جان أوغست دومينيك إنجر و«الأميرة بولين دي بروي»

جان أوغست دومينيك إنجر و«الأميرة بولين دي بروي»

في منتصف القرن التاسع عشر كان جان أوغست دومينيك إنجر أحد عملاقي فن الرسم في فرنسا، وكان العملاق الآخر أوجين ديلاكروا. ففي حين أن الثاني تزعم المدرسة الرومنطيقية، كان الأول يعتبر أن مهمته في الحياة إنقاذ الفن الكلاسيكي من براثن الرومنطيقية الصاعدة ومشاعرها الكئيبة. كان الخلاف بين الرجلين حادًا، حتى إن المصافحة باليد بينهما لمرة واحدة جرى توثيقها بدقة.
منذ بداية القرن الـ19 كان اسم إنجر حاضرًا على الساحة الفنية، فالرجل كان في التاسعة عشرة من عمره في عام 1799م، عندما التحق بمحترف جاك لوي دافيد، أشهر رسام في أوروبا خلال تلك السنوات، وتتلمذ على يديه لمدة أربع سنوات، أهلته للفوز بـ«جائزة روما» عام 1802م، أرقى الجوائز الفنية في فرنسا.

رسام التاريخ
تنقل إنجر عدة مرّات بين باريس وروما، وعلى مدى أربعة عقود من الزمن كان يعتبر نفسه رسام المواضيع التاريخية بالدرجة الأولى. وكانت مواضيع معظم أعماله مستمدة من الأساطير الإغريقية والرومانية.  وخلال إقاماته في روما كان يرسل بعض اللوحات إلى باريس للمشاركة في المعارض، غير أن النقاد في العاصمة الفرنسية الشغوفة بـ«الموضة» والتغيير كانوا يذمّون أعماله ويصفونها تارة بأنها «تقليدية وقديمة» وتارة «أخرى بأنها غير مألوفة».
بموازاة شغفه بالمواضيع التاريخية وعمله عليها، اضطر إنجر إلى رسم صور شخصية تُعزز مدخوله المالي، وذلك منذ عام1803م عندما جرى تكليفه برسم صورة القنصل الأول نابليون بونابرت، وكان آنذاك في الثالثة والعشرين من عمره. وفي مجال الصور الشخصية تجلّت عبقريته لاحقًا أكثر بكثير مما في المواضيع التاريخية. منذ عودته إلى الاستقرار نهائيًا في باريس عام1841م انهالت عليه الطلبات من كبار الشخصيات لرسم صورها الشخصية بوصفه الأفضل في هذا المجال بالعاصمة الفرنسية. ومن بين ما أنجزه في هذا الإطار صورة الأميرة بولين دي بروي. (تجدر الإشارة هنا إلى أن اسم هذه السيدة واللوحة يُكتب بالفرنسية de Broglie لكنه يُلفظ de Breuy).
في عام 1851م طلب الأمير ألبير دو بروي من إنجر أن يرسم صورة زوجته بولين التي كان قد تزوجها قبل خمس سنوات. وكانت هذه الأميرة معروفة بجمالها وشدة تدينها وخجلها إلى حد جعل المتحدثين إليها يمتنعون عن التطلع إليها مباشرة لتلافي إحراجها، كما يقول المؤرخون. 

أفضل أعماله
عمل إنجر على هذه اللوحة لثلاث سنوات. وقد أنجز مجموعة ضخمة من الرسوم التحضيرية لاختيار الوضعية الأفضل، جالسة أو واقفة، ولدراسة الملامح التكوينية والتفاصيل الصغيرة في الملابس وحتى المجوهرات، فكانت النتيجة أحد أفضل أعماله على الإطلاق.
نرى الأميرة في هذه اللوحة واقفة تتكئ بذراعيها المشبوكتين على حافة مقعد. تتطلع إلى الرسام بلمسة كآبة لا تُخفي جمالها. وأول ما يدهش المشاهد هو الثوب الأزرق المرسوم بإتقان معبر عن ملمس قماش الساتان اللمّاع، ورقة الدانتيل الأبيض وشفافيته عند الكتفين والصدر.  فعلى المستوى التقني والتوثيق بلغ الفنان هنا الحد الأقصى الذي يمكن بلوغه في الأمانة للواقع.
(كل ما في هذه اللوحة من إكسسوارات ومجوهرات لا يزال في حوزة ورثة العائلة حتى اليوم، باستثناء زينة الرأس التي بيعت لمعهد الأزياء في متحف المتروبوليتان بنيويورك).
لكن إلى جانب هذه الدقة والأمانة للواقع، هناك جانب ثوري في هذه اللوحة لا يتكشف إلا للمدققين فيها جيدًا، وأهم ما فيه هو «التسطيح» إن جاز التعبير، فالأميرة تبدو ببياضها وألوانها الفاتحة كأنها مقتطعة من لوحة أخرى وأُلصقت على هذه الخلفية الداكنة القريبة جدًا منها. وأكثر من ذلك، فإن جسمها بأسره يبدو كأنه لا هيكل عظمياً له، تدلّ على ذلك بوضوح الذراعين حيث تغيب الظلال والنتوءات غيابًا شبه تام. هذا التسطيح هو
ما أثار اهتمام أكثر من جيلين من الفنانين لاحقًا وصولًا إلى بيكاسو وماتيس اللذين كانا يعتبران إنجر أهم أستاذ تأثرا به على الإطلاق ■