العمل العميق و«اقتصاد الانتباه»

العمل العميق  و«اقتصاد الانتباه»

يرى المؤلف والمتحدث الأمريكي مايكل هيات في كتابه «Free to Focus»، أن الحل لشعور معظمنا بالتشتت يكمن في بضع خطوات تبدأ بالتوقف والتفكير فيما نريد فعله بصورة محددة وإعادة تنظيم عقولنا وتهيئة أجسامنا لما نود القيام به، ثم التخلص مما لا يفيدنا.  وينصح بتخطيط اليوم وفق ثلاث مهمات رئيسية، ووضع تصور لأسبوع مثالي مع خريطة طريق لتحقيق الأهداف وتنمية الشعور بالرضا مع تقدم الأيام.  ويحذرنا من كلمة «المزيد» ومن تبعات الغرق في المزيد من المنتجات والمزيد من السرعة والمزيد من العمل والمزيد من الضغط النفسي، والمزيد من الأنشطة والمهمات في جداولنا المزدحمة؛ لما في ذلك من تدمير للذات.

 

يعتقد هيات أن مفهومنا للإنتاجية خطأ، والدليل على ذلك أنه رغم اكتظاظ أيام العمل بالمهمات - اجتماعات وتقارير، ومتابعة مشروعات، وغيرها - نادرًا ما يكون جهدنا كافيًا بل نشعر أحيانًا بأننا في مركب يوشك على الغرق. وللنجاة، نحاول العمل لوقت أطول وبصورة أسرع لندرك في النهاية أن المزيد من العمل والمزيد من السرعة من أسباب تراجع إنتاجيتنا لأننا تعبنا، بينما يكون الحل في تقليص المهمات وتعميقها، حتى تستريح عقولنا ونستطيع التركيز والعمل بعمق وبتدفق وننجز المطلوب بإبداع وفي أقل وقت ممكن. ويذكرنا بأهمية تخصيص أوقات لتجديد الطاقة، واعتبار ذلك ضرورة وليس رفاهية.  ولا يجد في جملة «التوقف عن العمل من أجل الإنجاز» تناقضًا، إذا عرف التأثير الإيجابي للنوم، والتريض، والعلاقات الاجتماعية الدافئة، على تجديد الطاقة وتحسين التركيز والصحة النفسية. 

من أين يأتي العمق؟
يعرف المتخصصون العمل العميق بالأنشطة المهنية التي تتم في حالة تخلو من المقاطعة، ما يدفع القدرات الإدراكية إلى أقصى حدودها. وتخلق هذه الجهود قيمة جديدة تحسّن من المهارات التي يصعب استنساخها. ويعتبر العمل العميق أمرًا ضروريًا لتعظيم القدرات الفكرية. وقد أثبتت دراسات في علمي النفس والأعصاب، أن حالة بذل الجهد الذهني المصاحبة للعمل العميق ضرورية لتحسين القدرات. كما يعد الالتزام بهذا النوع من العمل عاملًا مشتركًا في حياة المؤثرين عبر التاريخ ممن كانوا ينعزلون للقراءة والتفكير.
يمكن القول إن من مصادر العمق النادر في عصر الضجيج والتشبيك وجود معان فيما نبذل من جهود في حياتنا اليومية، والمرور بحالة من التدفق، عندما نقضي الوقت منكبين على عمل ما، ويكون الجسم أو العقل - أو كلاهما - منغمسًا في إنجاز مهمة صعبة وذات قيمة مع شعور قوي بالرضا. ويعني التحول نحو العمق في العمل، مناهضة الاستسلام للسطحية، وهجر أداء المهمات التي يسهل تقليدها، مما لا يتطلب جهدًا إدراكيًا، ولا يضيف قيمة جديدة.  فالبقاء عند مستوى السطح مأزق ينبغي تجنبه، لأن الاعتياد عليه يضعف القدرة على العودة إلى التركيز والتعمق والتأمل مرة أخرى؛ وهو ما أثبتته دراسات حول التأثير السلبي للإنترنت على الأدمغة وعادات العمل، بصورة يصعب معها علاج التبعات على المدى البعيد.

