درّاجات نارية

درّاجات نارية

رأيت شوقي فجأة، كان قادمًا من الاتجاه المقابل على الرصيف نفسه، بقامته الطويلة والسكينة التي تلفه. لمحته لكنه لم يرني، كان يتلفت برقبته نحو واجهات المحلات يتفرج عليها. هو شوقي. شوقي عبد الحكم من دون شك. ترددت لحظة في أن أستوقفه لأصافحه حين جاشت نفسي بالتوجس والحذر، فتثاقلت خطواتي بل خطر لي أن أواصل سيري كأني لم أره. وما بين ارتباكي وإقدامي تجلت مثل البرق أيام المعتقل، حينها لم يفتح شوقي فمه بكلمة عن سبب اعتقاله، ولم يلمّح مرة إلى ذلك، ولا دفعته الى الحديث القرابة الأشبه بصلة الدم التي تنشأ بين المحبوسين، من الإنصات اليومي المشترك لصرير الأبواب الحديدية، والخوف الغريزي من الخطر الذي قد ينفتح عنه باب العنبر، والتحديق الصامت في الليل بخيالات الأحبة على سقف العنبر.
ضربت عرض الحائط بالمحاذير وقطعت الطريق على شوقي. وضعت يدي على كتفه فالتفت إليّ ولبث مذهولًا لحظة: «معقول؟! بهاء؟». ضحكت سعيدًا برؤيته: «نعم». رنا إليّ بدهشة تتألق بالتذكر ثم بالسرور: «ياه.. ياه!». همَّ بمعانقتي لكني أخذت أدفعه عني ليبقى وجهه أمامي. ابتسم متعجبًا: «صحيح الدنيا صغيرة». بسط ذراعه في الهواء قائلًا: «دعنا نجد مكانًا نجلس فيه. أي مكان». أحنى رأسه ناظرًا إلى أسفل كأنما يفتش بين أقدامنا عن موضع للجلوس. سرنا معًا على راحتنا، ندردش، ونربت على أكتاف بعضنا البعض، وأنا أستعيد ظهور شوقي في عنبر طرة، وإخفاءه أسباب اعتقاله حتى ظن البعض أنه مدسوس علينا، لكني لم أثق بتلك الشكوك، وارتكنت في نبذها إلى شعوري الخاص بنظرة شوقي المستقيمة الواضحة، على حين أن نظرة أخرى تبرق في أعين الرجال الذين يبيعون أنفسهم، نظرة أقرب إلى شظايا جارحة من جبن وندم الروح التي تحطمت. 
في المعتقل حافظ شوقي على مسافة بيننا وبينه، لكنه سقاها في الوقت ذاته بالمودة والتلطف. وكان يتقاسم معنا عن طيب خاطر السجائر وطعام زيارات أخته والنقود إن لزم الأمر، أما في أحاديث المساء المتفرقة عن الوضع السياسي وهموم المجتمع فكان ينصت باهتمام مهذب إلى كل ما يقال من دون أن يزج بنفسه في النقاش مكتفيًا في أغلب الأحيان بهزة رأس رهيفة أو كلمة مقتضبة. 
سرنا حتى لمحنا مقهى مد الكراسي إلى رصيف شارع جانبي وقفت على ناصيته عربة كبدة. جلسنا إلى منضدة لصق الحائط وطلبنا فنجاني قهوة.  جُلت ببصري خطفًا في ما حولي أستوثق من أن أحدًا لا يراقبنا، ثم عدت إلى شوقي وأنا ما زلت أتعجب من المصادفة التي جمعتنا بعد كل تلك السنوات. شوقي أيضًا كان يحدجني كأنه يغترف من اللقاء ذكريات مشاعره العميقة. فجأة قفز إلى رأسي السؤال الذي لطالما ألحّ علينا: «فيم كان اعتقاله؟». 
لشهور طويلة، بعد وجود شوقي معنا، ظلت بيننا مسافة تتسع وتتقلص بهدوء، إلى أن حدث صباح أحد الأيام أن جاءنا شاويش يهرول ليحذرنا وهو يتلفت حوله من «كبسة» تفتيش تقصد العنبر. انتفضنا بسرعة، وبلهوجة واضطراب رحنا نخفي الممنوعات وهي في لغة السجون الأقلام والأوراق. كان لدى شوقي دفتر من القصص تأليف زميلنا العجوز كامل حنفي وبخط يده، وفي زحمة الارتباك والهرج خبأ شوقي الدفتر في أول مكان خطر له، ثم وقف بيننا يترقب تشريفة الكبسة ونحن مشوّشون لا ندري إلام قد ينتهي الأمر.  
