بؤس العالم أو تغريبة «التيه الوجودي»

بؤس العالم أو تغريبة «التيه الوجودي»

    يُوجد العالَمُ في وضع مقلوب، يمشي على رأسه ضاربًا عرض الحائط بالوضع الطبيعي، متسلّحًا بأيديولوجية السّيْر عكس التّيار، المُنتصرَة لعشوائية الظاهر وطمْس معالِم الباطن، ولعلّ هذا ما حملته العولمة ومخطّطاتها، ذلك أنّها سعتْ إلى تكريس الحياة في بعدها المادي/ الربحيّ وتغييب الجوهر المعنوي/ الروحي الذي يشكّل عصَب وجود الإنسان على هذه الأرض، فكانت الأفكار والثقافة المؤسِّسة لها تجنح إلى الاتجاه المناقض، بإشاعة كل ما هو سطحي وغير مجدٍ للإنسان ككائن يبحث عمّا يحافظ على وجوده، والدّفع به إلى عالَم تُهيمن فيه اللّاقيم واللّاجدوى،

 

تمّ القضاء على كلّ ما يمُتّ بصِلَة للقيم الإنسانية التي ضحّت الأمم والشعوب وقاومت من أجل ترسيخها، عقيدة وممارسة، وتعتبر العقلانية ذات البُعْد الإنسانيّ تجلّيًا من تجلّيات فلسفة الأنوار، هذه الأخيرة تعدّ نتاج فكر إنساني مُمتدّ في الحضارات السابقة، لهذا لم تأْلُ الحضارة الأوربية، في بدايات عهدها، جهْدًا من أجل الانتصار للإنسان، باعتباره مركز الكون، ومن دونه لا تستقيم دورة الحياة، فتمّ تمكين الإنسان بكامل الحرية في الاختيار والعقيدة، وفي التحلّي بالعقل كبوصلة تقود الإنسان وسراج يضيء طريقه نحو معانقة الأسمى في الحضارة البشرية، دون إغفال لدور العقائد والديانات، وثقافاتها ونتاجاتها الفكرية في ترسيخ الوعي بقيمة الإنسان .بعد عُقود من العيْش في كَنَفِ الكنيسة وهيْمنتها. ونعتقد أنّ الثقافة العقلانية كانت السبيل الأنجع، بالنسبة للإنسان، لتحقيق الكينونة/ الفكرة المطلقة بتعبير هيغل، وهي الفكرة التي ظلت المحفّز الأساس في بلورة فكر عقلاني يحتكم إلى المنطق والعلم كآليتين لتدبير الاختلاف والتنوع وتضارب وجهات النظر حول قضايا الإنسان في الوجود. 
(1) العالم بوضع مقلوب: 
يُمكن القول إنّ العالَم في هذه اللحظة الفارِقَة والمفصلية قد تغيّر تغيّرًا جذريًا، إذ لم يعُد في الصورة المثلى، بل انزاح عن وضعه الطّبيعي ليجد نفسَه في وضع مقلوب، حيث انقلب الإنسان ضد إنسانيته، والقيم ضد جوهرها، والعقلانية ضد نفسها وتاريخها وتراثها الزاخر بالبَذْل والابتكار، مما حوّل العالَم إلى حلبة للصّراع بين ما ترْسمُه عولمة جائحة وجامحة نحو الربح، وما تبتغيه إرادة الإنسان في حياة يسُودُها العقْل والقيم، وشتّان بين إرادتين متباعدتين متنافرتين، متصارعتين. 
من هذه الحال يبدو العالَم تائها، مُتغوّلًا، مُنفصمًا عن ذاته، كما أنّ معالم التّوحُّش تبْدو واضحة في صور عديدة تعكس أزمة الإنسانية، وتطرح العديد من التّساؤلات المضنية والحارقة حول المآل الذي ينتظر الكون والإنسان. من هنا يمكن الحديث عن هوية التفكّك التي تميّز العالَم، والتي ستفضي لا محالة إلى كارثة وجودية تأتي على كلّ أمل في إنقاذ البشرية، على اعتبار أن جلّ التكهّنات تسير في الاتجاه السلبي وتنذر بأوخم النتائج المحدقة بالوجود.
