التذمّر من الجيل الجديد ظاهرة إنسانية دائمة

التذمّر من الجيل الجديد  ظاهرة إنسانية دائمة

«ما هذا الجيل؟» عبارة محملة بدلالات سلبية عادة ما نسمعها للتذمر من جيل هذه الأيام، أو ما بات يُعرف بجيل الألفية الثالثة بحيث يُقال عن أبناء هذا الجيل إنهم كسالى وأنانيون، وأنهم يقرأون المدونات على الإنترنت بدلًا من الكتب، ويطلعون على تحديثات أصدقائهم على الفيسبوك بدلًا من قراءة أخبار الصحف، وأن رفيقهم الدائم هو الكرسي الذي يقضون عليه معظم نهارهم وهم يعملون أو يدرسون أو يقومون بمختلف الأنشطة الترفيهية، حتى إنهم يعرفون عن الحروب في ألعاب الفيديو أكثر مما يعرفونه عن الحرب العالمية الثانية. 

 

لكن في الحقيقة هذا التذمر من «الجيل الجديد» لا يقتصر على جيل اليوم فقط، بل هو ظاهرة إنسانية لطالما كانت موجودة منذ آلاف السنين، بحيث نجدها في مختلف الحضارات والحقبات الزمنية، أو كما يشير الكاتب البريطاني مات ريدلي في كتابه «المتفائل العقلاني» إلى أنه: «ربما لم يكن هناك جيل منذ العصر الحجري القديم حتى اليوم لم يتأسف على عجز الجيل التالي ويقدس ذكرى الأيام الماضية». فها هو الشاعر الإغريقي «هسيود» من القرن الثامن قبل الميلاد يقول: «لا أرى أي أمل في مستقبل شعبنا إذا كانوا يعتمدون على شباب اليوم العبثي، فمن المؤكد أن جميع الشباب طائشون»، وها هو الفيلسوف أرسطو، ومنذ القرن الرابع قبل الميلاد، ينتقد شباب زمانه قائلًا: «الشباب يعتقدون أنهم يعرفون كل شيء وهم دائمًا على يقين من ذلك». ولا تخلو الحضارة الرومانية أيضًا من مثل هذه الإشارات حيث نجد صداها في أقوال الخطيب والكاتب الروماني سينيكا الأكبر الذي كان قد كتب في القرن الأول الميلادي أن: «شبابنا يتكاسلون ... ولا يستغلون مواهبهم وليس هناك مهنة شريفة واحدة يكدحون من أجلها ليلًا ونهارًا». كما أن علماء التاريخ الأوربي والإفريقي والصيني والياباني وجدوا نصوصًا تحتوي على تعابير عديدة في انتقاد الشباب، فقد اشتكى كتّاب عصر النهضة من الشباب المشاكس الذي يغني أغاني رديئة في أماكن اجتماعية غير مناسبة. وفي إفريقيا ما قبل الاستعمار لم يكن الشاب يُعتبر شخصًا كامل الأهلية حتى يتزوج ويصبح أبًا.  من جهة أخرى، يقول مارك إليوت، أستاذ التاريخ الصيني والآسيوي بجامعة هارفارد، إن أحد الأسباب التي دفعت ماو تسي تونغ إلى إطلاق الثورة الثقافية في الصين: «أنه كان يخشى أن يكون الجيل الأصغر الذي يفتقر إلى خبرة الجيل الأقدم من الثوار ضعيفًا للغاية. وفي مختلف الثقافات كانت الانتقادات للجيل الجديد تتراوح بين: إما باتهامه بالكسل في العمل وأن شبابه لا يجتهدون مثل أسلافهم، وإما أن تنسب إليهم تهمة تشويه لغتهم الأم ، كما يقال اليوم عن الجيل الجديد في العالم العربي بسبب اعتماده ما يسمى بـ«العربيزي» أو «الفرانكو عربية» أو في اليابان بالقرن الرابع عشر عندما قال الراهب الياباني «يوشيدا كينكو» إنه مع جيل الشباب أصبحت: «اللغة المنطوقة خشنة وتشوهها الاختصارات بشكل مطرد»، وإما، من ناحية أخرى، قد يكون الاتهام متعلقًا بتدمير الشباب مؤسسة الزواج وفقا لما ذكرته الكاتبة الأميركية «آنا روجرز» في مقال لها نُشر في مجلة أتلانتيك عام1907، والذي تشير فيه إلى أن عبادة النفس وتفضيل الفردانية لدى الشباب قد أديا إلى تشويه مؤسسة الزواج التي هي أساس المجتمعات السليمة. 

