الموسيقى في موسم أصيلة الثقافي الدولي

منذ أن تأسس موسم أصيلة الثقافي الدولي بالمغرب عام1978 وهو يراهن إلى اليوم على الفن بمختلف تجلياته وأشكاله وتعبيراته، خصوصا ما يتصل منه بصباغة الجداريات والتشكيل والرسم والنحت؛ إذ اشتهرت مدينة أصيلة، من خلال موسمها الثقافي، بجدارياتها المتجددة في دورة كل موسم، وذلك بشكل ساهم في إشاعة صورة المغرب الفني في العالم، فهي التي شكلت النواة الأولى لموسم أصيلة الثقافي، فكانت أصيلة بذلك سباقة إلى توظيف فن الصباغة في تحسين جمالية المدينة، وإشعار ساكنتها وزوارها بأهمية الحفاظ على البيئة، بمثل مساهمته في خلق تنمية مستدامة بالمدينة، فأصبحت هذه الممارسة الفنية تقليدًا سنويًا مميزًا لكل دورات الموسم.
لم يكن فن الصباغة والتشكيل وحده الذي ظل حاضرًا باستمرار في دورات موسم أصيلة الثقافي الدولي، بل شكلت فنون أخرى، من موسيقى ومسرح وسينما وعروض أزياء، فقرات مهمة ومضيئة ضمن برامج الموسم المتعاقبة، فكان للموسيقى والغناء أيضًا، مقارنة بفنون وتعابير أخرى، حضور مهيمن ومضيء في موسم أصيلة، بطابعهما المحلي والدولي، حيث تمكن موسم أصيلة الثقافي الدولي، من استقطاب كبار الفنانين والعازفين والمغنين والراقصين، وأشهر الفرق الموسيقية، من المغرب والعالم العربي وأفريقيا وأوربا وأمريكا وباقي العالم؛ إذ يصبح من الصعوبة بعد مرور أزيد من أربعين سنة من عمر الموسم حصر جميع أسماء المغنين والعازفين والأنماط الغنائية والفرق الموسيقية المختلفة والمتخصصين وخبراء الموسيقى والباحثين من مختلف المشارب والجغرافيات، ممن زاروا أصيلة وشاركوا في فقراتها الموسيقية على مدى اثنتين وأربعين دورة من دورات موسمها الثقافي الدولي.
حضور كثيف للفرق
ظلت فرق الفنون الشعبية المغربية حاضرة بكثافة ضمن أنشطة الموسم الموسيقية، منذ بداية موسم أصيلة الثقافي الدولي، ممثلة لمختلف الألوان والأهازيج الموسيقية، التراثية والعصرية، من «فلكلور مغربي»، و«ملحون»، و«طرب أندلسي»، و«طرب غرناطي»، وفرق غنائية شعبية وفرق نسائية، بل إن موسم أصيلة كان سباقًا إلى لفت الأنظار إلى بعض الفرق الموسيقية الشعبية، خصوصًا «فرقة كناوة»، فضلًا عن استقطابه فرقًا غنائية وموسيقية مشهورة دوليًا، ولأول مرة في المغرب، من قبيل: «الفادو» البرتغالي، و«الطانغو» البرازيلي، و«الفلامينغو» الإسباني، و«الجاز» الأمريكي والإفريقي، و«الباليه» الأوربي والإفريقي، و«فن القوالين» الباكستاني، و«فن القيثارة» المكسيكي، وغيرها.
كما عزفت في أصيلة أشهر السيمفونيات العالمية، في سهراتها وفضاءاتها المختلفة، المغلقة والمفتوحة، عزفت سيمفونيات بيتهوفن ومقطوعات شامبر، وموسيقى القرون الوسطى، وغيرها من أشهر السيمفونيات العالمية، كما عزفت فيها أشهر المعزوفات والكونشرتوهات على البيانو والقيثار والكمان والناي والعود والقانون، لكبار الفنانين والعازفين العالميين.