 (2) مِنْ الْأَمْنِ الْقِيمِي إِلَى فَوْضَى اللّاقِيَمِ: 
  إنّ العالَم، في هذه الظّرفية التاريخية، يشهد ارتكاسةً خطيرةً على مستوى القيم الإنسانية، ويمرّ بمُنعطف ينبئ بمخاطر ستحدق بالإنسان، وتقوده إلى مرحلة عصيبة، والرّاجح في كلّ ما تتخبط فيه الإنسانية أنه يعود إلى مجريات العولمة ومخططاتها الجهنّمية العمياء، إذ لم يبق البعد القيمي يُؤخذ بعين الاعتبار من لدن ساسة الدول العظمى، ممّا كان له تأثير قويّ وجلي على العلاقات الدولية التي غدَت متوتّرة ومختلّة الموازين والمصالح، نظرًا لتغليب المصالح الضّيّقة على الأمن العالمي، وتأجيج بؤر التوتّر بإشعال حروبٍ مميتة ومخرّبة لحضارات أُمَمٍ كان لها الدور الفعّال في تشييد الحضارة الإنسانية والتّأثير في مجرياتها، إضافة إلى مقاصد الربح والتسليع التي نهجتها سياسة العولمة، الشيء الذي أفقد الإنسان قيمته الإنسانية، حيث تمّ تسليعه وتحويله إلى بضاعة، بل إن ثقافة اقتصاد السوق نجمت عنها تصورات فكرية تشجع الضحالة والابتذال، وتحارب ثقافة القيم الرّامية إلى الحفاظ على إنسانية الكائن البشري، لتصبح الضحالة اللسان الناطق في كل مناحي الحياة، وعبودية الاحتذاء عقيدة جديدة، فأثّر هذا على الأمن القيمي، ومن ثمّ على حقيقة الكائن في الكون ودوره في استنبات الخير ومحاربة الشّر، لذا يعيش العالَمُ حالة الفوضى والضياع، هذه الفوضى انعكست على حقول الفكر والاقتصاد والسياسة، وعلى المجتمع الذي ضيّع فرصة للتصالح مع ذاته والمحيط؛ فضاع في متاهات تقنية قاتلة للحسّ الإنساني، وقاضية على أمل العودة إلى جادّة الصواب، ومغلولة بأصفاد تقنية ماكرة أغوت الإنسان بمظهرها الخادع. 
إن «اللّاقيم» هي الوجه الحقيقي لعولمة، هاجسها الأوّل والأخير تحويل العالَم إلى ملكية خاصة بالدول العظمى، وتغييب الإنسان ككيان له حقه في الحياة، ودوره في بناء الفكر الإنساني، كلّ هذا يفضي بهذا العالَم إلى قيامة جديدة تعلن نهاية الإنسان، ومن ثمّ انهيار منظومة الحياة، فعندما تموت القيم في المجتمع الدّولي يموت الإنسان والحضارة، ويتوقّف الوجود التاريخي للبشرية، وتقام صلاة الغائب على العقل ويكون مثواه الزوال والامّحاق من ذاكرة الوجود.
