مطالعات في حضارة الحاسوب: المعلوماتيات وصناعة المستقبل السيد نصر الدين السيد

مطالعات في حضارة الحاسوب: المعلوماتيات وصناعة المستقبل

"هناك مخاوف أبداها البعض من أن الإغراق في (حوسبة) دقائق الحياة اليومية للإنسان ينذر بإلغاء إنسانيته، ودفعه إلى خانة الآلية والنمطية. لكـن هناك من يرى أن الحاسوب - في بعده المستقبلي- يعـد بمـزيد مـن الاحترام لتفـرد الشخصيـة الإنسانيـة، كيـف؟"

لك يا عزيزي القارىء أن تنظر لهذا المقال كنسيج لحمته وسداه هما الكلمـة والعبارة التي يتألـف منهما عنـوانه. أما الكلمـة فهي كلمة "معلـوماتيات" التي ارتضيناها ترجمة للكلمة الإنجليزية Informatics قياسا على الترجمات العربية الشـائعـة لكلمات مثـل إلكترونيات Electronics وبصريات Optics وصوتيات Phonetics. هذا عن ترجمة الكلمة، أما دلالتها فيحملها لنا تعريفها الذي ورد في الوثيقة الرئيسية للمؤتمر الـذي نظمته هيئة اليونسكـو بالتعاون مـع المكتب الدولي للمعلـومات IBI في رومـا سنـة 1978 حـول مـوضـوع "استراتيجيات وسياسات المعلـوماتيات". فقد عرفـت الوثيقة المعلوماتيات بأنها تتضمن "تصميم وإنشاء وتقييم واستخدام وصيانة منظومات معالجة المعلومات بما تشتمل عليه من معدات Hardware وبرمجيات Software حاسوبية وجوانب تنظيمية وموارد بشرية. هذا بالإضافـة إلى مجموع الآثار الصنـاعية والتجـاريـة والإداريـة والسياسيـة والاجتماعية المترتبة على تلك المنظومات".

