غزة موقعها سرّ تاريخها

غزة موقعها سرّ تاريخها

غزة مدينة الصمود والمقاومة... تاريخها سطره موقعها الجغرافي، واختلفت الآراء حول موقع غزة القديمة، فهناك من قال إنه تل العجول القريب من المدينة الحالية، وهناك من قال إن المدينة الحالية شيدت فوق المدينة القديمة، وفي حقيقة الأمر أن المعطيات تشير إلى أن غزة في عصور ما قبل التاريخ كانت في تل العجول، ثم هجر إلى موقع غزة الحالي، وقد ذكرها المؤرخ اليوناني هيرودوت في تاريخه، موقع غزة هو سر خلودها، فهو أول واحة تقف عندها القبائل العربية لتحط رحالها وتجد الطين والخصب بعد صحراء قاحلة، لتصبح غزة أول مدرسة لتعليم الزراعة والاستقرار لمن تعود على الرعي والترحال، فهي مصب بشري بحكم موقعها الحدّي بين المزروع واللامزروع عبر عصور التاريخ، فهي آخر الصحراء شمالًا وأول البحر المتوسط جنوبًا، فجذبت لها القبائل العربية لهذه الأسباب.

 

كانت حضارة تل العجول إلى الجنوب من غزة مزدهرة في العصور الحجرية، حيث عثر في مصر على أوانٍ صنعت في جنوب فلسطين كما عثر في حفائر المعادي بالقاهرة على أوانٍ فخارية ذات غطاء تمتلئ بالزيوت الفلسطينية، فكانت منطقة غزة همزة وصل بين مصر والعراق في العصور الحجرية.

غزة الأولى وأحمس
دمرت غزة الأولى على يد الفرعون أحمس في أثناء مطاردته الهكسوس المحتلين، فتوجه السكان الأصليون شمالًا وتمركزوا في موضع غزة الحالي الذي بدأ إعماره من حي الزيتون. ورد اسم غزة في المصادر المصرية القديمة، عندما قام تحتمس الثالث بحملاته المتعددة علي فلسطين لتأمين هذه المنطقة من الغزاة حيث احتفل فيها بعيد اعتلائه العرش، وكانت حملاته بين عامي 1468 و1436 قبل الميلاد. وظلت غزة عاصمة إقليمية كنعانية وردت في رسائل تل العمارنة الفرعونية، ففي رسالة تاريخها يعود للفترة بين 1350 و1205 قبل الميلاد في حكم الأسرة الـ 19 يذكر كاتب الرسالة عن غزة ومنطقتها «ذات المراعي الجميلة والجنائن الخضراء، ذات الثمار الناضجة من كل نوع».
تعرضت غزة عبر التاريخ لغزوات من الآشوريين والفرس ثم الإسكندر المقدوني، فقد صمدت مدينتا غزة وصور تسعة أشهر أمام حصار الإسكندر حتى جرح الإسكندر في أثناء معاركه للاستيلاء على غزة. وفي القرن الثاني قبل الميلاد أصبح الأنباط أمة ذات حضارة عظيمة وصلت إلى قمة تألقها التجاري، خاصة في تجارة التوابل، فأقاموا محطات تجارية عبر صحراء النقب ومنها إلى غزة التي صارت أهم مدنهم التجارية والتي تنطلق منها القوافل إلى مصر، وفي العصر الروماني عاش السكان داخل أسوار المدينة ولم تشهد نشاطًا كبيرًا.
في القرن الأول الميلادي هاجرت قبائل قضاعة الحميرية من شمال الحجاز إلى غزة التي استوطنتها قبيلة بلي، وفي القرنين الثاني والثالث الميلاديين وصلت موجات هجرة من بني كهلان خاصة بطنها جذام والحويطات ولخم وآل ربيعة وثعلبة وبني صخر التي عاشت جنوب غزة وحول خان يونس إلى اليوم.
مدينة غزة في تلك الحقبة كانت سوق العرب، حيث كان عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) يكتري فيها الإبل قبل الإسلام، وفي الفتوحات الإسلامية توجه عمرو بن العاص نحو غزة ليدخلها في 14 فبراير634 م بعد هزيمة قائدها البيزنطي بطريقيوس ليعزل دخول المسلمين غزة مصر عن الإمبراطورية البيزنطية، وأسلم عدد كبير من سكان غزة على يد عمرو بن العاص، فتحولـت أكبر كنائس المدينة إلى مسجد وهو الجامع العمري الذي أسس على يد عمرو بن العاص على مساحة 4100 متر، واحتفظ المسيحيون بكنيسة مارسوا فيها شعائرهم بحرّية. ومن أحياء غزة التاريخية حي الشجاعية الذي يذكر مؤرخ غزة عارف العارف ، أنه ينسب إلى شجاع الدين عثمان الكردي الذي استشهد أثناء الحروب الصليبية سنة 637 هـ .