(3) الْعَوْلَمَةُ الرَّقْمِيَةُ وَرَقْمَنَةُ بُؤْسِ الْعَالَمِ :
   إذا كان واقع الحال يشهد على عولمةٍ رقميةٍ تحمل في ثناياها كل مظاهر المدّ للوسائط الاجتماعية ووسائل الاتصال، وتؤثّر في سيرورة الأمم سواء إيجابًا أو سلبًا، وكان من بين الدواعي لما يعرفه العالَم من انتقالات جوهرية في المفاهيم والتّصوّرات، والرّؤى المؤطّرة لثقافة جديدة تعطي القيمة لما هو مادي وتهمّش ما هو إنساني، وتؤسّس لمجتمع المعرفة بحمولاتٍ أكثر تطوّرًا وراديكالية للسائد في الفكر الإنساني، وتخلق مجتمعًا عالميًا موحّدًا، تتحكم فيه الفردانية والتقوقع حول الذات، وزوال السرديات الكبرى التي هيمنت على الساحة الدولية في بدايات القرن العشرين، والانغماس في التّفاهات التي تمسّ جوهره، وتؤدّي إلى بناء إنسان مشوّه نفسيًا وفكريًا، إنسان خارج منظومة اجتماعية تعطي الأولوية للعلاقات الإنسانية، وللأمن الروحي والجسدي التّفاعل والتّداخل والتّشابك لتشكيل وعي حقيقي بالكينونة، هذه الأخيرة تواجه اليوم مصيرها المهدَّد بالقضاء على الخصوصيات والحميميات بفعل الرّقمية غير الرّحيمة التي تَصُبّ في مجْرى التّشويه والتّنقيص من دور المعرفة الرصينة والعميقة، والعمل على ذيوع معرفة تهتم بالسّطحي والعابر والآني، مما سينتج عنه تكوين إنسان ناقص المناعة لمواجهة تحدّيات الحياة ورهاناتها المستقبلية، بعبارة أخرى إن عولمة الرقمية لم يكن منطلقها ما هو إنساني بقدر ما تحكّمتها دواع اقتصادية كخلفية تسيّج العقل الغربي، وتحفّزه على اقتراف الجرائم في حقّ الإنسان، فعلى الرغم مما يروّج له من كون الثورة المعلوماتية والرقمية جاءت لتقريب الأمم وتلاقحها وتفاعلها وتيسير البحث عن المعلومة بوسائل حديثة، وتصيير العالَم قرية صغيرة، فيمكن عدّها أكذوبة تطول دول العالم المتخلّف والمتحكَّم في دواليب حكمه واقتصاده وسياسته ووجوده، وتكرّس واقعًا جديدًا سِمَتُه الاستخفاف بالعقل البشري، والسّيطرة على مقدرات الشّعوب المقهورة، وما يحدث في العالَم من انهيار اقتصادي لهذه المجتمعات، والابتذال السياسي القائم في مؤسسات الدول، والتراجع المهول والفظيع في الحقوق، وسيادة إرادة القوي على الضعيف الفاقد لإرادته، ونشر النزاعات واختلاقها دليلًا ساطعًا على بؤس العالَم، وانسداد الأفق الإنساني. وما تشهده مجالات الرقمية من انفجارات اجتماعية وانهيارات لاقتصادات دول يمنح صورة على ضحالة الكائن وفداحة الكون، وعلى أنّ القادم أبشع وأفظع على غد البشرية جمعاء.
إنّ ما تعجّ به الوسائط الاجتماعية والمواقع الإلكترونية من ذيوع، وانتشار لثقافة التّفاهة على كل المجالات يؤكّد بالملموس أن العالَم يشهد اندحارا مهولًا وانحدارًا خطيرًا على مستوى الفكر والإبداع، بل ارتكاسة حضارية للعقل التنويري، وتكريسًا لعبودية الاتباع بشكل مُثير للكثير من الأسئلة، فإذا كان العالم الرقمي ميدانًا لتقاسم الثقافة والخصوصيات التي تميّز الأمم والشعوب، والاطلاع على آخر المخترعات والابتكارات والمعلومات والأخبار، فإنه أصبح موجّها للقمع والمحاكمات والمتابعات القضائية في سياق محاربة الجرائم الإلكترونية، وتكميمًا لكلّ الأصوات الحرّة والمعبّرة عن وجهات نظرها المخالفة لتوجّهاتها الاستعمارية بلبوسات جديدة، وهنا مكمن الخطورة التي تهدّد الإنسان في وجوده وحريته، وتجعله سجين ثقافة الضحالة وقتْل الذاكرة الجمعية بترسيخ صور نمطية مبتذلة لكل مجالات الإبداع.  إن الأمر يدعو إلى ضرورة خلْق سلطة مناهضة تروم تعرية المضمر والمخفي لهذه الوسائط المعلوماتية، ومحاربة كل ما يمكن أن يحرم الناس من التعبير عن آرائهم من دون رقابات، وبعيدًا عن الوصاية كيفما كان جنسها ولونها ونمطها، وعلى السلطة المناهضة تبني سياسة تبيين أهمية هذه الوسائط في التثقيف والخلْق والإبداع، والسّعي إلى إضاءة الإيجابيات الكامنة فيها، بدل حصرها في نشر التّافه والمسفَّه. إن رقمنة الضحالة والتّفاهة دليل ساطع على أزمة الإنسان الحضارية، ويعكس الوجه المخفي للثورة المعلوماتية.
(4) جَائِحَةُ كُوفِيد 19 وَتْرَاجِيدِيَا الْكَائِنِ: 
 لم يخطر ببال أحدٍ أن يغدو العالَم بين عشية وضحاها رهين وباء لعين غير مرئي، ويتحوّل بجبروته إلى سجن كبير يقيم بين قضبانه الأمم مكرهَة، ويحاصر الأنفاس والأرواح، ويقيّد الإرادات ويشلّ حيوية الحياة، ويصير الكائن، بدسائس ومكائد جائحة كوفيد - 19، غارقًا في تراجيديًا عظمى وأليمة ولا قدرة له على استيعاب هذا الضيف المفاجئ، والذي يطرق موت الأجساد من دون جواز المرور، فخفية يتسلّل إلى الجهاز التنفسي ليدمّر فيه الحياة، هذه التراجيديا سهر عليها عتاد الإخراج من قوى عالمية همّها الأساس إعادة استعباد الناس وجعلهم عبيدا تحت رحمة وباء لا يرحم، ومن ثمّ ازداد بؤس العالَم حدّة وتجذّرًا في رؤى وخيالات أجيال تعيش تحت وطأة هذه الجائحة، فتغيّرت الكثير من الممارسات والعلاقات، والأكثر من هذا نمط الحياة يتخبط في صيرورة متحوّلة إلى أمور مجهولة ومحيّرة. 
والكون يغرق في ليلِ جائحة تتسيّد على الجميع، وتُعيد عقارب الزمن إلى مراحل العبودية التي اعتقدت الإنسانية أنّها تجاوزتها وتخطّتها إلى زمن حضاريّ يعطي للإنسان قيمته، لكن يبدو أن قانون الغاب والأهواء الحيوانية المحجوبة في الكائن البشري تمّت إثارتها بغية فرض نظام عالمي ابتدأ بثقافة عولماتية تفكّر في الربح والسّبق المعلوماتي، والسيطرة على الدول المغلوبة باسم الديمقراطية ومحاربة الاستبداد، بعد أن شاخت أسطوانة الحرية وحقوق الإنسان، فجاء تحرير السّوق العالمي واتّفاقيات التّبادل التّجاري كآليات لاستعمار جديد بقفازات اقتصادية تثوي الويلات والحروب على هذه الدول وشعوبها.  
إن جائحة كوفيد أبانت عن الوجه القبيح للغرب، وكشفت عن بشاعة الشّعارات التي كانت ترفعها في وجه الأمم السّاعية إلى التحرّر من العبودية الجديدة والتبعية المقيتة، كما عرّت عن جوهر الدّول العظمى المتجلّي في فرض سياساتها اللّاإنسانية على العالَم، فصورة الآخر المتقدّم والمدني والمتحضّر، والعقلاني قد تهشَّمت وانفضحت حقيقتها في ذاكرة ومخيال شعوب العالَم.