معمار المعلوماتيات

ولعل الميزة الكبرى لهذا التعريف أنه خرج لأول مرة بدلالة الكلمة من نطاق التكنولوجيا المحدود إلى فضاء استخـداماتها وأثرها الممتد. ويدفعنـا هذا إلى تشبيه المعلوماتيات كبنيان أساسه هو مجموع المعارف الأساسيـة مثـل الفلسفة والمنطق والريـاضيات والفيزياء والبيولوجيا والكيمياء وعلـم النفـس واللغويات. أما مرافقه، أو بنيته الأساسية فهي حصيلة تزاوج ثلاثة تكنـولوجيات هي: تكنولوجيا الحواسب، أو المعدات بما تقدمه من حواسب فائقة القـدرة وتجهيزات متنوعة تيسر لـلإنسان التحـاور معها ونظـم لخزن المعلومات بجميع أشكـال تمثيلها، وتكنولوجيا البرمجيات بما تشتمل عليه من نظـم لتشغيل المعدات ولإدارة قواعد البيانات والمعلومات وبرمجيات متخصصة تعطي كل المجالات وبرمجيات لإنتاج البرمجيات وتكنولوجيا الاتصالات بما تقدمه من أساليـب وتقنيات لربط الحواسب بعضها بالبعض أيا كان موقعها على سطـح الأرض. ولا يكتمل هذا البيان إلا بتلك المجموعة الفريدة من التقنيات الذهنية المتمثلـة في مجمـوعة من الرؤى العلميـة المستحـدثة التي واكـب ظهورهـا ظهـور الحاسوب مثل نظرية المنظومة العامة -General Sys tem Theory والسيبر نيطيقا Cybernetics وبحوث العمليات ونظرية اتخاذ القرار ونظريـات الذكاء الطبيعي والصناعي. وهـي رؤى تتميـز جميعهـا بصفـة "التـداخليـة"Interdisciplinary. والآن نعود إلى سدة المقال التي يشكلها الجزء الثاني من عنوانه، أي عبارة "صناعة المستقبل" لنكتشف ما تنطوي عليه من معان ودلالات. فالبعض منا سيفهم منها معناها المألوف وهو الصورة المستقبلية أو المتوقعة لكل جوانـب عملية إنتاج السلع المصنعة أو الخدمات سـواء كان هذا الجانب يتعلـق بطبيعة المنتج نفسه، أو يتعلق بالتجهيزات التقنية الـلازمة لإنتاجـه من معدات وآلات، أو يتعلق بالتنظيمات البشريـة المسئـولـة عـن تحويـل الموارد الأوليـة أو الأشكـال المختلفة لعنـاصر الإنتـاج إلى منتجـات جاهزة للاستهلاك. أما البعض الآخر فسينظر إلى كلمة المستقبـل على أنها تدل على المنتج الـذي نسعى إلى الحصول عليه. وهكـذا سيأخذ أولئك من عبارة "صناعة المستقبل" معناها غير التقليدي الـذي يعنى بكل ما يتعلق بعملية "إدارة المستقبل" بـما تتضمنه من تنبؤ لتوجهاته وتصميم لخياراته وتوجيه لمسـاراته. وكـلا الفـريقين على صـواب فيما انتهى إليـه من دلالات. فالفريق الأول ينظر إلى دلالة العبارة من منظور حضارة مجتمـع الصناعة بتوجهها نحـو ما هو كـائن، أما الفريق الثاني فينظـر إليهـا من منظـور حضارة مجتمـع ما بعـد الصناعة بتوجهها نحو مـا يمكن أن يكـون. وهكـذا تحمل لنا تلك العبارة معنيين متمايزين وإن كانا بالضرورة متكاملين. يتكون المعنى الأول لعبارة "صنـاعة المستقبل" من ثـلاثة أبعاد هـي طبيعة المنتج، والتكنولوجيـات اللازمـة لتصنيعـه، والتنظيمات البشريـة المطلوبة لإنتاجـه. فإذا نظرنا للبعد الأول لوجدنـا أن سمة "الإنتاج الضخم" Mass Production هي من أبرز السمات التي تميزت بها صناعة عصر حضارة مجتمع الصناعة. وهـو الأمر الـذي أدى إلى تصدر معيار "الكـم" على معيار "الكيـف" في قياس كفاءة أي عملية إنتاجيـة أو صناعية. وبالطبع كـان مبعث هذا التوجه هو الرغبة في إشباع الحاجات الأساسية لأكـبر عدد ممكن من أفراد المجتمع وبغض النظر عن المزاج الشخصي لكل فرد على حدة. ولا يتطلب تحقيق هذا الأمـر من المنظور المعلـوماتي إلا قدرا محدودا من المعلومـات يسهل التعامل معه بالأساليب اليـدوية التقليدية لمعالجة المعلومات.