إلى جانب ذلك، كان موسم أصيلة سباقًا أيضًا إلى احتضان أشهر الأسماء والفرق الموسيقية والغنائية في العالم منذ أولى دوراته، ويكفي أن نشير هنا إلى ذلك الالتحام الموسيقي الشهير المشترك، الذي أحياه الموسيقار البريطاني بيتر لمير عام 1981 رفقة فرقة «كناوة» أصيلة، بقيادة «عمي علي الكناوي»، أمام آلاف المتفرجين، من المغاربة والأجانب، على «مسرح القمرة»، في الهواء الطلق بالمدينة القديمة لأصيلة، وهو الفضاء الذي استضاف عديدًا من السهرات الموسيقية من مختلف القارات، فضلًا عن مجموعة من السهرات الكبرى الناجحة، كتلك التي أحياها المغني الفرنسي «جورج موستاكي» والفنانة التشيلية «مارتا كونتريراس»، في دورات الموسم الأولى، إلى جانب معزوفات لكبار الفنانين العرب والأجانب، وذلك بشكل يصعب الإتيان على أسمائهم وأسماء فرقهم جميعًا.
فمنذ الدورة الثانية لموسم أصيلة الثقافي الدولي (يونيو- يوليو 1979)، تم إدراج الموسيقى والغناء ضمن فقرات الموسم من خلال استضافة فرق موسيقية وغنائية شعبية وراقصة من التراث المغربي: أحيدوس، الطرب الأندلسي، فرقة إزنزارن، أحواش، الملحون، فرقة جبالة، أوركسترا الرايس، أوركسترا مراكش، زيان أزمور، مكونة، كلميم، عيوع، فرقة كناوة أصيلة، وفرق موسيقية وغنائية، من عديد من البلدان العربية والإفريقية والأوربية والآسيوية والأمريكية.
توالى حضور الموسيقى بعد الدورة الثانية مع توالي دورات موسم أصيلة الثقافي الدولي، وذلك بشكل لافت ومكثف ومهيمن، فتوسعت بذلك قاعدة البرنامج الموسيقي والغنائي في الموسم، فغدت الموسيقى فقرة أساسية في دورات الموسم التالية، والتي عرفت مشاركة مجموعة من الفرق الموسيقية والحفلات والأيام والعروض الموسيقية والغنائية، العصرية والكلاسيكية والصوفية، إلى جانب مهرجانات العود والبيانو، وعروض الأطفال الموسيقية، من المغرب ومن بقية العالم، بشكل يصعب معه حصر أسمائهم، مع توالي دورات الموسم وتنوع الفرق والألوان الموسيقية العالمية.
كما شكل محور الندوات واللقاءات الفكرية والأدبية والفنية إحدى أولويات موسم أصيلة الثقافي الدولي، وإحدى دعائمه الأساسية منذ تأسيس الموسم إلى اليوم، بل أضحى من بين المحاور المهمة والمؤثرة والمضيئة لموسم أصيلة، فضلًا عن كونه محورًا يجلب إليه عشرات بل مئات المشاركين والمهتمين والمتتبعين، بالنظر إلى طبيعة برنامجه المتنوع، على مستوى مواضيع تلك الملتقيات ونوعية المشاركين فيها.
ولم تكن الموسيقى غائبة عن فقرات هذا المحور؛ إذ دأب موسم أصيلة الثقافي الدولي منذ دورته الثانية، على تنظيم مجموعة من المؤتمرات والملتقيات والندوات والأسابيع الدراسية والمحاضرات الفكرية حول الموسيقى وقضاياها، على مستوى المغرب والعالم العربي والإسلامي والغربي، بمشاركة كبار الأكاديميين والخبراء في الموسيقى ومديري المؤسسات والمراكز الموسيقية والمؤلفين الموسيقيين والباحثين في الموسيقى والباحثين «الإثنو موسيقيين»، إلى جانب شرائح الموسيقيين والعازفين والمغنين من مختلف بقاع العالم.
