بحر...

بحر...

تقلبُ المحطات الفضائية، ترشف آخر ما تبقى من فنجان القهوة. قد تتصل بصديق تدعوه لشرب القهوة في مقهى ما، لا.....، ترغب في تصفّح الجريدة؟ قراءة رواية؟ لا.... لا. ترتدي القميص على عجل، تنطلق خارج الشقة، تتجنب استخدام المصعد، حتى هذا قد سئمت منه. ترغب في أن تراقب قدميك تتحركان على السلّم الذي لم تطأه لزمن. تصعد السيارة، تنطلق، لا تدري إلى أين. تتسكّع في الشوارع المزدحمة. ماذا يحدثُ لك؟! حتى إنك لم تُدِر مسجل السيارة كعادتك لتستمع إلى أغنية عابرة، أو إلى أحد البرامج الإذاعية!   فجأة تغلق جهاز التكييف، تشعر به يخنقك، تفتح نوافذ السيارة الأربعة، يندفع الهواء طازجا بريّا، ليس إلى رئتيك فحسب، بل أيضًا إلى روحك، التي أتلفها التكييف. تأخذ نفسًا عميقًا، يتمدد صدرك معه، علّه يغسل...، لا تدري ماذا، لكنك تحس بأنك ملوّث. تراقب مَن حولك خلال وقفة الإشارة الحمراء. لكن فيمَ تحدّق؟ في قلبك سؤال ضبابي يأبى على التشكل. 
تتنشق أكبر كمية ممكنة من الهواء حالما تنطلق السيارة إذعانًا للون الأخضر. تقود وتقود والشارع الرمادي لا ينتهي. أخيرًا، تتمهل وتركن سيارتك أمام ذلك المقهى الذي صادفك، تترجّل، وتلقي بثقلك على الكرسي، تطلب أرجيلة وفنجان قهوة، تدعك صدغيك، تحاول التركيز، لا تدري ماذا يحدث لك اليوم بالذات، لا...، إنه يحدث منذ فترة، لكن اليوم تشعر بالأشياء تنفجر من حولك؛ تنظر إلى الأفق، سيارات تندفع في الشارع بسرعة جنونية، تركز خلف السيارات، تلمح بحرًا، أزرق داكنًا، أمواجه تتلاحق بعفوية آسرة. ما بك...؟ أنت تقطن هذه المدينة دهرًا، كأنها المرة الأولى التي تشاهد فيها البحر!! تحسّ بمغناطيس يجذبك للمشهد، للأمواج، للمدى الأزرق. حالًا تغادر المقهى، تصعد السيارة وتتجه صوب البحر، تركن سيارتك من جديد. هذا المدى الأزرق يستبيحك. تحرر زفيرًا ثقيلًا خانقًا، تحسه كبقايا فنجان القهوة. 
يمر أمامك أطفال يركضون بأقدام حافية، يتناثر الرمل الطري تحت أعقاب أقدامهم الصغيرة، ودون شعور منك تطوي بنطالك وتركض كطفل، كمجنون، كأسير تحرر للتوّ. تجثو على ركبتيك لاهثًا، تضحك بصوت عالٍ ومسموع، ينظر إليك الأطفال، يبادلونك الضحك، يقتربون منك، يمدون إليك عصا خشبية رفيعة كي ترسم على الرمال المروية، تمامًا كما يفعلون، لكنك لا تحسن الرسم! لم تكترث، تناولت العصا، ورسمت خطوطًا طولية وعرضية بعشوائية، رسمت شكلًا لشخص، رسمته مبتسمًا بذلك الخط المنحني في فمه. سألك الأطفال عن اسمك، كتبته تحت الرسم، حدقت فيه مطولًا، لكأنها المرة الأولى التي تعرف فيها اسمك.  تتكئ على العصا بكلتا يديك ناظرًا إلى قرص الشمس يذوب في المياه، ينسكب انسكابًا. وسألت نفسك إن كنت قد صادفت مثل هذا السحر من قبل. هدير الأمواج المسيطر يريح كل ما بداخلك، كحبة مهدئ. صافحك الأطفال مودّعين ودخل الظلام رويدًا رويدًا. زوار البحر بين قادم وغادٍ، وأنت... افترشت الرمال الرطبة واستلقيت، هذه البرودة تلامس روحك، أخذت شهيقًا عميقًا بنكهة البحر، رائحة الرمل الرطب أزكى من جميع العطور الثمينة التي أغرقت بها جسدك، ترى هل تضاهي أو تقارب هذه الرائحة النافذة أيًا من «الماركات» التي شغفت بها؟!   السماء تطل عليك بنجومها كأنها انفردت لك وحدك، كمسرح عظيم، تشعر بأنك داخل لوحة حية؛ ها قد بدأ الموج يشتد، تسمع أنفاسه تقترب، تضحك، ينزلق إلى خصرك، تحسه يغسلك تمامًا، تأخذ نفسًا عميقًا جذلًا، رائحة الموج  تحتل جميع خلاياك، يتوالى المد، يدغدغ جسدك، وتستمر بالضحك ■