صناعة الكتاب العربي مهددة بالفناء

هل يمكن أن يأتي يوم لا نجد فيه الكتاب العربي بالمكتبات أو حتى على الأرصفة؟ هل يمكن أن تستحكم أزمة النشر وتتراكم مشاكل الكتاب العربي حتى يموت مختنقًا هل تواصل دور النشر العربية مسلسل الإفلاس حتى تحين لحظة الإغلاق، وهل تأتي تلك اللحظة التي تثير رعب المثقفين والمفكرين، بل تهدد استنارة العقل العربي بأكمله؟
أسئلة غاية في التشاؤم، لكن الأزمة المستحكمة التي تمر بها حركة النشر العربية تدفعنا إلى كل هذه التساؤلات، فلولا الجهود الحكومية وأنشطة دور النشر التابعة لها لتباطأت حركة الكتاب العربي لدرجة الخفوت، ويكفي أن نقرأ الواقع الذي تعانيه سوق النشر لندرك حجم التحديات التي تواجهه، وهي تحديات داخلية، وأخرى خارجية لا نستطيع دفعها.
علينا أن نعترف أولًا بأن مجموع ما تنتجه كل البلاد العربية أقل مما تنتجه دولة أوروبية واحدة، إسبانيا على سبيل المثال، فقد بلغ عدد الكتب التي صدرت فيها خلال عام واحد ما يقارب 20 ألف كتاب ومجلة، بينما لم يتجاوز ما أنتجه العالم العربي كله 5 آلاف كتاب على وجه التقريب، لأنه لا توجد لدينا أرقام دقيقة، كما يؤكد ذلك تقرير مؤسسة الفكر العربي الذي تضمن معلومات مخيفة عند المقارنة بين مستوى القراءة في الدول الغربية والدول العربية، فالقارئ في الغرب يخصص 200 ساعة من وقته كل عام للقراءة، بينما القارئ العربي لا يتجاوز 6 دقائق سنويًا، فما بالك عندما يرتفع سعر الكتاب بسبب ارتفاع تكاليف إعداده، لا أحد يعرف ما فعلته تداعيات كورونا في هذه الأرقام، ولا ماذا سينتج من آثار الحرب في أوكرانيا، فالعالم العربي يعتمد على استيراد كل مستلزمات الطباعة من الخارج، آلات وأوراق وأحبار ومواد كيميائية، وكلها عرضة لاهتزازات السوق العالمي وارتفاع أسعارها.
كل هذا العبء والكتاب العربي يتيم، تمويله الوحيد يأتي من القراء، وهم قلة كما تقول الإحصائيات، وبعيدًا عن سلاسل الكتب التي تصدرها بعض الحكومات، فإن دور النشر تتكلف بكل شيء، وتنتظر تحت رحمة مزاج القارئ حتى يسهم في تسديد هذه الكلفة، وحركة الكتاب بطبيعتها بطيئة لا تأتي بمردودها إلا بعد وقت طويل، وهذا ينعكس بالسلب على كفاءة دور النشر وقدرتها على إنتاج المزيد من العناوين، بينما في الغرب يتم احتضان الكتاب منذ لحظة مولده من سلاسل المكتبات العامة إلى المؤسسات الثقافية ومراكز الأبحاث حتى الجامعات، أي إن الكتاب لا يعتمد على القرّاء الأفراد، وهم كثيرون، بل تدعمه أكثر من مؤسسة.