العصر المملوكي
كانت غزة معبرًا مهمًا للتجارة والجيوش، لكن أوج ازدهارها كان في العصر المملوكي حيث استقرت بلاد الشام بعد تحريرها من الصليبيين، فقام الظاهر بيبرس ببناء مكتبة ضخمة شرق المسجد العمري الكبير ضمت عشرين ألف مخطوط، وأعاد بناءها مرة أخرى السلطان المملوكي قايتباي، ودعمها بالمخطوطات، وفي سنة 966هـ أقام بها العلامة عبدالقادر الغصين واتخذ بها مدرسة وزاوية، وهي الآن مقبرة.
أسكن الظاهر بيبرس التركمان في غزة بحي الشجاعية فيما عرف بحارة التركمان، كما استقر الأكراد في الشمال من هذه الحارة. وأصبحت غزة منذ ذلك العصر محطة رئيسة للحمام الزاجل الذي ينقل رسائل الدولة المملوكية، وكانت قبائل بني ثعلبة، وهي بطن من طيء القحطانية، تقوم بخدمة بريد الدولة المملوكية وتقدم الخيول لنقل الرسائل، واهتم بيبرس بعمارة غزة فأسس بها مسجدًا للشهيد علي أبو الركب في حي الزيتون، يعرف الآن بمسجد ومزار الشيخ أبو ركاب الذي توفي عام 661 هـ.
وممن عمروا غزة في العصر المملوكي الأمير علم الدين أبوسعيد سنجر الجاولي، ولد سنة653 هـ وتوفي سنة754 هـ، الذي تولي نيابة غزة فعمر المدينة وشيد بها مسجدًا وحمامًا ومدرسة وخانًا وبيمارستانًا وملعبًا لسباق الخيل.
وفي حي التفاح يقع مسجد الشيخ علي مروان المتوفى675 هـ، وممن عمروا غزة بالمساجد والمنشآت الأمير شجاع الدين وأحمد طغماج، ووصفها الرحالة المغربي ابن بطوطة في القرن الثامن الهجري والسادس عشر الميلادي، بأنها «متسعة الأقطار، كثيرة العمارة، حسنة الأسواق»، واصفًا جامع الجاولي بأنه أنيق العمارة ومحكم الصنعة كاشفًا عن كثافة التجارة بينها وبين مصر.
وما كاد القرن الثامن الهجري ينقضي حتى أُسس في غزة مسجد ابن عثمان في حي الشجاعية الذي أُلحق به سبيل لإرواء عطش المارة بالمياه وإمداد السكان المحيطين به، وكُتّاب لتعليم الأطفال وفرن لخبز خبز الصدقة لتوزيعه على الفقراء، وفي حي بني عامر في عام864 هـ شيد مسجد المغربي الذي يعرف أيضًا بمسجد السواد.