وهكـذا رأينا انتشـار كيـانات الإنتاج الضخـم، سلعيا كان أو خـدميـا، مثل المجمعات الصناعيـة العملاقة التي تضم الآلاف من خطوط التجميـع Assembly Line ومثل محلات السـوبر مـاركـت المخصصـة لخدمة أعداد كبيرة مـن المستهلكـين. على أن انتشار كيـانات الإنتاج الضخـم تلك لم يمنـع من وجود كيانات إنتاجيـة صغيرة تقدم لروادها سلعا وخـدمات تتفـق مـع أذواقهـم ومـع أمـزجتهـم الشخصية. لكـن هذا الوجود ظل محدود الانتشار لارتفاع تكلفـة ما تقـدمه وقلـة القادرين على تحمل النفقات الباهظـة اللازمة للحصول عليه، إلا أن الارتفاع المستمر في مستوى معيشة أفراد المجتمعات المصنعة قـد أدى إلى تزايـد اهتمامهم بتلك المنتجات المنتجـة خصيصـا لهم لترضي أمزجتهـم وأذواقهـم الشخصية. ويعني هذا الأمر من المنظور المعلـوماتي ضرورة التعامل مع كـم هائل من المعلومـات التي تتنوع تنوعا شديدا بقـدر تنوع الأمزجـة الشخصية لبني الإنسـان والتي تعجز الأسـاليب التقليديـة عن القيام بها. وهنا تقدم المعلوماتيات حلولها وتصوراتها لمنظـومات الإنتـاج المستقبلية التي تراعي الفروق الفرديـة بين البشر وتسعى لإشبـاع حاجتهـم للتمايز عن الآخرين. وتبدأ دورة الإنتاج في تلك المنظومات بقيام المستهلك بتحـديد مواصفـات السلعة التي يحتاجها وإرسالها من حاسوبه الشخصي عبر شبكات الاتصالات الى مركز التصميمات الهنـدسيـة لمنتـج السلعة حيث يتـم خزنها في قاعدة بيانات حـاسوبه. وهناك يتـم تحويل تلك المواصفات إلى مجموعـة من التعليمات التنفيذية التي يتم إرسـالها إلى حاسوب أقرب مركز تصنيع لمكان العميـل. وأخيرا يستخدم حاسوب مركـز التصنيع تلك التعليمات في تشغيل المعدات اللازمة لإنتاج السلعة بالمواصفات المطلوبة.

ويتطلب تنفيذ دورة الإنتاج تلك الاستعانة بثلاثة أنواع من منظـومات الـبرمجيات. النوع الأول هو برمجيات " التصميم بمسـاعدة الحاسوب"- Comput (er Aided Design )CAD التي يستخدمها مركز التصميمات أو المستهلـك المحترف في تصميم المنتج وبيان تفصيلاته. أمـا النـوع الثاني فهو برمجيات "التصنيع بمساعدة الحاسوب Computer Aided (Manufacturing )CAM والتي تستخدم في مركز التصنيع للتحكـم في تشغيل المعدات اللازمة لإنتاج السلعة وفي التخطيط للمواد الأوليـة المطلوبة وفي تشغيل الروبوتات (الإنسان الآلي) Robot في تجميع أجزاء المنتج. وأخـيرا بـرمجيات "خـدمـات الصيانـة بمسـاعدة الحاسوب"- Computer Aided Main (tenance Service(CAMS والمخصصة لاستخدام البيانـات المتعلقة بـالعميل وبرغبـاته وتلـك المتعلقة بالمنتج في تقديـم خدمات ما بعد البيع بطريقة كفء وسريعة.

ويقودنا هـذا إلى البعـد الثاني من أبعـاد المفهوم الأول لعبـارة صناعة المستقبل وهـو المتعلـق بالمنظـومات التكنـولوجية الـلازمة لتصنيـع السلعة حسب طلب العميل وطبقا لرغباته. وتتكون تلك المنظـومـات، التـي تعرف بـ "منظومات التصنيع المرنـة" Flxible Manufacturing Systems (FMS) مـن مجموعة آلات ومعدات لتشكيل الأجـزاء المطلـوبـة طبقـا لـبرامـج مختـزنة في ذاكـرة حـاسوب أو أكثـر، ومجموعة روبوتـات لتجميـع الأجزاء المطلوبـة لإنتاج السلعـة، وأخيرا عربـات مسيرة عن بعد لحمل المواد اللازمة.