حوار المؤلف والبائع
فوق أرصفة العديد من المدن العربية تتراص عشرات الكتب، مؤلفات عربية وأخرى مترجمة، أغلفة براقة ولامعة، تثير الدهشة أنها تركت مكانها فوق أرفف المكتبات لتستوطن الأرصفة دون سعر محدد، بل يترك الأمر لمهارة المساومة بين البائع والزبون. يحكي لي صديق، وهو مؤلف وروائي، أنه ذات يوم وبينما كان يتجول في شارع يتوزع عليه باعة الكتب، رأى كتابًا له صدر منذ أيام قليلة موجودًا لدى أحد الباعة، وعندما سأله: كيف تم تزييف الكتاب بهذه السرعة؟ أقسم البائع بأن الكتاب أصلي! ومصداقًا لكلامه فض الغلاف البلاستيكي من عليه ليفحصه بنفسه، ويعترف صديقي بأن التزوير كان متقنًا لدرجة كبيرة، لأن تكنولوجيا الطباعة الحديثة قد ساعدت هؤلاء المزورين على إتقان عملهم.
جادل صديقي البائع: إذا كان الكتاب أصليًا كما تقول، فلماذا تبيعه بهذا السعر المنخفض؟ رد البائع بصوت مقنع بأنه يفعل ذلك خدمة للثقافة! لكن صديقي كان على يقين بأن هذا الأمر هو الذي سيهدم الثقافة وسيدمّر أهم إنجازاتها وهو الكتاب، فتزوير الكتب هو السرطان الحقيقي الذي تعاني منه صناعة النشر دون أن تجد حلًا، يسطو المزور على الكتاب المطبوع دون أن يدفع سوى تكلفة الورق، لا يدفع ثمن الإعداد والتدقيق اللغوي، ولا تكلفة رسم الغلاف أو الرسوم الداخلية، ولا حق المؤلف أو دار النشر، ولا حتى الضرائب المفروضة للدولة، ويصيب الكتاب الأصلي بالكساد.
تبييض الأموال
لقد دخلت صناعة الكتاب المنسوخة والمزورة في دهاليز الاحتيال وأصبحت وسيلة لغسل الأموال القذرة من خلال دهاليز ملتوية تتضمن مثلًا وضع أسعار بأرقام مضخمة لكتب لا قيمة حقيقية لها، ويتم تحريك تلك الأموال في المسارات الرقمية لباعة كتب غير حقيقيين لهم باع طويل في تهريب الأموال أو عبر منصات النشر الذاتي والتي يصعب رصدها جميعًا، وهذا ما يمثل مدخلًا جديدًا لعالم غسيل الأموال وجد في عالم المعرفة والثقافة منطقة آمنة يوسع فيها نطاق أعماله غير القانونية.
صناعة مهددة بالفناء
تتفق آراء الكتاب في العالم العربي مع أقرانهم في الغرب بشأن خطورة ظاهرة الكتب المزورة التي يمكن أن تدمّر صناعة النشر، فيرى الناشر المهندس إبراهيم المعلم لصحيفة الشروق، أن «تزوير الكتب يهدد صناعة النشر في مصر بالفناء»، وهي كلمات أشبه بإنذار قوي، صناعة النشر مهددة، وتنذر بإفلاس وإغلاق كثير من دور النشر.
يؤكد العديد من الناشرين أن نشر الكتب وتوزيعها ليسا بالكيفية المأمولة في الوطن العربي الذي يزيد تعداده على 650 مليون نسمة، ورغم هذا العدد الهائل، فإن صناعة النشر في تراجع عامًا بعد عام، ومخازن الكتب محشوة بصفوف من الكتب كعنوان للكساد الشديد، وفي العديد من المدن والبلدات تغلق المكتبات أبوابها وتتحول إلى خدمات للهواتف المحمولة، وربما يؤكد هذا أن سلم الاحتياجات الأساسية لا يتضمن المعرفة، وربما هو مؤشر على أننا كأمة نحب الكلام.
يمكن القول إن الناشرين لم يتلقوا هذه الضربات الموجعة دون مقاومة، أحد الناشرين في إحدى الدول العربية هبط متنكرًا للشارع وبدأ في البحث عن مصدر كل هذه الكتب المزورة حتى وصل إلى مخزن ضخم يضم مئات العناوين المسروقة من داره ومن دور نشر أخرى، وتطورت الأمور حين اشتبك في صراع بالأيدي مع صاحب المخزن ونجح في اقتياده إلى مركز الشرطة. المفاجأة أن الأمر لم يتعدّ أكثر من تسجيل غرامة لا تذكر على المزوّر، وهو ما يوحي بوجود فراغ قانوني يعالج مثل هذا النوع من التزوير، أما الناشر المكلوم على تجارته التي تتعرض للخسارة فقد وجّه له إنذارًا شديدًا لمحاولته الاعتداء على المزوّر!