مسجد السيد هاشم بن عبد مناف
يعد مسجد السيد هاشم بن عبد مناف أحد المساجد التاريخية في مدينة غزة، حيث يقع في حى الدرج، وتبلغ مساحته نحو 2400 متر مربع، وسمي بذلك الاسم نسبة إلى هاشم بن عبد مناف جد الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي يقال «إنه مدفون عند الزاوية الشمالية الغربية للمسجد»، وكان هاشم بن عبد مناف مات بغزة أثناء رحلة التجارة في الصيف، ثم بدأ أهل غزة بدفن موتاهم في المنطقة المجاورة تبركًا بجد الرسول صلى الله عليه وسلم في العصر الإسلامي. والمسجد الحالي بني في العصر العثماني على الطراز المملوكي، وهو يضم صحنًا مكشوفًا مربع الشكل محاطًا بأروقة للصلاة.
أما القاعة الرئيسة للمسجد فهي شبه مربعة مسقوفة بعقود متقاطعة، وبها محراب يتجه نحو القبلة ومنبر جدّد عام (1266هـ/1850م) برعاية السلطان العثماني (عبدالمجيد) بناء على طلب (أحمد بن محيي الدين الحسيني) مفتي الأحناف بغزة. وقد بني مسجد السيد هاشم من حجارة قديمة تعود لمبانٍ قديمة مندثرة، منها مسجد الجاولي وموقع البلاخية، إضافة إلى أبنية أخرى في غزة وعسقلان.
وفي سنة (1320هــ/1903م) أعيد ترميم القاعة الرئيسة، بعد تعرضها لتصدعات وشقوق خطرة هددت المسجد بالانهيار، وقد أضيفت الأروقة الشمالية والغربية لها، وكان المسجد في السابق يضم مكتبة كبيرة ومدرسة لتعليم علوم الدين، لكن هدمت أجزاء كبيرة منه خلال الحرب العالمية الأولى سنة (1918 – 1914م) وأعاد المجلس الإسلامي الأعلى تجديدها سنة (1344هــ/1926م).

جامع «كاتب الولاية»
يعد جامع كاتب الولاية من المساجد الأثرية المهمة في مدينة غزة، ويقع في حي الزيتون بالبلدة القديمة، وتقدر مساحته بنحو 377 مترًا مربعًا، ويرجع تاريخ بنائه إلى حكم الناصر محمد بن قلاوون في ولايته الثالثة سنة (709هـ - 741هـ/1341- 1309م)، ويدلل على ذلك اللوحة التأسيسية الموجودة أسفل المئذنة ابتغاءً لوجه الله تعالى في مستهل شهر ذي الحجة (725هـ - 1325م) زمن السلطان (محمد بن قلاوون).
دمر الجامع بعد ذلك فأمر بإنشائه وتجديده الوالي العثماني أحمد بك) كاتب الولاية زمن السلطان (مراد سليم الثاني) وذلك (995هـ/1587م)، كما هو منقوش على بابه، لذا سمي بجامع «كاتب الولاية»، وبعد الحرب العالمية الأولى زيد في ارتفاع مئذنته، وتجددت قصارته.

الجامع والكنيسة يتجاوران
يتكون الجامع من مصلى رئيسي به عمودان رخاميان تعلوهما تيجان بزخارف كورنثية،و يحملان ستة عقود متقاطعة تكون رواقين، والمنبر يحتوي على بقايا أحجار مزخرفة بنيت فوق باب الروضة التي أزيلت معظم نقوشها، أما المئذنة فهي قائمة على قاعدة مربعة الشكل يعلوها بدن مثمن تتخلله شبابيك مستطيلة، وفي الوسط توجد فتحات دائرية صغيرة في بعض أضلاعه، أما أعلى البدن فهناك فتحات مستطيلة تليها مشرفة للمؤذن مستندة إلى دعائم حجرية تسمى بـ «الجوسق».
ما يميز الجامع تجاوره مع كنيسة الروم الأرثوذكس، كنيسة القديس بيرفيريوس، وتلاقي المئذنة مع الصليب في مكان واحد، ما يدل على التسامح الديني الذي تمتع به المسيحيون في فلسطين على مر العصور وما زال حتى يومنا.
تولى حكم غزة في العصر العثماني آل رضوان ولهم قصر فيها يبدو أنه كان مقر حكام المدينة في العصر المملوكي، ويعرف بقصر الباشا عمر آل رضوان غزة، فشيدوا قيسارية وخان الزيت وحمام السمسرة ومقابرهم شرق الجامع العمري، ووصف الرحالة العثماني أوليا جلبي غزة كما يلي: «بها سبعة آلاف كرم يغرس فيها العنب، وعنبها مشهور، وكذلك قل عن زيتونها وتوتها وتينها وبلحها وعن فواكهها الأخرى فإنها مشهورة في أسواق العالم بأن زيتها يصدر لمصر محملًا على مئات الجمال ويروج في مصر رواجًا غريبًا لجودة صنعه».

