صورة الموت في قصص «التربّص بوجه القمر» لجمعة الفاخري

صورة الموت في قصص «التربّص بوجه القمر» لجمعة الفاخري

يحتل القاص جمعة الفاخري موقعًا متميزًا في المشهد القصصي الليبي، ويعد من المبدعين الذين حققوا تفرّدًا مهمًا على مستوى القصة القصيرة والقصة القصيرة جداً في آن واحد، وها هو يطل علينا بمدونة قصصية اختار لها من العناوين «التربص بوجه القمر»، والتي صدرت ضمن منشورات المؤسسة العامة الثقافية في حلة قشيبة، وعلى امتداد 108 صفحات من القطع المتوسط، وتزين غلافها لوحة تشكيلية دالة.

 

لا ريب أن قارئ هذه الباقة القصصية بنصوصها المتنوعة يلاحظ عن قرب مراهنة جمعة الفاخري على حضور الموت في الكثير من النصوص، مثلما نجد في نصوصه الموسومة بـ: «جربت أن أموت...؟»، و«عدت من الموت»، و«شهادة»، و«أحلام متناسخة»، و«فوضى»، و«ملك الموت»، وقد عالجها الكاتب بطرق مختلفة مفادها الإمساك بشذرات معاني هذه التراجيديا.
وعطفًا على ما سبق، يعد سؤالًا فلسفيًا وفكريًا هيمن على مختلف النصوص الإبداعية من شعر ورواية وقصة، إذ أضحى الموضوع الرئيس في كثير من المتون، خاصة السردية، منه تنطلق الأحداث وتتناسل لترسم لوحة حافلة بالدلالات والإيحاءات التراجيدية. وتعتبر قصص جمعة الفاخري نموذجًا لرصد وتذويت هذا الموت، ومن ثم الانتصار عليه جماليًا.

لذة الكتابة
في القصة الأولى والموسومة بـ «جربت أن أموت»، يلبس السارد بطله روايته التي سيهديها إلى زوجته في عيد زواجهما الثلاثين، وعليه سيفكر في ميتة هائلة لهذا البطل وهو على مشارف نهاية نصه الروائي: «عليّ أن أختار لبطلها العظيم نهاية تليق به... أن أميته ميتة رائعة لم يسبق لعظيم قبله أن حظي بها»، وكي تكون هذه الميتة يختار السارد أن يجرب الموت ويعيشه، وهو بالفعل الذي حدث في قفلة القصة: «لحظة أسلمت فيها روحي كان صحفيًا مغمورًا يندس بين الأطفال راصدًا الحدث الاستثنائي... مسجلًا الوقائع المثيرة التي كنت أجرب الموت لرصدها». 
وهكذا يحضر الموت في الحياة، والحياة في الموت، ومهما يكن من عجائبية فإنه لا أحد يشك في أن القاص جمعة الفاخري يحقق الذي يسميه بارت «لذة الكتابة في قالب ميتاقصصي» ماتع تدثره عباءة سوداء، وهذا ما يجسده قاموس الموت الكثيف والمثير للانتباه من قبيل: «أميته، ميتة، موت، موته، أغمض عينيه، ميت، ميتته، المصير، توقف قلبه، رحمه الله، رثته، يؤبنه، تشيعه، يسلم روحه».
في القصة الثانية المعنونة بـ «عدت من الموت»، والتي لا تعدو أن تكون تتمة للقصة الأولى، نجد السارد نفسه المهووس بالحلول في بطله الروائي، ليمر من تحت إبط تجربة الموت سالمًا، ويستعيد حياته أمام اندهاش الأطباء والحضور: «وقفت متكاسلًا كمن صحا من نوم طويل... سمحت للدم المتخثر بأن يسري في أطرافي مجددًا، انتصبت وسط الغرفة... خطوت خطوات بطيئة نحو الجمع المذهول»، وبعدها يعود السارد إلى روايته وهوسه ببطله الذي يكسر أفق انتظاره وتماهيه معه بدعوته إلى الحياة، الحياة التي تجسدها الألفاظ الدالة عليه: «تنبض، تتنفس، حياتي، أحييته، الخلود، حيا، يعود من الموت، قادم من الموت، آيب من العالم الآخر، جثة تتحرك».
هكذا تستحضر هذه المتوالية القصصية العودة إلى الحياة، وترصد بدقة تطابق السارد وبطله، فتجنح بذلك إلى المشابهة بينهما، فكلاهما يتشبث بالحياة: «يبتسم في وجهي... يملأ أعماقي فرحًا... يدعوني ثم همس في أذني بلطف قائلًا: فلنجرب الحياة».
أما في قصته التي اختار لها «شهادة» عنوانًا، فنجد صورة أخرى للموت، فالمادة الحكائية في هذا النص تقترب من ظاهرة حوادث السير التي تغزو الطرق السيارة لتحولها إلى جروح ومآتم، فالقصة تحتفي أولًا بفرحة الطفل وأمه بشهادة النجاح عندما يقول:
- «في يده الطرية رفرفت شهادة النجاح البكر...».
- «اهتزت أعماقه للفرح المعانق».
- «أطلق قلبه ساقيه للفرح».
- «أرسلت نظراتها المغموسة في الفرح جسرًا ينتعله صغيرها إلى قلبها المعشوشب بأمل خصيب».
بيد أن هذا الفيض من الفرح بالنجاح والحياة، ريثما ينطفئ بسبب سيارة مجنونة: «عجلات سيارة مجنونة تلسع الطريق بسياط عواء مسعور... زوبعة... ضجيج... صراخ... أطراف تتطاير... دماء تتناثر على حواف شارع مترب»، وفي جميع الأحوال هناك رصد ذكي لمشاعر وحركات الأم والطفل الشهيد، وتتبع ماهر لتتبع تفاصيل المشهد، وإدانة لهذا الموت المتحرك والمتهور الذي تجسده حادثة السير وما تخلفه من خسائر وجروح نفسية، كما تشي الموت بأن اليومي الاجتماعي حاضر في القصة صافيًا وافيًا. وغني عن البيان أن القصة القصيرة هي فن التقاط اليومي بعيون سردية ثاقبة وفاحصة».
وفي غمرة هذا الموت الوارف بظلاله في المجموعة، تحكي قصة «ابتسامة» عن قتل السارد بالتقسيط والتدريج من قبل مجرم غامض وبلا ملامح تذكر: «كنت أشاهده جيدًا وهو يتشفى بتمزيقي إربًا إربًا». في المقابل لا يمتلك السارد أمام هذا البتر والقتل بالتقسيط، غير الابتسامة مشعة وفعلًا للمواجهة: «تجرأ على فخذي...
لا يهمني قطعهما، فالابتسامة لم تزل مشرقة»، وتكتمل صورة القتل بنهاية تنتصر للحياة ضدًا في القاتل السادي والغامض وينسدل فرح ثقيل في النهاية، تشفيًا في الموت وغوصًا عميقًا في الفرح والحياة: «كان يتسلى بقص صورة أخرى تهمه من المجلة الأسبوعية فيما كان وجهي في الجانب المقابل من الورقة يحاول الاحتفاظ بابتسامته».
وفي القصة الأخيرة ، التي رشح لها القاص جمعة الفاخري «ملك الموت» اسمًا، تحضر صورة الموت كشافًا ومنقذًا من الخيانة وتوريطًا للخونة حتى، بدليل أن القصة تحكي عن طفل «لقّبه أهل الحي بملك الموت الصغير، فهو كلما نام حلم بالموت... فإن نطق باسم أحدهم مات في الصباح»، الفقيه وخالته، وفي آخر نوم فتح عينيه وهو يصرخ باسم أبيه، «وأغمي عليه من هول الصدمة... استعدوا لجنازته... لكن من مات كان جارهم»!
هكذا، وبتقنية ماكرة يرصد الكاتب ما يعج به المجتمع من خيانات زوجية، من جهة، وبسخرية شفافة ولماحة تشفّ عن منزع السخرية الهادفة لدى جمعة الفاخري من جهة أخرى، ولكل إبداع طريقته في اقتناص موضوعات حكيه.