لجنة حماية الملكية الفكرية
وبعيدًا عن المحاولات الفردية، فقد بذلت على المستوى الجماعي عدة محاولات لمواجهة ظاهرة القرصنة والتزوير، على سبيل المثال شكلت باتحاد الناشرين العرب لجنة لحماية الملكية الفكرية، يقول رئيس اتحاد الناشرين العرب محمد رشاد: تتولى اللجنة مهام التحقيق في قضايا القرصنة والتزوير وإصدارعُقوبات منها حرمانُ المزوِّر من المشاركة في المعارض العربية، وتوقيع غرامة مالية تتضاعف حال إصراره على التزوير، الحبس عامين وغرامة 500 ألف جنيه، ووضع الشخص المزوِّر والكتاب المزوَّر على قائمة سوداء لمنع التعامل معهما.
وأضاف رشاد: وحفاظًا على حق المؤلف والناشر، قامت لجنة الملكية الفكرية باتحاد الناشرين التابعة لجامعة الدول العربية بتغريم 63 موقعًا على النت، منها (جوجل، ويوتيوب، وفيس بوك، وغيرها) مبلغ 63 مليون دولار أمريكي؛ لقيامها بتحميل كتب pdf دون إذن أصحابها.
ولا يبدو أن هذه العقوبات قد ردعت المزوّرين، فما زالت الكتب المقرصنة والمزورة تتسلل لمعارض الكتب، وبعض البلدان الضعيفة اقتصاديًا تقيم معارضها معتمدة بالكامل على الكتب المزورة!
وداعًا للملكية الفكرية
المشكلة في عملية التزوير أنها تضرب بقوانين الملكية الفكرية عرض الحائط، فهناك تكلفة لصناعة المُنتج الثقافي، كالكتب والأفلام والأغاني وغيرها، لكن ما يحدث أنه بعد ظهور هذا العمل بفترة قصيرة تجده منشورًا بالمجان على مواقع الإنترنت، ويهدد هذا الأمر المؤسسة التي أنتجت هذا العمل بالإفلاس، ويدّعي البعض أن نشره بهذه الصورة يسهم في نشر المعرفة، لكن هل يجوز نشر هذه الأعمال دون الرجوع إلى أصحابها والإذن منهم؟ سؤال مختَلَف حوله، خاصة أن الجهة التي أنفقت على إنتاج هذه العمل لن تُوافق أبدًا على إهداره مجانًا، وبذلك يصبح نشره على شبكة الإنترنت نوعًا من القرصنة، وسيظل هذا الأمر يمثل تهديدًا لإنتاج الأعمال خاصة عندما تكون التكلفة عالية، ولا ينفي هذا أن اختراق قانون الملكية الفكرية وقرصنة المُنتجات الثقافية ونشرها هي إحدى وسائل نشر المنتج الثقافي. أمام هذه الازدواجية تظل الأزمة قائمة وبحاجة إلى تدخل الدولة للحفاظ على تلك الصناعة المهدّدة بالإفلاس.
في الختام، كان العرب الأقدمون يؤمنون بحق الجميع في كل مصادر الحياة، السهول الصالحة للإقامة، العشب المتاح للرعي، الآبار التي تسقي العطشى، إلا الشِّعر فقد كان ينسب دائمًا لقائله ويحاسب مَن يسرق منه أو يقتبسه، أي إنهم بشكل أو بآخر كانوا يحترمون قانون الملكية الفكرية في زمنهم المبكر، فلماذا لا نحترمه نحن؟! ■