«اقتصاد الانتباه»
لكي ننجح في حربنا ضد السطحية، ربما علينا أن نستوعب جيدًا ما يعرف بـ «اقتصاد الانتباه» الذي تناوله كال نيوبورت - في كتابه «Digital Minimalism » وعرفه بالاقتصاد الذي يتضمن قطاع الأعمال الذي يجني المال من جذبه انتباه المستهلكين - بتقديم خدمات مجانية أو بأسعار زهيدة - ثم يعيد «تغليف» هذا الانتباه المجمع ويبعه للمعلنين. ولا يعد هذا النوع من الاقتصاد جديدًا، بل يعود إلى مطلع ثلاثينيات القرن التاسع عشر حيث أطلق الناشر بنجامين داي صحيفة نيويورك سان التي كانت تباع بمبلغ زهيد. وكان القراء هم عملاء الصحيفة التي استهدفت تقديم مواد جاذبة وممتعة لإقناع مزيد من الناس بشرائها. وسرعان ما تبدل الحال وأصبح القراء هم المنتج، والمعلنون هم العملاء، ليصبح الهدف الأهم بيع أكبر قدر من دقائق انتباه القراء للمعلنين. وبعد نجاح نموذج الأعمال هذا في إشعال المنافسة بين الصحف الصفراء في ذلك القرن تم تبنيه من جانب قطاع الإذاعة والتلفزيون. ثم دفع في القرن العشرين إلى حدود جديدة مع بداية استخدام تقنيات وسائل الإعلام الجماهيرية القادرة على الحشد بصورة غير مسبوقة. ومع اتساع انتشار الإنترنت في التسعينيات تم تبني هذا النموذج على الخط، وساهمت صناعة الهواتف الذكية والأجهزة الرقمية الأخرى في تعظيم قدرات تمرير الإعلانات طوال اليوم، وتعظيم العوائد لدرجة تفوق عوائد بعض الأعمال في هذا الاقتصاد على عوائد استخراج النفط، كما هي الحال بالنسبة لغوغل وفيسبوك وأبل، وغيرها مما يقدر بمئات المليارات من الدولارات.
ولتقويض عواقب هذا الاقتصاد الذي شتّت انتباهنا، وأصاب معظمنا بالإدمان على منتجاته، من أجل جني المكاسب، دعا نيوبورت - المتخصص في علوم الحاسوب - إلى مناصرة حركة «المينيماليزم الرقمي» التي لا ترفض التجديد التكنولوجي، ولا تنكر أهميته، لكن تتبنى فلسفة تكنولوجيا تدعو إلى تركيز الوقت المنفق على الخط على أنشطة مختارة بحذر وبصورة تدعم القيم وتصب في منفعة المستخدم، وترك الباقي بلا أسف، وذلك اعتمادًا على مبدأ يرى أن تكاليف تشتيت الانتباه وتبديد الوقت على العديد من الأجهزة والتطبيقات والخدمات تفوق ما يمكن الحصول عليه من منافع. وعلى اعتبار أن الاستخدام الواعي للتكنولوجيا يجلب الكثير من الرضا. ومن ممارسات هذه الحركة أخذ راحة من التكنولوجيا غير الضرورية -تطبيقات، مواقع، ألعاب، فيديوهات، وسواها - لشهر كامل، واستبدالها بمشي أو أنشطة تفاعل واقعي مع الناس. ثم العودة إليها - إن لزم الأمر- بصورة واعية واستخدامها بأقل قدر من الأضرار. ورغم صعوبة هذه الممارسة الشبيهة بتخليص الجسم من السموم «الديتوكس» لاسيما في البداية، تأتي مع الصبر بثمارها المتمثلة في تقوية مقاومة أسر الهواتف الذكية وسواها من الأجهزة الرقمية، وتعزيز التركيز والعمل العميق.
 
مكافحة المقاطعات الرقمية
لا يخلو الأمر من وصفات أخرى يدرجها الخبراء من أجل التركيز على ما يهمنا، وتقوية مهاراتنا في مكافحة المقاطعات الرقمية على وجه الخصوص، والمتمثلة في عدم الرد على المكالمات والرسائل غير المهمة فور وصولها، وتجنب تصفح المواقع الإخبارية، أو البحث عن معلومات لا لزوم لها، وغير ذلك مما يشتّت الأفكار ويبدد الساعات والانتباه. 
وتطالعنا الدراسات، كتلك التي أجراها فريق من الباحثين في جامعة كاليفورنيا، بحقائق مقلقة مثل حاجة الموظف إلى 23 دقيقة على الأقل، ليواصل مهمته بعد كل مقاطعة، فإذا تمت مقاطعته خمس مرات في اليوم فإن ذلك يعني هدرًا أكثر من ساعتين. وتؤكد دراسة أخرى أن العاملين في مجال المعرفة ينفقون 60 في المئة من عمل الأسبوع مرتبطون بأدوات التواصل الإلكتروني والبحث عبر الإنترنت.  ونحو 30 في المئة من وقت العمل مكرس لقراءة رسائل البريد الإلكتروني والرد عليها، ويقترحون تحديد أوقات معينة للرد على الرسائل - مرتين يوميًا فقط - في غير وقت التركيز على المهمات. ووضع قوائم بما لا ينبغي فعله في مقابل قوائم ما ينبغي فعله، لتحديد مواطن الهدر في المهمات غير الضرورية التي تسرق منا أوقاتنا وطاقاتنا. وذلك في ضوء تقييم مستوى الشغف والدافعية لأداء المهمات وطلاقة أدائها، لنقرر من ثم إلغاء بعض المهمات أو تفويض آخرين بعملها.
 ولكي نستطيع التفرغ والتركيز على العمل المهم حقًا، لا بد من تعلم قول «نعم» أو «لا» في المواقف المختلفة. ونتذكر أن ساعاتنا محدودة، فإذا قلنا «نعم» لمزيد من العمل، مثلًا، فإننا نقول «لا» لقضاء الوقت مع الأسرة.  وفي خاتمة المطاف، إن ما نختار التركيز عليه وما نختار تجاهله، يسهم في تحديد نوعية حياتنا - نحن ما نفكر فيه، ونشعر به، وما نحبه - وينصح الخبراء أيضا بترتيب مكان العمل لتحسين مستوى التركيز، لأن البيئة المزدحمة تقلل من القدرة على معالجة المعلومات، حسب دراسة أجريت في جامعة برينستون ■