وما لبث أن ظهر ضابط شاب خلفه أربعة عساكر، دخلوا العنبر وراحوا في صمت يفتشون جيوبنا ونحن واقفون، ويقلبون الحشايا التي ننام عليها، يولجون أصابعهم في ثقوب الجدران، وحين لم يجدوا شيئًا انصرفوا بهدوء. التقطنا أنفاسنا، ارتخت أعصابنا المشدودة، استلقى البعض على الحشايا يهدئ نفسه، وبعد قليل شرعنا في استرجاع الممنوعات من مخابئها، وهنا سمعنا صوت كامل حنفي يهتف في شوقي بتخوف: «دفتر القصص يا باشمهندس؟». قال شوقي: «في الحفظ والصون» وهرول نحو المبولة في نهاية العنبر حيث أخفى الدفتر، ثم عاد مطأطئ الرأس مرتبكًا ومد يده مرتجفة إلى كامل بعجينة ورق غامت سطورها وتمتم وعلى ملامحه شعور بالذنب:  «آسف والله يا أستاذ كامل.  واضح أن أعصاب الزملاء ارتخت بعد انتهاء التفتيش بسلام ودخلوا المبولة فأغرقوا كل شيء». 
انفجرنا في الضحك رغم تقلصات الألم والفزع التي بدت على وجه كامل، بينما شوقي ينهرنا لنكفّ عن الضحك صائحًا: «هذا لا يصح والله». لكننا لم نتمكن من التوقف عن الضحك خاصة ونحن نرى وجه كامل مشبعًا بالأسف والاستنكار، ولم يفوت صديقنا زهير فرصة المزاح فطالب شوقي بكتابة قصص أخرى بالحجم نفسه وفي القضايا الاجتماعية ذاتها تعويضًا للمؤلف عن خسائره.  محت لحظة الضحك الطويل المسافة التي كانت تفصلنا عن شوقي، وظللنا طويلًا نداعبه بقولنا: «أنت مسؤول عن نكسة القصة الثورية»، ردًا على ذلك كان شوقي يبتسم ويدق كفًا بكف متعجبًا: «بس غريبة والله. تبولوا حتى على دفتر القصص؟ طيب والرجل الطيب كامل... ما ذنبه؟». 
بعد نحو عامين تم الإفراج عني، وانقضت ثلاث سنوات لم أسمع خلالها شيئًا عن شوقي ولا التقيت به إلى أن صادفته هذا المساء، وها أنا جالس قبالته وهو يحدق فيّ بصمت، ربما لأن السؤال القديم عن سبب حبسه كان يطل من خلف نظراتي من غير وعي مني. كان واضحًا أيضًا أن شوقي متردد في الإجابة، وأنه يقلب في ذهنه إن كنت جديرًا بأن أعرف الحقيقة أم لا.  مع الصمت الذي حل شعرت ببرد المساء ورحت أتلفت حولي. ابتسم شوقي وقال بوهن: «مفاجأة جميلة والله»، قالها بصوت دافئ مثل ركبة مخدوشة لطفل يحبو، وأردف: «لعلك ما زلت تريد أن تعرف لماذا وضعوني في السجن؟». زممت شفتي ومططتها كأنما أقول له «براحتك... الأمر متروك لك». انسحب بروحه إلى مسافة بعيدة وقال: «سبب الاعتقال غريب شوية». انتبهت. أكمل: «لقد رأيت حلمًا». لم أفهم ما يقوله فاستوضحته: «أي حلم؟». هز كتفيه قائلًا : «حلم»، ورفع رأسه لأعلى، ضم حاجبيه، وفي عينيه نظرة اشمئزاز كأن في الذكرى التي يسترجعها إهانة عميقة لحقت به. 
أرسل بصره إلى ما وراء كتفي: «حلم رأيت فيه سيارة تنعطف عند كوبري، وأربعة ملثمين على دراجات نارية يطوقونها ثم فتحوا النيران على من كان داخلها». استفسرت:  «حلم، وما المشكلة في ذلك؟». عاد بصدره إلى الوراء: «المشكلة أن الحلم تحقق بعد أسبوعين من رؤيتي له، إذ قام أربعة ملثمون على دراجات نارية بملاحقة سيارة مسؤول كبير في الدولة واغتالوه». فتحت عيني على آخرهما أكتم دهشتي. تمتم: «نعم. الحلم الذي رأيته تحقق في الواقع وبالدراجات النارية. كان من الممكن ألا تكون للحلم عاقبة، لولا أنني رويت الحلم في بيت صديق لمجموعة من المعارف، كان من بينهم ضابط شاب، أنصتوا إليّ ثم انتقلنا إلى مواضيع أخرى وانتهى الأمر، بعد تلك السهرة بأسبوعين وقعت عملية الاغتيال وذاعت تفاصيلها في الصحافة والتلفزيون، وهنا تذكر الضابط أنه سبق أن سمع من قبل بعبارة الدراجات النارية التي استخدمت في العملية، ثم برقت السهرة التي جمعتنا وحديثي، وتطابقت لديه رواية الحلم مع ما جرى في الواقع، وانتهى بعد تفكير إلى أنه من المستحيل أن تتوفر لأحد تلك التفاصيل من غير أن يكون ضالعًا في العملية. لم يطل تردده، وسرعان ما قدم بلاغًا بما سمعه، فهاجموا بيتي واقتادوني إلى التحقيق ثم الاعتقال الطويل». 