فالبشرية، في هذه اللحظة الارتكاسية للحضارة، تعيش تراجيديا مؤلمة وعصيبة، نظرًا لما تشهده من أوضاع كارثية على الصُّعد قاطبة، ما يطرح العديد من التساؤلات المقلقة والجارحة للضمير العالَمي - إن بقي هذا الضمير - ما المصير الذي ستؤول إليه الإنسانية في ظلّ جائحة تضاربت الآراء حول وجودها من عدمها؟ وهل هي مجرد وسيلة من وسائل التّحكّم في حياة المليارات من ساكنة الكرة الأرضية؟ ثم ألا يمكن اعتبارها آلية جديدة من آليات القهر النفسي الممارس على الإنسان؟ هي أسئلة ستظلّ مطروحة مادامت الحقيقة مُحاطة بالكثير من الغُموض والالتباس.
 (5) الْعَالَمُ وَصَدْمَةُ الْمَكْرِ الْغَرْبِيّ: 
هذه المحنة الوجودية، التي تتعرّض لها الإنسانية، تفرض على الجميع مراجعة كل اليقينيات المتداولة، والتفكير في صياغة ميثاق أممي جديد يستجيب لهوْل الفاجعة الكارثة، والتّفكير في خلق علاقات أساسها العدالة العادلة بعيدًا عن الانحياز الفاضح للتّسلّط والهيمنة ذات الطّابع الغابوي، والعمل على تبديد كلّ التّكهّنات المثيرة للقلق ولفقدان الثقة في باقي الفاعلين الدوليين الذين أبانوا عن نياتهم الدفينة الخبيثة التي يمكن تلخيصها في: 
- إحياء نظام العبودية بصيغٍ أكثر قساوة.
- تكريس سياسة التمييز العنصري من خلال تحويل العالَم المتخلّف بؤرة للإبادات الجماعية والحروب المشتعلة هنا وهناك، والسعي إلى تقويض كلّ أملٍ في إخراج هذا العالَم من عنق زجاجة الصراعات المفتعلة.
- ظهور العالَم الغربي كقوة إعلامية وعسكرية ورقمية تتحكم في الرقاب والعباد، وتوجيه العالَم الآخر كما تريد الطبقة المتحكّمة في دواليب المنتظم العالَمي.
هذه صور الذات الغربية الحقيقية الكاشفة عن وجهها العاري من أقنعة الحقوق وإرساء دعامات الدمقرطة الفعلية، والمبرز لأنياب استعمار جديد بلبوسات جديدة، بعيدًا عن أساليب الحروب التقليدية. ولا غرو في ذلك لأن مصالح الغرب تكون ذات أولوية، بل مقدّسة لا محيد عنها، كما أن الذات المتخلّفة تخلّصت من سذاجتها المتمثّلة في التصديق الأعمى لما يصدّره الغرب من طروحات وقيم لم تكن في جوهرها خالصة، بقدر ما كانت محمّلة بخُبث غربي ماكرٍ، واللّعب على حبْل الإثنيات وتكريس طبقة من الطّغاة المستبدّة والمتسلّطة للحفاظ على مصالحها، ومصالح هذا الغرب ذي الأوجه المتعدّدة. ولعلّ ما يجري من إبادات وتغيير لخرائط بعض المناطق في العالَم تمثيل جليّ لسياسة الغالب على المغلوب. وبؤس العالَم اليوم يحتاج لمواجهة حقيقية من العقلاء من خلال التكتّل للوقوف سدّا حصينًا أمام ما ينتظر الإنسانية من ويلات وكوارث ستكون وبالًا على الكائن البشري وعلى مستقبل الكرة الأرضية، والعمل على تقوية جبهات الدفاع عن الحقّ في الحياة والحفاظ على الوجود البشري. إنّ بؤس الإنسان من ضحالة الرؤى وعُسْر التفكير، من الجشع المادّي والجوع القيمي (نسبة إلى القيم)، وما تعرفه الإنسانية من رِدّات تمثيل واضح على وصول الحضارة المعاصرة الباب المسدود، ما يشكّل خطرًا محدقًا بوجود الإنسان على هذه البسيطة، وستكون له انعكاسات سلبية على الكون والفرد والمجتمع. وتؤدّي إلى انهيار مدوٍّ في العلاقات الدولية مستقبلًا، دون نسيان أن تغليب المصالح وتغييب العقل كان وراء ما تعيشه الإنسانية من ارتكاس حضاري مهول ومخيف ومثير للعديد من الأسئلة.