نظام الذاكرة والتحيز للحاضر
لكن ما الأسباب وراء تكرار هذه السلسلة من الانتقادات جيلًا بعد جيل؟ لماذا أصبحت هذه الظاهرة متلازمة مع تقدم البشرية على الرغم من أن نبوءات الهلاك التي توقعها البعض والتي وصلت أحيانًا إلى التنبؤ بنهاية التاريخ قد ثبت أنها كلها كانت غير مبررة؟ لماذا، ومع كل هذه الانتقادات السلبية، استطاع كل جيل من الأجيال تحقيق التقدم والازدهار حتى بتنا نحتفل مع جيل اليوم بعدد لا يحصى من الإنجازات الثقافية والتكنولوجية الهائلة؟ لقد صاغ العلماء في قسم العلوم النفسية والدماغية في جامعة كاليفورنيا مصطلح «شباب هذه الأيام» للدلالة على ميل البالغين إلى الاستخفاف بشباب الجيل الجديد، كما أشار إليه عالم الاجتماع بجامعة نيو هامبشير ديفيد فينكلهور بالـ«juvenoia» أو العداء الموجه من قبل الجيل الأكبر نحو جيل أصغر منه أو تجاه ثقافة الشباب في الإجمال المتعلقة بـ«القلق المبالغ فيه من تأثير التغيير الاجتماعي على الأطفال والشباب».  لكن بغض النظر عن تسميتها برزت هناك محاولات واجتهادات لتفسير هذه الظاهرة  قد يكون أبرزها ما قام به باحثان من جامعة كاليفورنيا في الولايات المتحدة الأميركية وهما جون بروتزكو وجوناثان شولر من دراسة علمية نشرت نتائجها في المجلة العلمية Science Advances في 2019. قام بروتزكو وشولر بتصميم خمسة اختبارات لاستكشاف الآليات الكامنة وراء تأثير ظاهرة «شباب هذه الأيام» وأسباب استمرارها على مر العصور، وكان أبرز الأسباب التي توصلت إليها دراستهما تتعلق بكيفية عمل الذاكرة البشرية وتلك المتعلقة بما تكشفه تقييماتنا السلبية للآخرين عن أنفسنا. يقول بروتزكو: «يبدو أن هناك مشكلة في الذاكرة وأن هناك قصورًا بها يستمر في الحدوث جيلًا بعد جيل». فذاكرتنا للماضي عادة ما تكون متأثرة بالحاضر وهي لا تشبه أبدًا شريط الفيديو، إذ عندما نتذكر شيئًا ما، لا يكون الأمر كأن أدمغتنا تعيد لف شريط الذكريات إلى الوراء فتقوم بتشغيل الأحداث تمامًا كما تتكشف. لكن بدلًا من ذلك يتم بناء الذاكرة من جديد، فعندما نستدعي ذكرى معينة يكون علينا إعادة تجميعها من أجزاء متفرقة من المعلومات في أذهاننا، وما ينتهي به الأمر هو جزء من الحقيقة وليس الحقيقة كاملة، وذلك على الرغم من أننا:  «لدينا وهم بأننا نتذكر الأشياء كما حدثت»، كما قالت ليندا ليفين، عالمة النفس في جامعة كاليفورنيا التي تدرس ذاكرة المشاعر، في مقابلة لها عام 2018 . أما إحدى نتائج نظام الذاكرة هذا فهي التحيز للحاضر، وذلك عندما نأخذ أجزاء من الحاضر وندخلها في ذكرياتنا عن الماضي.  وهكذا فإننا من أجل  إصدار حكم بشأن شباب اليوم علينا أن نحاول أن نتذكر كيف كان الشباب في زماننا، لكن هناك صعوبة في ذلك حيث لا أحد لديه معلومات موضوعية تمامًا عن الجيل الماضي ولا أحد يمتلك جميع البيانات، لذلك فإننا نستخدم المعلومات من الحاضر لملء الفجوات. وقد وجدت دراسة بروتزكو وشولر أنه لكل تلك الأسباب قد يميل البالغون الأكثر سلطوية إلى القول بأن أطفال اليوم أقل احترامًا لكبار السن مما كانوا عليه من قبل، والبالغون الذين يحبون القراءة للقول بأن شباب اليوم أقل اهتمامًا بالقراءة مما كانوا عليه من قبل، والبالغون الأكثر ذكاءً للقول إن الأطفال أقل ذكاءً مما كانوا عليه من قبل، وهكذا.

الجيل القديم وتقديس الماضي
هذا التحيز في الذاكرة ليس سوى جزء من القصة حيث هناك أسباب محتملة أخرى، فمقولة «شباب هذه الأيام» أو كما يقال في عالمنا العربي «جيل آخر زمن!» تحولت إلى تعبير شائع متداخل في صلب الثقافة المجتمعية يمكن ربطه بالاعتقاد أن الماضي، بشكل عام، كان أفضل من الحاضر. ربما لأن الماضي يوحي بالأمان العميق في اللاوعي البشري كونه لا يمكن استعادته، ولأنه لم يُعش، ولم يتم اختباره، لذلك يعتبر أنه كامل، وأن أصحابه ليسوا من صنف البشر الذين نعرفهم في وقتنا الحاضر،  فهم أخلاقيون أتقياء وكرماء ونبلاء وأقوياء، وبالتالي يصبح الماضي موئل أمان… ومُقدّسًا إلى درجة ما. من ناحية أخرى، وعلى الصعيد الشخصي العائلي البحت، يشير الخبير الاقتصادي «تايلر كوين» في كتابه «في مديح الثقافة التجارية» إلى أن «الآباء، الذين يُؤتمنون على حياة بشرية من صنعهم يحملون أعز مشاعرهم ويستثمرون أفضل سنوات عمرهم بالإضافة إلى آلاف الدولارات في تربية أطفالهم، لذلك ليس من المستغرب أن يتفاعلوا بقوة شديدة ضد القوى التي تؤثر على مثل هذا الجزء المهم من حياتهم». فالأهل يعتبرون أن أولادهم استمرار لهم وأنهم يواصلون تقاليدهم ويحملون أسماءهم وشيئًا من ملامحهم ويأملون أن يتصرفوا مثلهم ويفكروا مثلهم وأن يتبنوا قضاياهم وأحلامهم وإحساسهم بالمعنى. باختصار، يسعى الأهل إلى الخلود من خلال أبنائهم، لكنهم عندما يكبرون ويكتشف الأهل أنهم ليسوا مثلهم بل هم أشخاص مستقلون لهم أحلامهم وقضاياهم ودوافعهم وأن اهتمامهم يرتكز على المستقبل أكثر من الماضي يشعر الأهل بالخيبة ما يدفعهم إلى إطلاق الانتقادات والأحكام السلبية ليس فقط على أبنائهم بل على جيل الشباب الجديد بأكمله.

«نافذة المغامرة» 
إلى جانب كل ذلك، هناك ما يسمى بـ«نافذة المغامرة» التي تشير إلى استعداد البشر لاختبار أشياء جديدة واستكشاف مفاهيم ثقافية مختلفة، ومن المعروف أن «نافذة المغامرة» هذه تبدأ بالإغلاق شيئًا فشيئًا مع التقدم في العمر وذلك بعد الوصول إلى بعض المحطات الرئيسية في حياتنا. وبما أن المغامرة واستكشاف الجديد عادة ما يبثان روح التفاؤل والأمل، يفسر هذا الإغلاق التدريجي ميل الأشخاص إلى تبني التفاؤل الثقافي عندما يكونون صغارًا والتشاؤم الثقافي بمجرد أن يكبروا وتكبر مسؤولياتهم.  وبالتالي بمجرد إغلاق نافذة المغامرة يعمد العديد من الآباء إلى إقناع أنفسهم بأن «الأيام الخالية الجيدة» قد أصبحت وراءهم وأن الجيل الجديد لا يجدي نفعًا وأن أدواته وثقافته الجديدة قد تقوده مباشرة إلى الهاوية. وفي هذا الإطار يتحدث الكاتب الإنجليزي دوغلاس آدامز عن اختلاف مشاعر الأفراد في المراحل العمرية المتتالية ويقول بأن: «أي شيء كان موجودًا في العالم عند ولادتك هو أمر طبيعي وعادي وهو مجرد جزء طبيعي من الطريقة التي يعمل بها العالم، وأي شيء تم اختراعه بين سن الخامسة عشرة والخامسة والثلاثين هو شيء جديد ومثير وثوري ويمكنك على الأرجح الاستثمار فيه والاستفادة منه، وأي شيء يتم اختراعه بعد أن تبلغ الخامسة والثلاثين من العمر يتعارض مع الترتيب الطبيعي للأشياء». ربما يؤدي كل ذلك إلى الشعور بالحسرة على أيام الشباب الخوالي الأمر الذي قد يجعلنا نشعر بالضيق من الجيل الجديد الذي يتمتع بكل نوافذ الأمل والمغامرة، وهنا قد نتوافق مع ما عبر عنه الأديب المصري أنيس منصور عندما قال: « لا يضايقني في هذا الجيل الجديد إلا أنني لم أعد منه». 
في النهاية، لا بد من القول إن ما يجب أن يفهمه كبار السن هو أن القيم التقليدية والفطرة السليمة التي خدمتهم جيدًا في الماضي ستكون ذات صلة بهذا العالم الجديد أيضًا، وربما تكون الحكمة المستخلصة الأبرز تتعلق أكثر بإنسانيتنا المشتركة ومعرفة أن شباب جيل الألفية الثالثة مثلهم مثل أي جيل آخر، سوف يكبرون ويتقدمون في السن وسيستمرون في النظر بسلبية إلى الشباب الأصغر سنًا ويطلقون الشكاوى نفسها، وسيبقى تحيز الذاكرة وتقديس الماضي وتأثير إغلاق نافذة المغامرة قائمًا إلى الألف سنة القادمة وربما أكثر■