اقتناص ذكي
وكمحصلة إجمالية لصورة الموت في قصص «التربص بوجه القمر»، يمكن القول إن هناك اقتناصًا ذكيًا لمشاهد تراجيدية جارحة أحيانًا، وساخرة وعجائبية أحيانًا أخرى، تنم عن يد قصصية ماهرة، ووفاء للقصة القصيرة، غير أن كل هذا الحكي عن الموت في المجموعة لم يمنع الكاتب أثناء صياغتها من إضفاء بعض الجماليات من قبيل:
- توظيف تقنية البياض بقصد فتح المجال للمتلقي حتى يشارك في تفعل بلاغة النص، باعتبار البياض جزءًا أصيلًا ومجالًا لتوتر الدلالة وثرائها، ما يجعل القراءة حرة ومتفاعلة:
أطرافي تسكن... تبرد... تمووو...”.
- جاءت لغة القصص رشيقة، ومفعمة بالنشاط والتدفق ببساطة بالغة، حتى لا يمل المتلقي، وفي الحقيقة لقد بدت اللغة السردية شعرية فيها الكثير من التكثيف والمجاز والصور الشعرية والتشبيهات والاشتقاقات المبتكرة، مثل «ارتعش كعصفور بزخة ندى... عرش الابتسام على وجهه الصباحي المؤتلق... أطلق قلبه ساقيه للفرح».
- إفساح المجال للقصة أن تتحدث عن ذاتها، واضعة نفسها على الحدود الجمركية بين القص والنقد نموذجًا، حيث يسود أسلوب الميتاقص.
- الحرص على استثمار عنصر السخرية التي لا تروم الانفجار ضحكًا ومجانيًا، وإنما غايتها خلق انفعال عميق لدى المتلقي يدفعه إلى التيقظ، ولنا في قصة «ملك الموت» نموذجًا.
خلاصة القول، ذلك بعض ما تهجس به مجموعة التربص بوجه القمر لجمعة الفاخري، من ميتات متباينة، تارة تراجيدية، وأخرى ساخرة، تجمع بين لذة الحكي وثراء المحكي، وتفتح شهية القارئ لقراءة حميمية لهذه القصص الهائلة والطريقة التي تمرر بها رسالتها الإنسانية والفنية باحترافية ■