لم تكن أنشطة الموسم الموسيقية تتوقف عند حدود تنظيم العروض الموسيقية والغنائية بقدر ما كان الموسم يبادر، بالموازاة، إلى تنظيم عديد من الملتقيات حول الموسيقى، وهي أنشطة كانت أيضًا تحظى باهتمام دولي واسع وبمشاركات مكثفة ونوعية من متخصصين في الموسيقى، بمثل ما شكلت تلك العروض الموسيقية موضوع اهتمام جمهور أصيلة وزوارها، اعتبارًا لفرادتها وطابعها المستجد. ويكفي هنا أن نذكر من بين تلك الملتقيات: «ندوة الملحون... الموسيقى الأندلسية الشعبية» (الدورة الثانية 1979)، ومحاضرة حول «موسيقى سيد درويش»، ألقتها الدكتورة سهير عبد الفتاح من مصر، وشاركت فيها المغنية نوال بن عرفة من تونس (الدورة السابعة 1984)، وأسبوع دراسي حول «طريق الفلامنغو» (الدورة العاشرة 1987)، وندوة «العود والقيثار: تعبير ثقافي عربي - لاتيني» (الدورة الحادية عشرة 1988)، وندوة «الغناء: القاسم المشترك المغربي - الإيبيرو - أمريكي» (الدورة الثانية عشرة 1989)، و«ملتقى أصيلة الأول للوتريات» (الدورة التاسعة عشرة 1997)، وندوة «الموسيقى الأندلسية في المغرب العربي: أي مستقبل؟» (الدورة العشرون 1998)، وندوة «الموسيقى في عالم الإسلام»، بالتنسيق مع «دار ثقافات العالم» (الدورة السابعة والعشرون 2005)، و«المؤتمر الأول للموسيقى في عالم الإسلام»، بالتنسيق مع دار ثقافات العالم (الدورة التاسعة والعشرون 2007)، وندوة «الموسيقى في عالم الإسلام: كيف نحافظ على التراث الموسيقي؟» (الدورة الخامسة والعشرون 2010)، وكلها مؤتمرات وملتقيات وندوات غير مسبوقة حول الموسيقى في العالم، لا على مستوى مواضيعها، ولا على مستوى عدد المشاركين فيها وحجمهم، وطبيعة حضورهم الوازن في فعالياتها، وخبراتهم المشهود لهم بها في مجال الموسيقى العالمية، بمختلف أنواعها وألوانها وأشكالها، كما تناولتها مجموعة من دورات موسم أصيلة الثقافي الدولي، مع ما خلفته تلك الفعاليات الموسيقية جميعها من أصداء واسعة واهتمام كبير بها، خصوصًا ما يتعلق منها بالفعاليتين الأولى والثانية حول «الموسيقى في عالم الإسلام»، بما لعبه المؤتمران معًا، وقبلهما الندوة التأسيسية، من أدوار طلائعية وما طرحاه من أسئلة وقضايا، على مستوى «تشخيص وضعية التقاليد الموسيقية عبر العالم الإسلامي»، و«تحديد المخاطر التي على موسيقى العالم الإسلامي مواجهتها، والوقوف على عدد من الممارسات الموسيقية التي تتعرض للاندثار، وتتطلب تدخلًا عاجلًا لإنقاذها والحفاظ عليها»، و«ضرورة توظيف التكنولوجيات والتقنيات الحديثة في الأرشفة الصوتية والموسيقية، وتسهيل مهمة الحفاظ على موروث يحمل قصة شعوب بأكملها»، وأيضًا بالنظر إلى التوصيات التي صدرت عنهما، من بينها دعوة المؤتمر الأول إلى تأسيس «مركز للمحافظة على الموسيقى في العالم الإسلامي، وتوثيقها والبحث فيها»، وهو النداء الذي لقي ترحيبًا من لدن «هيئة أبوظبي للتراث والثقافة»، فبادرت إلى استحداث «مركز الموسيقى في العالم الإسلامي»، بمدينة العين الإماراتية.
ولم يتوقف اهتمام موسم أصيلة الثقافي الدولي بالموسيقى عند هذا الزخم من الأنشطة الفكرية والمعزوفات والسهرات الموسيقية، من شتى بقاع العالم، بل إن الموسم في إطار مساعيه ومبادراته الجميلة والمنتجة في عدد من المجالات الثقافية والفنية والاجتماعية والتربوية والصحية وغيرها بادر ضمن فعاليات موسم أصيلة الثقافي الدولي الثاني والأربعين، إلى إعطاء انطلاقة أشغال مشروع بناء «معهد البحرين للموسيقى الشرقية» بأصيلة، بتمويل من عاهل البحرين جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة، فيما ستوفر مؤسسة منتدى أصيلة الوعاء العقاري الذي سيشيد عليه المعهد، هذا الذي يهدف إلى تأهيل الموسيقيين الشباب من مدينة أصيلة، ومن «جهة طنجة - تطوان - الحسيمة»، من منطلق كونه معهدًا سيتخصص في تعليم قواعد الموسيقى بشكل عام، والموسيقى الشرقية على وجه الخصوص، ومنح تكوين أكاديمي في أصول الموسيقى العربية ونشأتها وتطورها، وفي مختلف أنماط الموسيقى الشرقية ■