(6) ضَرُورَةُ الْإِنْقَاذِ، فَالْعَالَمُ إِلَى زَوَالٍ:
كلّ تفكير في المصير الإنساني هو دعوة لإعادة النظر في موقع الكائن من ذاته ووجوده، والسّعي نحو التّأمّل في هذا الملكوت الذي تُشنّ ضدّه حرب بلا هوادة بغاية تدميره والقضاء على أسباب الحياة. فمن دون إرادة جماعية يستحيل على العالَم أن يستعيد عافيته ويعود إلى سالف عهده، وأن يؤسس لعلاقات تنبني على التوازن والتقاطب المنطقي بعيدًا عن سياسة المصالح الآنية والضيّقة، فبناء الحضارة الإنسانية رهين بتحقيق الفاعلية المعرفية والتفاعل الحضاري الذي بإمكانه تقليص الهوة بين عالَمين متناقضي التّوجّهات وترتيب الأولويات، وهذا مكمن الصّراع القائم بين الدول العظمى، فالتلاقح الثقافي يمكن اعتباره المخرج الوحيد من هذه الأزمة/ الارتكاسة الحضارية، واستعادة العالَم عافيته المؤجّلة، فعن طريقه بإمكان الإنسانية تفادي كل ما من شأنه أن يتسبب في انهيار جسور التواصل والإسهام في بناء الثقة، والسعي نحو الحفاظ على صرح القيم الإنسانية شاهقًا وشاهدًا على هذه المثاقفة الفاعلة والمنشغلة بربط الأواصر الوجودية بين الناس قاطبة بعيدًا عن النرجسيات التي ميّزت وتميّز بعض الأمم، التي ما زالت منكفئة على أنويتها الضيّقة، تمارس الإقصاء ضد كل من يخالفها في العرق واللون واللغة والجغرافيا. وإذا جرى التّمادي في هذا التصوّر فسيكون العالَم تحت رحمة ارتجاجات خطيرة تهدّد وجود الإنسان على هذه الأرض، ما يحتّم تكثيف الجهود لإنقاذ العالَم، والخروج من نفق هذا التّيه الوجودي القاتم والمُرعب، من أجل معانقة الحياة في امتداداتها الجليلة، واستعادة الإنسانية دفئها المفتقد في زمن معولَم بجائحة كورونا اللعينة.

قَرِيبًا مِنَ الحقيقة بَعِيدًا عَنِ الاِحْتِمَالِ:
«للعالَم مراياهُ/ للأرض صولة الهاوية/ للنهر أن يكبو في مجرى البحر/ للأشجار أن ترتّب الظلال للهاربين من الجحيم/ للجدران أن ترْعى ذكريات الأمم/ وتنام على خراب الظهيرة/ وللأبواب أن تلعن صرير الفراغ/ وللطريق أن ترمّم نزيف التّيه/ أن تلتحف ارتجاف الغرباء/ وللسّماء أن تُزيّن المدى بِكُورال القيامة... وللأيادي أن تلوّح لسراب الحياة مناديل العزلة/ وأن تطرق أبوابًا تنام في بحبوحة الغياب/ وللوجوه أن تتلو أسفار التّيه للعابرين صوب المنافي/ حيث الفراغ يصهل/ القيامة تعلن أعيادها القادمة/ والقبور ترتب مائدة العشاء الأخير...» ■