من «الشيّاح» إلى «سماء نائية» إسماعيل فهد إسماعيل الرواية توثيقًا للتاريخ
هل كان الروائي الكويتي الكبير إسماعيل فهد إسماعيل حين كتب رواية «الشيّاح» عن بدايات الحرب الأهلية في لبنان، يتخيّل أنه سيكتب يومًا عن حرب أخرى ستدور رحاها على أرض بلده الكويت، بعد أقل من عقد ونصف العقد؟ في مثل هذا الأدب الروائي هناك توثيقٌ للحدث، وتسجيلٌ للتفاصيل، وإدانةٌ للجرائم ضد الإنسانية، والأهم حفظٌ للتأريخ. يستهل إسماعيل رواية «الشيّاح» بعبارةٍ يقتبسها من بريخت: «على الحائط كتابة بالطباشير: (هم يريدون الحرب)، والذي كتبها سقط صريعًا»، راصدًا عذابات الإنسان البسيط، الذي يكون وقود الحرب وضحيتها الكبرى، نقصًا في الغذاء والدواء، وشحًا في الماء، إلى درجة أن تغامر بدفع روحك ثمنًا لتأمين قنينة ماء لطفل رضيع.
في «الشيّاح»، تدور الأحداث حول تفاصيل الحياة اليومية لمجموعة صغيرة من الناس البسطاء علقت في منطقة على خطوط التماس بين شطري العاصمة بيروت، وهي تكافح يومًا بعد يوم من أجل البقاء. أما رواية «سماء نائية»، فتدور في عقل مدرس كويتي، علق في قاعةٍ رياضيةٍ بإحدى المدارس في نهاية الدوام بسبب مداهمة آلام الديسك الحادة التي تشلّه عن الحركة، فتغدو القاعة مسرحًا لاسترجاع ذكريات حياته وآلامه التي يحملها على ظهره منذ ثلاثين عامًا.
تبدأ عملية استرجاع الذكريات بطيئةً هادئةً، ثم تتسارع بعد حادثةٍ عرَضيةٍ حدثت له في اليوم الأول من نقله إلى مدرسة أخرى كمدرّس احتياط، حيث كُلّف بمراقبة أحد الصفوف مؤقتًا. كان الصف غارقًا في الفوضى والضجيج، فحاول استعادة الهدوء دون جدوى، من الكلمة الناصحة إلى رفع الصوت، وأخيرًا يقرّر إنزال العقاب، يستدعي أقرب طالب، ويبادره بصفعة تنطبع احمرارًا على خدّه، بينما جمد الصبي الذي أخذته المفاجأة في مكانه وعيناه تقولان احتجاجًا: «لماذا أنا»؟ ظلّ الصبي يلاحقه بنظرات الاستنكار والاشمئزاز وهو يحاول الإفلات منها.
ظلّ وجه الصبي يذكّره بوجه أخيه الوحيد، الذي وُلد بعده بعشرة أعوامٍ فكان مدلّلَ والديه، كما جاء شخصية مختلفة تمامًا عنه، إلى درجة التناقض التام؛ فبينما هو شخصية رزينة انطوائية مسالمة، كان أخوه منفتحًا حركيًا مشاغبًا، وحين كانت الأم تستغرب هذا التناقض بين الولدين يجيبها الأب: «إنهما يكملان بعضهما البعض».
لكن هذا التكامل لم يأتِ أبدًا، فطوال فترة طفولتهما حتى يوم الفراق الأخير ظل التناقض والتنافر يحكمان علاقتهما منذ أن شاهد أخاه يشتبك مع اثنين من أطفال الجيران ويوسعهما ضربًا. حاول فك الاشتباك بينما تشبّث أخوه بذيل أحد الطفلين ليزيده ضربًا، فاضطر إلى إيقاف أخيه بصفعةٍ على وجهه، فجمد مكانه غير مصدّقٍ أن ينحاز أخوه الأكبر إلى خصمه. ظلت هذه العقدة/ القطيعة تحكم علاقتهما حتى شارف الصغير على العشرين.
بعد انتهاء الدوام تداهمه آلام الظهر الحادة، فيلجأ إلى الصالة الرياضية الخالية، يداري وضعه، متصبّرًا حتى تتحسن حالته فيتمكن من المغادرة، لكن هذا اللجوء يطول لساعات، إلى ما بعد حلول الظلام.
خلال هذه الساعات ينشب الألم مخالبه في جسده فيشلّه عن الحركة، ويتمدد على أرض الصالة المغبرّة، طلبًا لسكون الآلام. وخلال هذه الساعات ينثال عليه شريط ذكريات حياته، بدءًا من وجه الصبي الذي صفعه يومها، متماهيًا مع وجه أخيه يوم كان في سن العاشرة، وما تقلبت به أحوال العائلة من فقدٍ ومصائب ومصاعب. كانت هذه العزلة/ الغيبوبة هي الخلفية التي نطلّع من خلالها على مسيرة حياةِ عائلة كويتية في الثمانينيات، وما انتهت إليه أوضاعها زمن الاحتلال العراقي.