إدارة المستقبل

ترتبـط كلمة " الإدارة" في أدبيـات علوم وفنـون الإدارة بكلمات مثل: التنبؤ والتخطيط واتخاذ القرار. وإذا كـانت إدارة التنظيمات البشريـة ليسـت بالأمر الهين فـإن إدارة المستقبـل لابد أن تكـون بـالضرورة أمـرا عسـيرا. فـالتنبـؤ، أو استشراف التوجهـات المحتملـة للمستقبل، عمليـة بـالغة التعقيد يتطلـب إنجازهـا تضافر وتكامل العديد من العنـاصر مثل: القـدرة على التعامل مـع كـم هـائل مـن البيـانـات المتنوعـة، سواء كـان هذا التعامـل جمعا أو تبويبا أو تحليلا، وتوفـير الخـبرات البشريـة القادرة على إبـداء الرأي في الموضـوع المطروح لدراسة مستقبلـه. وهو، في أبسـط صـوره، يقـوم على استخـدام تقنيـات الاستقراء الرياضي والإحصائي المتقدمة، التـي لا يجيـدهـا إلا قلـة من المتخصصين، في استخـلاص التوجهات المستقبلية للموضوع المطروح من واقع البيانات التي تصف حـالته الحاضرة وحالته الماضية. وهنا نجـد المعلوماتيات وهـي تقدم برمجيـات للتنبؤ القائم على الاستقـراء الريـاضي والإحصائي يسهـل لغير المتخصصين التعـامـل معهـا مبـاشرة. إلا أن الاكتفاء بهذه التقنيات يحمل في طياته أوجـه قصور عديـدة من أبرزهـا ارتكازه على فرضيـة أن القوانين التي تحكم ما قد يحدث غدا هـى نفسها التي تحكم ما يحدث اليوم ومـا حـدث بـالأمس. لـذا كـان مـن الضروري الاستعانة بـالنماذج الرياضية التي تصف الموضوع بواسطة معـادلات ريـاضية قـد يتجـاوز عددها الآلاف وتضمين تلك النماذج القوانين التي نعتقد أنها تحكـم سلوكياتـه المستقبلية. ومـرة أخرى تقدم المعلوماتيات المنظومات الحاسوبية التي لولاها لما تمكنا من بناء تلك النماذج وحل معادلاتها ومن ثم التعرف على السلـوك المتوقع لشيء مـا. وأخيرا يبقى عنصر الخبرة البشرية المتعلقـة بالموضـوع والمتمثلة في صـورة آراء وأفكـار وتصـورات الخبراء والتـي تستعصي على الصياغة الريـاضيـة. وهنا تقـدم لنـا المعلومـاتيات برمجيات معـالجة الأفكار- Idea Pro cessing التي تساعد الإنسـان على التفكير الإبداعي بـما تقدمه له من وسائل لتنظيم أفكاره وصياغتها وتطـويرهـا، وللتفكير المجـازي Metaphorical Thinking الذي يستخدم التشبيه والاستعارة والكنـايـة لاستلهام الأفكـار الجديـدة، ولكتـابـة السيناريوهات التي تصف التعاقب الزمني لأحداث محتملة.

فإذا انتقلنا للبعد الثـاني من أبعاد إدارة المستقبل وهو التخطيط، أو دراسة وتصميم الخيارات الممكنة له، لوجدنـا المعلوماتيـات وهي تقـدم لنا برمجيات محاكاة Simulation تمكننـا مـن تمثيل الواقـع ومـن اختبار مدى صحة ودقة تصوراتنا عنه. كـما تتيح هذه البرمجيـات لمستخـدميها الفرصـة لـدراسة آثـار ما يخططـون لعمله في المستقبـل وبهذا يمكنهم تصميـم بـدائل وخيارات لما يمكنهم فعلـه. وأخيرا تعينهـم تلك البرمجيات وبرمجيـات بحوث العمليات على المفاضلة بين البدائل المختلفة ممـا يساعدهم على اتخاذ أفضل وأنسب القرارات.

وفي النهاية كان هذا حديثة خاطفاً عن المعلوماتيات كأداة لإنسان حضارة مجتمع ما بعد الصنـاعة لصناعة المستقبـل وأيا كـان المعنى الـذي ترتضيه.

 

السيد نصر الدين السيد

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات