الأرض... المكان والمعنى في الرواية العربية

 الأرض... المكان والمعنى في الرواية العربية

«الأرض» تعبير أو اسم شائع، يبدو من الوهلة الأولى خارج فكرة البحث في المعنى والدلالة. فهي في قاموس العربية: مؤنثة - اسم جنس - تجمع (أراضات وأرضون - أروض - وآراض والأراضي على غير قياس، وهي كل ما سفل، وأرض أريضة: أي زكية بينة الأراضة وهي المعجبة للعين.
لتكن هي ذاك التعيين المكاني، ولأن الأسماء تكتسب دلالاتها ومعانيها بالخبرات المضافة للناطقين بها، اكتسبت الأرض الدلالات والمعاني بما يتجاوز ملامحها المادية. فاكتسبت (الأرض) بعدًا روحيًا وقيمًا عليا قد لا تتبدى في المعنى المعجمي، حتى إن التحقق الإنساني ذاته لا وجود له دون ذلك الحضور الباقي دوما للأرض. ماذا لو قلنا إنها البقعة الإقليمية التي يكبر فوقها الفرد، فتغدو بذرة في الذات الفردية والجماعية... ولا يبقى دونها إلا الفداء بالروح والدم. ولا البذل من أجلها في «الصراع» إلا لأنها في «السلم» أعطت.

 

للأرض حضورها المميز في الإبداع منذ القدم... صورها الشاعر العربي القديم بتصوير ديار الحبيب، ولما تركته صور أطلالها... كما تجلت بحضور مختلف. والآن يمكن أن نقول إن الصراع من أجل الأرض ليس إلا دفاعًا عن الذات بكل ما تتضمنه من معاني الوجود والحياة نفسها.
تبدّت الأرض في الإبداع العربي والرواية خصوصًا على أشكال عدة ورؤى مختلفة، وإن اتفقت في مجموعها على أنها الرحم والنماء. لقد نالت الأرض ما تستحقه في الإبداع الروائي خصوصًا، وزادت عددًا بعد نكبة1948 م في فلسطين... وهذه نماذج منها، وقد تبدت وتجلت على مناحٍ مختلفة كلها دالة ومعبرة. 

رواية الأرض... «الأرض المكان»
صدرت هذه الرواية للمرة الأولى للكاتب عبدالرحمن الشرقاوي عام 1954م. وهي تعبر بشدة عن الأرض بوصفها «المكان» المهدد غير الآمن، وقد تعرض سلام الأرض للخطر، ونتيجة للاستلاب فقد الناس الإحساس بالأمن والسلام، فضلًا عن إحساسهم باغتصاب حق من حقوقهم.
تعرض الرواية للعلاقة بين الفلاح والأرض... التي هي الشرف والعرض. والتراث الشعبي عمومًا زاخر بالسخرية من ذاك الذي يهمل أو يبيع أرضه، لكن ماذا يكون الحال إذا تعرضت الأرض للاغتصاب؟
إن جوهر الصراع في تلك الرواية ينبع أساسًا من ذلك التوحد الوجداني البارز بين الفلاح والأرض، إذ لم يجد الكاتب أية مشقة في إقناع القارئ بأن يجعل من حادثة استيلاء الباشا على جزء من الأرض سببًا مقنعًا للصراع، فالأرض هي مصدر الخير من مأكل ومشرب، وهي المأوى... بها يصبح الفرد في مكانة اجتماعية خاصة وترفع من شأنه... وﺇن برز في الرواية أن الأرض هي التحقق للإنسان البسيط بل وجوده كله.

رواية «الوباء»... الأرض المعنى
 تعتبر رواية «الوباء» للكاتب والباحث هاني الراهب عام2005 من الأعمال الروائية التي تناولت فكرة الأرض من زاوية خاصة... ألا وهي الأرض المعنى، فقد قدم الأرض من خلال تلك الأجيال المتوالية، جيلًا بعد جيل... مختلفًا ومتنوعًا في الخصائص والملامح، ولا يثبت إلا الأرض المكان، التي تحولت إلى معنى. فالأرض تبدو جلية في بداية ونهاية الأحداث المتصارعة، وهي التي تكشف عن المتناقضات بين الأفراد (أفراد سلالة الشيخ السنديان).
فالجد الأكبر«السنديان» نال مكانته الاجتماعية وسلطانه بسبب الأرض... وعلى مدار قرنين، جيلًا بعد جيل، تتوالى الأجيال والمصائر. وتعبر الأرض عن نفسها بل عن دورها عندما يموت الجد الأكبر وتبدأ عملية تقسيم الأرض، حيث يبدأ الصراع، وتنكشف دخائل الناس، لتكشف العيوب... كل العيوب.


رواية «قدرون»... الأرض المكان والمعنى والمستقبل
رواية «قدرون» للكاتب الفلسطيني أحمد عوض (المقيم داخل فلسطين المحتلة) لعام 1996، تبدو كأنها جمعت ملامح النموذجين السابقين، مع ملمح الرؤية المستقبلية.
الأرض هنا ورثها الأبناء جيلًا بعد جيل، إلا أن الجيل الجديد أهمل الأرض... بينما أحدهم كان الوحيد الذي حافظ عليها وبذل الجهد والعرق، فاكتسب صفات أكسبته مكانة متميزة بين الجميع... وهو ما يبرز سمة أهمية الأرض المكان والمعنى. 
يوم أن تواردت الأخبار بوجود الكنز في جوف الأرض، بدت الرؤية المضافة هنا. الأرض المستقبل، الحلم / الحقيقة، وبدأ يشارك بالتفكير في طرق التنقيب عن الكنز .
تم اكتشاف الكنز... الحقيقة، وكانت مرحلة جديدة من الرواية، حيث معنى الخصب والنماء والأمل والجمال. كيف لا تعنى ذلك والكنز هو تمثال من الذهب «بعل وعشتاروت» رمز النماء والخصب، الذي يعني كل تلك الرموز والمعاني.
فلما تآمر الحفيد «علي» وقرر بيع الأرض إلى أحد اليهود الأمريكان، بدأ صراع من لون جديد بين عثمان الجد والحفيد. وخلال تلك المرحلة من الصراع يتعرف القارئ على جانب تأريخي مهم حول تلك الأرض، يذكرها الجد ويسرد بطولات مضت كافح فيها الآباء عن الأرض نفسها.
بدت الأرض الماضي والمستقبل، والحياة المطمئنة... لكنه أعلن عن استعداده للحرب وهو الجد العجوز، ليس من أجل الحرب بل من أجل السلم والمستقبل السعيد.

رواية «السد»... الأرض الرمز
نشرت هذه الرواية للمرة الأولى خلال خمسينات القرن العشرين، كتبها الروائي التونسي محمود المسعدي، رائد الرواية التونسية.
اكتشف «غيلان» ينبوعًا غزيرًا فقرر أن ينشئ سدًا يخزن خلفه المياه لتتمكن الناس من الاستفادة من المياه المخزنة في الزراعة. إلّا أن البعض لا يرضيهم ذلك، يحاربون أفكاره وتحركوا كي يمنعوه فعلًا... لولا أن «ميارى» الشخصية الرمزية، لعله الخيال... وقف إلى جانبه مشجعًا. ويبدأ غيلان العمل، وكانت المفاجأة حيث ثار العمال أنفسهم وحطموا السد الذي بدا وقد شارف على الانتهاء، بل سعى بعض العمال إلى قتله... لذا فكر جديًا في عدم معاودة المحاولة، لولا أن الخيال أو «ميارى» حثّه من جديد على معاودة المحاولة، لكن يبدو أن السماء غير راضية عليه فقد تهدم السد... قدره أن ينهار السد كلما شارف على الانتهاء!
يعتمد العمل على خلفية فلسفية مع توظيف فني للرمز كي يقول لنا الروائي: هكذا الحياة... حتى السلم لا يخلو من الصراع... على الأرض! ■