الرمز في الشعر الصيني لا شعر بلا ضباب

الرمز في الشعر الصيني لا شعر بلا ضباب

كثيرة تلك التدفقات المتتالية من النشوة الشعرية التي ستتلبسك وأنت تقرأ نصًا شعريًا لشاعرٍ صيني قديم أو معاصر، حتى مع تغير الكثير من مرتكزات الشعر الصيني مع مرور الزمن ومواكبته للتغيرات على مدى عمره الذي يتجاوز 3200 عام، إلا أن مبدأً واحدًا بقي ثابتًا حتى اللحظة، هذا المبدأ هو الإيجاز، فلا أشعار ملحمية هنا
ولا قصائد مسرحية؛ فهذه الأشياء من مهام السارد لا الشاعر، فالشاعر فيلسوف يلخص رؤيته في أسطر قليلة، ورسام يظهر الصورة بأقل عدد من الضربات، لذا
لا تستغرب أبدًا إذا وجدت القصائد الصينية محكومة بالإيجاز على الدوام.

 

لتحقيق هذه الثنائية المُركّبة (الشاعرية والإيجاز) لا يوجد مسلك أمام الشاعر إلا الرمز، وسواء كان هذا الرمز قادمًا من دهاليز الأساطير والتاريخ، أو من مناهل الواقع والجغرافيا، فلا يهم أبدًا إن قدم أيضًا من أبواب الاستعارات أو قفز من نوافذ الكنايات، وهل خلقه الشاعر أم سرقه، ما يهم هو ألا يكون مستهلكًا وأن يوفّر تلك اللذة التي يشعر بها القارئ أو السامع لحظة شعوره بأنه تمكن من اقتناص المعنى المختبئ وراء هذا الرمز، وهكذا ينساب الرمز ليغطي حتى التعريف الأدبي للشعر من وجهة النظر الصينية؛ فمهمة الشاعر هنا أن ينشئ حديقة مكسوة بالضباب ويضع الكثير من الطرائد في زوايا وممرات هذه الحديقة، ثم يطلب من الزائر صيد هذه الطرائد عبر هذا الضباب، وليس شاعرًا من يبني الحديقة وينشر الضباب ويضع الطرائد ثم يعطي القارئ خريطة تكشف السر وتحل المعضلة.

 الأسبقية الرمزية للشعر الصيني 
في حين يعتبر الكثير من النقاد ومؤرخي الأدب العالمي أن ديوان أزهار الشر وتحديدًا قصيدة المراسلات للشاعر الفرنسي شارل بودلير (1867-1821م)، يمثل الجين الأول الذي تناسلت منه قصائد الرمز في الشعر العالمي وأنجب المدرسة الرمزية ككل، إلا أن قراءة الشعر الصيني الذي سبق بودلير بقرون تجعلنا نحاكم هذا الكم من المصادر والمراجع والدراسات التي تجعل من بودلير مفجّر الرمزية الشعرية وعرّابها الأوحد؛ فالرمزية التراثية والرمزية الطبيعية وحتى الرمزية الخاصة سبق بها الشعراء الصينيون الشعراء الغربيين بودلير وإدغار آلان بو ومن بعدهما إليوت وغيرهم، هذا مقطع من قصيدة «أغنية لخريف منتصف الليل» للشاعر الصيني الشهير لي تاي بو المعروف بـ لي باي، والذي عاش في الفترة من (760-701 م):

تعلّقت قطعة من القمر بسقف المدينة 
تتحرّك عشرات الآلاف من مشابك الغسيل 
طعم الريح خشنًا وهي تعبر الممرات الجبلية
في قلبي 
آه متى تكتمل هزيمة التتار 
وأشتم للنهار ضحكته

 في هذا المقطع الصغير يمكننا ملاحظة لي باي وهو يقول بأن للريح طعمًا خشنًا، وفي هذه الصورة يلغي المسافة الفاصلة بين اللمس والتذوق، فالكلاسيكي أن الطعم تذوق وأن الخشونة ملمس، وكذلك في قوله إنه اشتمّ ضحكة النهار، فهنا يلغي المسافة بين السمع والشم، في حين الكلاسيكية هي أن الضحكة تُسمع لا تُشم، وهو بهذا يحقق واحداً من أهم مبادئ المدرسة الرمزية التي تنسب لبودلير وهو وحدة الحواس! 
وهذه الرمزية بمختلف أقسامها ليست حكرًا على لي باي، فقد تواجدت بشكل بدهي عند شعراء سبقوه وآخرين عاصروه وشعراء أتوا بعده، فهذا الشاعر وانغ وي الذي عاش في الفترة من (759-699م) في قصيدته «قلب واحد» يقول:
تلك التوتات الحمراء من الجنوب 
أينعت على الغصون في الربيع 
خذي إلى البيت حفنة من وفائها 
رمزًا لحبنا
 
 في هذا المقطع الشهير جدًا لوانغ وي تتجلى الرمزية الطبيعية في أوضح صورها، فقد التقط رمزًا من الطبيعة متمثلًا في ثمرة التوت البري وحمّله كمًا كبيرًا من الرموز التي يمكنها أن تتفجر في نفسية القارئ ومخيلته بشكل عنقودي وبالكثير من احتمالات التفسير التي ستكون كلها صحيحة، ولم يكتف بهذه الرمزية السطحية وإنما أوغل في الرمزية بقوله: 
خذي إلى البيت حفنة من وفائها! فهو بهذا تجاوز ظاهر الشيء وأوغل في باطنه، فلم يرَ في الثمرة الحلوة شكلها ولا حتى طعمها وإنما رأى فيها الجانب المعنوي البحت (وفاءها)، وحتى مع انسيابية الرمز وتدرج غموضه فإنه تكثّف جدًا وصار عميقًا حينما خالف وانغ توقع القارئ أو المتلقي بأن طلب من حبيبته أن تقطف هذه الثمرة لتضعها أمامها كأيقونة، ورمزًا لحبهما، إلّا أنه بالغ في تجاهله للثمرة كمادة حسية طالبًا منها أن تحمل حفنة من المكنون المعنوي للرمز الذي أورده، وهو بهذا أيضًا يطوي المسافة بين الحسي والمعنوي، جاعلًا من الفضاء كله فضاءً بلا فواصل، وهذا الإلغاء هو واحد من متطلبات الرمزية الحديثة أيضًا. 
وهناك الكثير من النصوص الشعرية الصينية التي تتجلى فيها بوضوح الرموز الطبيعية والأسطورية والدينية والتاريخية، والتي يمكن لأي قارئ بالصينية أن يجدها لدى أغلب الشعراء الصينيين. 
واذا أخذنا بالاعتبار أن صعوبة اللغة الأدبية الصينية وخذلان الترجمة للشعر الصيني قد أفقداه أحقيته في ريادة الرمز بحكم أن كل من أرّخ للرمزية في الشعر لم تتح له فرصة قراءة الشعر الصيني واكتشاف الرمزية فيه، إلا أن هناك قرائن ودلالات تجعلني أجازف أكثر بالقول بأن الرمزية في الشعر الغربي قد تأثرت برمزية الشعر الصيني، وواحدة من هذه القرائن أن أول ترجمة لأشعار لي باي كانت إلى الفرنسية، وفي عام 1860م بواسطة هارفي دو سان دوني، وكانت هذه هي الفترة التي بدأ فيها بودلير كتابة قصائده الرمزية، فهل قرأ بودلير حينها ترجمة هارفي والتقط الرمز في قصائد لي باي؟ هذا أمر يستحق التتبع.

 هندسة الرمز في الشعر الصيني 
مبدأ الإيجاز الذي سبق أن تناولناه في البدء جعل من الرمز في الشعر الصيني ضرورة ووسيلة يستخدمها الشاعر والمتلقي؛ فالرمز لدى الشاعر وسيلة للتعبير الموجز، وهو لدى المتلقي طريقة للفهم وللتذوق وللنشوة الشعرية، وفي المجتمع الثقافي الصيني يدرك كلٌّ من الشعراء والمتلقين هذا المبدأ، لذلك لا نجد في الشعر الصيني تلك المباشرة الممقوتة في الشعر، وفي الوقت ذاته لا نجد أيضًا ذلك الإيغال في الإبهام وإنما نجد تلك الرمزية التي تهدف إلى الوصول إلى المعاني العميقة من خلال صورة شعرية تحتاج م ن المتلقي أن يعمل فكره وخياله مثلما تحتاج من الشاعر أن يشحذ أدواته ويطور أساليبه.
وقد أسهم بقاء الوحدة العضوية شعريًا وفنيًا في القصائد الصينية في جعل القصيدة بحد ذاتها فضاءً كاملًا تختلف نواميسه اختلافًا كليًا عن الفضاء الزمكاني المحسوس، فالأشياء في فضاء القصيدة ذات فوضى سديمية جميلة يتداخل فيها الثابت والمتحول والمطلق والنسبي والحقيقي وغير الحقيقي والواقعي والخيالي، هذا الفضاء الذي تُخلق قوانينه ومعادلاته من داخل الذات الشاعرة لا يمكن التعبير عنه إلا بلغة شعرية رمزية، وبالتالي فإن الرمز في معمار القصيدة الصينية أساس لا يمكن تجاوزه، وبتتبع الآلية التي يبنى بها الرمز الشعري في القصيدة الصينية، قديمها وحديثها، نجد أن هناك بوابتين يجب على الشاعر عبورهما ليكتمل إخراجه للرمز الشعري:
البوابة الأولى: اقتناص الرمز، سواء كان هذا الرمز تراثيًا أو واقعيًا، طبيعيًا أو خاصًا، المهم أن تتم لحظة الاقتناص هذه والشاعر في أرق حالاته الشعورية .
البوابة الثانية: تأطير هذا الرمز شعريًا والتماس الإطار الشعري المرن الذي يمكنه استيعاب هذا الرمز بكل إيحاءاته. 
 وعبور البوابة الثانية، المتمثلة في التماس الإطار الشعري المناسب، مهمة أصعب من مهمة عبور البوابة الأولى المتمثلة في اقتناص الرمز، ففي حين يمكن للكثيرين اصطياد الرمز، إلا أن مهمة ترويضه وإخراجه محملًا بالأبعاد المعنوية والحسية وبعيدًا عن المباشرة يمتاز بها الشاعر عن بقية الكائنات . 
ويمكننا أن نأخذ مقطعًا شعريًا لشاعرة صينية معاصرة هي الشاعرة شو تيينغ المولودة عام 1952م، وهذا المقطع من قصيدتها «إهداء إلى جيلي»:
حين يكونون في السماء 
يتمنون نجمة 
حين يكونون على الأرض 
يتمنون مصباحًا 
لا يهم إن كان الضوء خافتًا 
المهم أن يكون كافيًا
حتى تستكشف الأرواح العذراء 
وتدلف إلى الأماكن المحرّمة 
عليك أن تترك آثار قدميك 
وتكون كلمة مرور لمن سيأتي بعدك 

في هذا النص يمكننا أن نقبض على أكثر من رمز في هذا الفضاء الشعري، لكنني سأكتفي بالإمساك برمز «كلمة مرور» في قول الشاعرة: وتكون كلمة مرور لمن سيأتي بعدك، هذا الرمز الواقعي الخاص الذي اصطادته الشاعرة من الحياة المعاصرة يمكنه أن يسكب في مخيلة القارئ أو السامع كمًا كبيرًا من الاتجاهات التي سيكون المتلقي محقًا فيها جميعًا سواء فسّر كلمة المرور هنا على أنها تعني أن عليك أن تكون جسرًا يعبر من خلاله الآخرون ليصلوا إلى آمالهم، أو أن تفسّر هذا الرمز على أنه يعني أن عليك أن تكون سريًا وغامضًا ومعقدًا ككلمة المرور، وغيرها من التفسيرات التي ستستمر بالتوالد في كل مرة يُقرأ فيها هذا النص .
وهذا النص من قصيدة لشاعر شاب اسمه تساو سينغ، من مواليد 1993 في مقاطعة جيانغسي: 

داخل هذه القطعة المستطيلة 
زهور الصيف المحصورة في هذا المستطيل ترفض التحوط 
وتقاوم الذبول
لماذا يجب أن تكون القطعة مستطيلة؟ 
لم لا يكون هناك شكل آخر غير المستطيل؟ 
على كلٍّ ستظل فرحتي هي نفسها:
أطول قليلًا من الرغبة، وأقصر قليلًا من الشوق 
لكن عندما يحل المساء،
سوف يتسرب عن هذا الشكل بعض الضوضاء 
ويستمر النضال
بين قطيع من الذئاب الصغيرة وقطيع من الحملان
كما سترتفع أشباح المأكولين بهدوء 
لتكوّن ظلال الغيوم،
حصيرة زرقاء من شجرة التنوب تصل إلى ما لا نهاية 
لا تزال القطعة المستطيلة مستطيلة تمامًا،
لا شيء منها تمضغه حياة القرية غير النظامية
في الفناء، لاحظت في بعض الأحيان
خطًا غير مرئي يخرج من السماء، يربط
شابًا بحلمه الجامح، ويتحوّلان معًا إلى خيط وطائرة ورقية
 في هذا النص ورغم حداثة سن وتجربة الشاعر إلا أننا نرى كمًا كبيرًا من الرموز احتشدت في هذا المقطع، فالمستطيل بكل ما يحمله من رمزية الحائط والسور والزوايا القائمة وانعدام المنافذ، وحضرت كذلك شجرة التنوب وهي شجرة صنوبرية مشهورة في الأساطير الصينية ترمز للتجذر والاخضرار الدائم فهي تحافظ على اخضرارها في كل الفصول وتهزأ ببياض الشتاء واصفرار الخريف، وفي كلا النصين يمكننا ملاحظة أن البناء الهندسي للرمز الشعري لا يخرج عن المحورين الرئيسين المتمثلين في اقتناص الرمز ثم تأطيره.
 