أسكتني الذهول، بينما كان شوقي يدير بصره في الجالسين حولنا إلى أن توقف عند رجل كان يجلس بزاوية مستندًا بمرفقه إلى المنضدة وركبتاه منحرفتان نحونا. ألقيت نظرة سريعة على الرجل وقلت لشوقي:«أكمل... لا تقلق». واصل لكن بصوت منخفض:«كنت مدهوشًا وهم يحققون معي: ما علاقتك بمن قاموا بعملية الاغتيال؟». أقطع لهم بأنه لا علاقة لي بأي منهم، يسألون من للمرة الألف: «وكيف علمت بالدراجات نارية بل وعددها... أربعة؟». جزمت للمحقق مرارًا وتكرارًا بأنه حلم فهتف ساخرًا: «إذًا لابد أنك ولي من أولياء الله، يتجلى لك المستقبل بهذه الدقة، أو أن تثبت لي أنه حلم». استمر التحقيق عشرة أيام تقريبًا ليل نهار، كان من الواضح خلالها أن تحريات الأمن لم تسفر عن شبهة أي علاقة تربطني بالعملية أو حتى بأي تنظيم سياسي فتقرر نقلي من الحبس الانفرادي إلى المعتقل واستبقائي هناك احتياطيًا ربما يعثرون على دليل». وأضاف بابتسامة ساخرة:  «قضيت أربعة أعوام لأنه استحال علي أن أُثبت أن ما جرى في الواقع كان حلمًا». قلت:  «لكن لمَ أخفيت عنا ذلك؟». ضرب ركبته بأطراف أصابعه قائلًا: «خيل إليّ أنكم تظنون فيّ مختلف الظنون، لذلك فضلت الصمت». 
قطع علينا الحديث بائع صحف حام حولنا وظل يعرض علينا الجرائد حتى صرفناه بحزم. قلت لشوقي: «من الذي ما زلت تذكره ممن كانوا معنا في الحبسة؟». رفع رأسه كأنما فاجأته بشيء مفرح، وقال:  «كامل طبعًا ودفتره التعيس». قهقهنا عاليًا ثم أردف:  «زهير أيضًا.  ما زلت أحفظ مطلع قصيدته» 
اعذر سواد الليل
يمكن سواده حداد
على قطع عيش الناس
وحــــــبــــــسة الأولاد
كذلك لا أنسى عم طاهر، كنت مدهوشًا طول الوقت من أنه تجاوز الستين وما زال «يعافر ويقاوح». سرحت في وجه عم طاهر وقد لاح لي خاصة في الليلة التي جلسنا فيها على الحشية حوله وهو يقص علينا نتفًا من ذكرياته في المعتقلات. كان يحكي بنبرة عميقة تشبه خرير الماء لطالما أحببناها في صوته، وفجأة شرد عم طاهر وتوقف عن الكلام، ثم غمغم بصوت خافت كأنما يلوم نفسه أو يعاتبها:  «أخلصت العمر كله لقضية، فكيف لم يتحقق شيء؟». بدا وجهه على ضوء العنبر الضعيف معذبًا بالحيرة والعجز، كأنما مزقت الهواجس يقينه، لكنه ما زال وجهًا لم يهزم.
أحكمت ياقة القميص حول رقبتي. رفعت بصري إلى أعلى. كانت العتمة تتحدر موجًا بطيئًا من السماء، تطفو بين قمم العمائر، ثم تنزلق إلى أعمدة نور الرصيف، وتطفئ لمعة الملاعق الصغيرة وحواف الأقداح على المنضدة. 
أدار شوقي أصبعه على حافة فنجانه الفارغ وسألني: «أنت... ما أخبارك؟». سمعت صوته لكني كنت سارحًا مع أطياف الرجال التي انسلت من لون الليل، وهم يتفرقون في عتمة العنبر، يرقدون على الحشايا في صمت على نور باهت. نفضت رأسي منحّيًا الخيالات بعيدًا وقلت لشوقي مبتسمًا:
«تمام... تمام الحمد لله»■