سوق القيسارية
يقع سوق القيسارية في حي الدرج بالبلدة القديمة في مدينة غزة، وهو من أهم الأسواق الأثرية التي ما زالت باقية بالمدينة، ويطلق عليه العامة اسم «سوق الذهب»، نظرًا لكون جميع ما به من محلات تتاجر بالذهب.
ويعود تاريخ إنشائه إلى العصر المملوكي (658-922هــ/1260-1517م)، لكن لا يوجد تاريخ محدد لإنشائه لعدم احتوائه على لوحة تأسيسية تؤرخ له. ويقع السوق ملاصقًا للجدار الجنوبي للمسجد العمري الكبير، وهو عبارة عن شارع ضيق مسقوف بقبو مدبب وطوله نحو 60 مترًا، وعرضه لا يتجاوز 3 أمتار، وعلى جانبيه تصطف حوانيت تجارية صغيرة، ويبلغ عرضه على الشارع نحو مترين، ويعلو المدخل الشرقي عقد مدبب كبير يعد من أهم العناصر المعمارية المميزة له والتي ما زالت باقية على حالها.
ويعاني مبنى السوق من الإهمال في الحفاظ عليه كأحد المباني الأثرية، وهو الوحيد من نوعه في غزة، ومن التغييرات التي حدثت فيه على يد مستأجري المحلات التجارية، التي أدت إلى تشويه وإخفاء معالمه الأثرية نتيجة استخدام مواد بناء غير مناسبة لترميمه، وعمل ديكورات حديثة به، ويبدو ذلك واضحًا عند دخول السوق.
سبيل السلطان عبدالحميد: أنشئ في القرن الـ 16م على يد بهرام بك بن مصطفي باشا وجدده رفعت بك فعرف بـ«سبيل الرفاعية»، ثم جدد في عهد السلطان عبدالحميد الثاني فعرف باسمه .
حمام السمرة: يقع في حي الزيتون ويعتبر أحد النماذج الرائعة للحمامات العثمانية في فلسطين، وهو الحمام الوحيد الباقي في غزة الذي روعي في تخطيطه الانتقال السلس من المنطقة الساخنة إلى الدافئة ثم إلى الباردة، له قبة بها فتحات معشقة بالزجاج الملون تعكس بأشعة الشمس ألوانًا رائعة داخل الحمام. وتأسس في غزة مجلس بلدي سنة1993 م، كان أول رئيس له مصطفي أفندي العلمي، ولعب دورًا في بناء غزة الجديدة وفي تطوير مرافق المدينة علي يد أبنائها المتعلمين.
وقد احتلها الإنجليز في نوفمبر 1917 بعد مقاومة عنيفة من الجيش العثماني، وأصابت المدينة نتيجة قصف الأسطول الإنجليزي والقوات البرية أضرار كبيرة، حتى تهدّم ما يقرب من ثلثها، وهجرها عدد كبير من سكانها. حينما زارها ونستون تشرشل سنة 1921 وكان وزيرًا للمستعمرات آنذاك في بريطانيا وهو في طريقه من القاهرة إلى القدس تظاهر ضده سكانها احتجاجًا على الاحتلال البريطاني ووعد بلفور ■