خصائص الرمز في الشعر الصيني المعاصر
بالاعتماد على عينات مختلفة من النصوص الشعرية المنتمية إلى مدرسة الرمز في الشعر الصيني المعاصر يمكننا ملاحظة أن الرمزية الخاصة التي يخلقها الشاعر بالاعتماد على تجربته الشخصية تجعل من كل شاعر كأنه مدرسة بحد ذاته له بصمته الخاصة، إلا أن هناك العديد من الخصائص التي تظهر كعامل مشترك،
أهمها :
- حالة التوسط في الرمزية، فنادرًا ما تجد نصًا موغلًا في الإبهام أو رمزًا مكشوفًا ومستهلكًا. حالة التوسط هذه وفّرت أيضًا مساحة جماهيرية أوسع للشعر الصيني المعاصر، ونأَت به في الوقت ذاته عن السقوط في فخ المباشرة . 
- سيطرة الجزئي على الكلي، فاللفظة (الرمز) يمكنها أن تستثير الكثير من المعاني المتشابكة، في حين تولد اللفظة التالية لها معاني مختلفة وتذهب بالمتلقي إلى عوالم أخرى من التفسيرات، أي إن سيطرة رمز واحد على الفضاء التفسيري للقصيدة ككل نادرًا
ما نجدها في القصائد الصينية المعاصرة . 
- حضور الموسيقى الشعرية: الشعر الصيني منذ نشأته هو شعر موزون ومموسق حتى إن ثمة مبدأ لا يزال ساري التأثير، هذا المبدأ ينص على أن الشعر قائم على ساقين هما المعنى والموسيقى، وفقدان أحدهما يجعله كسيحًا، لذا فإننا حتى بالقصائد الموغلة في الرمزية نجد فضاءً موسيقيًا واضحًا يمكننا اكتشافه، إما في التناغم الصوتي البارز عند قراءة أي نص شعري أو حتى في استشعار النغم الكامن في بنية النص الشعري ذاته . 
- حيازة الرمز الطبيعي مساحة أكبر من المساحة التي تحتلها الأنواع الأخرى من الرموز، ففي حين يبرز الرمز الشخصي في أغلب الأشعار العالمية مثل سيزيف رمز المعاناة أو بروميثيوس رمز الثورة والنور، أو حتى أوديب رمز التضحية والشجاعة، أو لوركا أو...، فإنه هنا في الشعر الصيني لا يكاد يظهر إلا نادرًا، ومرتبط غالبًا بالرمز الأسطوري. 

 ذائقة رمزية 
عراقة الرمز في الشعر الصيني وتجذّره أسهما في توجيه ذائقة المجتمع الثقافي الصيني إلى الدرجة التي أصبح فيها المتلقي العادي يحكم على شاعرية الأديب من خلال قدرة الأخير على تأطير الرمز شعريًا، هذا الأمر هو ما منحني التفسير المنطقي الوحيد لسؤال نشأ عن تتبعي ظاهرة الانتشار الكبير لأشعار الشاعر العربي علي أحمد إسبر (أدونيس) هنا في الصين، فبعد أن ترجم ديوانه «عزلتي حديقة» إلى الصينية بواسطة المستعرب الصيني شوي تشينغ قوه عام 2009 شهد المشهد الثقافي الصيني ظاهرة شعرية وأدبية تتعلق بأدونيس، ويكفي لإثبات هذه الظاهرة أن أورد هنا مؤشرين:
المؤشر الأول: بلغ عدد طبعات الديوان الأول المترجم لأدونيس إلى الصينية 30 طبعة في الفترة الزمنية من 2009 - 2022م. 
المؤشر الثاني: في مايو 2021م أجريت ندوة ثقافية حول شعر أدونيس حضرها أدونيس وأدارها وترجم لها الدكتور تشينغ قوه، حضرها أكثر من 340 ألف متابع عبر الإنترنت، شكل الصينيون منهم أكثر من 80 في المئة من الحضور. 
وعلى صفحات مجلة «العربي» عدد يناير 2022م كنت قد أجريت لقاءً مع المستعرب والمترجم تشينغ قوه الذي ترجم لأدونيس ودرويش ونجيب محفوظ وغيرهم، وحينما سألته: لماذا أدونيس تحديدًا؟ أجاب: إن كتابات أدونيس تأتي كبرق أو صاعقة تضيء الفضاء وتخترقه، تشعرنا بقوة فكرية ولذة فنية، هنا أدركت تمامًا أن السر يكمن في رمزية أدونيس، هذه الرمزية هي الشعر وفق المعايير الصينية، لذا حققت أشعار أدونيس كل هذا الصخب هنا ■