية كدولة مطلقة في واحدة من أخصب المناطق وأغناها بالثروات، ومنذ السنوات الأولى أقاموا نظامًا يعتمد على الفصل العنصري، نظامًا يمنح البيض كل شيء ويحرم السود من كل شيء، من التعليم وامتلاك الأرض والصحة، ويبقيهم على العيش خارج المدن، لا يدخلونها إلا ليكونوا خدمًا وعمالًا أو للترفيه عن البيض.
وكان نظام الفصل العنصري من العنف بحيث اضطر العالم لمقاطعة جنوب إفريقيا بما في ذلك دول أوربا البيضاء، ظاهريًا على الأقل، وحدها إسرائيل هي التي أبقت على علاقتها معه لأنهما نظامان متشابهان في العنصرية، وقد رفض الزعيم مانديلا هذا النظام وقضى في السجن نحو 27 عامًا دون أن يغير موقفه، وتدريجيًا وجد البيض أنفسهم وسط بحر متلاطم من السود ولم يجدوا بدًا من إنهاء النظام العنصري والقبول بوطن واحد يسع الجميع، كما أراد مانديلا.
 
سلاح النمو السكاني والزراعة
فشل الاستعمار الاستيطاني في المرتين، لأنه لم يقدر على إبادة السكان الأصليين، أصحاب الأرض الشرعيين، كما هي الحال في فلسطين، فرغم عجلة القتل الإسرائيلية التي لا تكف عن الدوران، ويدفع الفلسطينيون كل يوم ثمنًا باهظًا لبقائهم على أرضهم لكنهم باقون، ورغم أن إسرائيل كانت تقلل دومًا من خطر التكاثر السكاني، وتعتبر أن العربي غير المتعلم المثقل بالأولاد والأفواه الجائعة لن يستطيع أن يفعل شيئًا ليغيّر واقعه، لكنها بدأت أخيرًا في الشعور بالقلق، فقد شعرت بأن الهاجس الديموغرافي العربي يمثل خطرًا على وجودها في المستقبل، ففي فبراير 2002 عقدت المنظمات الصهيونية العالمية مؤتمرها السنوي في إحدى مستعمرات الضفة الغربية، وناقشت تقريرًا بعنوان «الخطر الديموغرافي العربي على إسرائيل»، والذي أشار إلى أن نسبة تعداد اليهود في كامل فلسطين المحتلة تصل إلى 54 في المئة من مجموع السكان، وهناك ارتفاع بمتوسط الزيادة السكانية للعرب يصل إلى 5 في المئة سنويًا، بينما تصل النسبة في الوسط اليهودي إلى 1 في المئة، وبناء عليه يتوقع الجهاز المركزي الفلسطيني للإحصاء أن يتساوى «عدد السكان الفلسطينيين واليهود مع نهاية عام 2022، حيث سيصبح عدد الفلسطينيين واليهود نحو 7.1 ملايين لكل منهم».
السلاح السكاني وحده لا يكفي، فالتمسك بالأرض يجب أن يتوازى معه، لذا تمثل الزراعة جانبًا ومكونًا أساسيًا من مكونات النسيج الوطني والثقافي والاقتصادي والاجتماعي في فلسطين، فهي عنوان الصمود والتصدي والتشبث بالأرض، خاصة أنها مستهدفة من المستعمرين الصهاينة مهددة بالمصادرة والاستيطان، فإسرائيل تدرك مدى أهمية معركة الزراعة وتحاول تدميرها كلما حانت الفرصة مثلما حدث في تدمير غزة، وكذلك الإجراءات التعسفية للاحتلال وتدمير القطاع الزراعي ومصادرة المياه والأراضي، ومنع المزارعين من الوصول إلى حقولهم بحرّية، وإقامة جدار الفصل العنصري في الضفة الغربية.
ولمواجهة ذلك على الفلسطينيين زيادة الدعم المقدم لقطاع الزراعة وإعادة توجيه دفة المساعدات الخارجية إليه والعمل على تحديد ملامح الخصوصية الزراعية الفلسطينية، حتى تتمكن من الخروج من استحواذ الاقتصاد الإسرائيلي، وزيادة قدرة النظام الزراعي على التأقلم مع هذه التغيرات وتشخيص المخاطر المتوقعة، ووضع الحلول المناسبة لتقليل المخاطر.

وحدة الصف
في الختام، لا يمكن تحديد مستقبل فلسطين دون الاهتمام بالتعليم ووحدة الصف، فالتعليم هو السلاح النافع للأجيال القادمة، وبخاصة ذلك التعليم المرتبط بالتحولات التكنولوجية المعاصرة وهنا يأتي دور كل الأطراف الداعمة للقضية الفلسطينية في ذلك النوع من الدعم، أما وحدة الصف فهي أساس التخاطب والتواصل مع العالم بجبهة واحدة مثل كل حركات التحرر التي توحدت ضد المحتل الغاشم وانتصرت عليه في النهاية... لقد انقضى وقت طويل من الانقسام، والوحدة هي بداية الطريق الشاقّ نحو النصر القادم بإذن الله ■