زلزال الاحتلال
الاحتلال كان زلزالًا، فهو يعني التشرد والأحزان، الذهول والفجيعة من الفقدان، حزن عاتٍ جارف، مع مشاعر الحقد والكراهية من الغدر. لقد تحوّلت الحياة اليومية إلى جحيم لا يُطاق. ومع أمٍ مريضةٍ تحتاج إلى علاج دوري للفشل الكلوي تغدو مراجعة المستشفى محنةً كبرى، مع قرار قسري بتغيير الجنسية. ومن حسن حظه أن يصل إلى طبيب كويتي شاب كان الوحيد المتبقي في القسم مع جهازٍ واحدٍ للغسيل يعمل، حاول مساعدته بإدخال أمه للعلاج فورًا، وحين تم ترتيب الوضع لعلاجها غيّرت رأيها، إذ أرادت أن ترافقه إلى المركز حيث يتم استبدال الجنسية، فخاطبها:
- تتعرضين للخطر؟
أجابت: البلد كلها... في خطر.
وفي الطريق تلح عليه بإعادتها إلى المنزل، رافضةً تغيير وثائقها الأصلية، لتذوي سريعًا بفعل مضاعفات المرض، وتُسلم الروح بعد يومين من المكوث الواهن في السرير. كانت آخر وصية لها: أخوك!
الأخ الذي كان مستهترًا في بداية مراهقته عاش حياةً من الضياع والتفلّت، فدفع والديه إلى توبيخه الدائم، لكنه عدّل من سيرته باتباع تكتيك جديد، وهو التظاهر بالاستقامة للتغطية على الاستمرار في حياته السرية. وحين مات الأب كان مختفيًا عن الأنظار، ولم يظهر إلا في اليوم الثاني بالمقبرة قبيل التشييع بقليل، ودخل المغتسل ليرتمي على جثمان والده ويتعلّق به لا يريد فراقه. وبصعوبةٍ استطاع الجيران إبعاده عن أبيه لإخراجه من الحالة الهيستيرية التي تهاوى فيها، وعرف الأخ الأكبر أنه كان برفقة فتاة شقراء في تلك الليلة.
هذا الأخ الأصغر، مع بداية الغزو العراقي للكويت صبيحة الثاني من أغسطس عام 1990يختفي من البيت ويلتحق بمجموعةٍ من الشباب لمقاومة المحتل، حيث أبدى حماسةً واندفاعًا كبيرين، وفي أحد الاشتباكات يُصاب في فخذه بطلق ناري، بعد أن ظلّ يدافع عن المجموعة لتأمين انسحابها أمام مجموعةٍ كبيرةٍ من الجنود حاصرتهم، وكان قبل ذلك يعود للمنزل مرةً في الأسبوع، لكنه بعد انقطاعه الأخير حاول الأخ البحث عنه فعرف أنه أدخل المستشفى للعلاج من إصابته.
في أحد تنقلاته القليلة خارج البيت يتم إيقاف المدرّس عند إحدى نقاط التفتيش، وتُصادر سيارته بدعوى مخالفته القرار الخاص بضرورة تبديل لوحات «العهد البائد»! مصادرات السيارات اضطرت الكثير من المواطنين الكويتيين لاقتناء الدراجات الهوائية.
ومع المكوث في البيوت طويلًا، يبدأ المدرّس في زراعة الخضراوات الورقية بأرض صغيرة ليشغل نفسه عن التفكير، بينما بدأ آخرون في تربية الدواجن لتأمين غذاء احتياطي فيما لو نشبت الحرب وضاقت السبل على البشر. وبدأ آخرون بحفر آبارٍ في بيوتهم استعدادًا لانقطاع المياه. وهذه الفترة، التي كانت فيها مراجل الحرب تغلي، شهدت أيضًا التهافت على شراء السرج الزيتية والشموع والفحم استعدادًا لانقطاع الكهرباء والبطاريات الجافة ليضمنوا استمرار متابعة أخبار الإذاعات.
ويظلّ يؤرقه مصير أخيه، استشعارًا للمسؤولية تجاه وصية أمه الأخيرة، فيلجأ إلى أحد الضباط، الذي أبدى بعض التعاطف أثناء تفتيش منزلهم. لكن المشكلة أن الأخ المعتقل متهمٌ بقضية كبرى: جرائم إرهابية مرتبطة بالقتل، ثم إنه في قبضة المخابرات، لكن الضابط وعده ببذل جهده لمعرفة مصير أخيه خلال أسبوع. بعد أيام، زاره الضابط ليلًا ليخبره بنقله إلى موقع عمل آخر، وأن أخاه نقل إلى معتقل ثانٍ: «المشاتل»، وهو مكان آمن لاختفائه بين الأشجار، خُصّص للإرهابيين الخطرين، وعن يساره الضابط العراقي: هل أنت مستعد لأن تشتريه؟
- والمقابل؟
- خمسة آلاف دينار.
وعندما يستثقل المبلغ لعدم توفره لديه، يردّ عليه: أنتم الكويتيون تدبّرونها.
كان المبلغ فوق طاقته، وعاد إلى المنزل ليفكّر في تقديمه لليوم التالي طمعًا في افتداء أخيه، فالموجود 800 دينار فقط، هي ما تبقّى من مبلغ ألف دينار، تسلّمته أمه سابقًا من رجل ملثم، قال إنه «من حكومتنا في السعودية». فكّر في بيع الأجهزة المنزلية، فاكتشف أن حصيلتها كلها لن تتجاوز ألف دينار، فما العمل؟
اتجه تفكيره نحو ما تركته أمه من مقتنيات، وخفّف من شعوره بالذنب أنه إنّما ينفّذ وصيتها ويحقق رغبتها في الاهتمام بأخيه. وبالفعل تكفّلت مصوغات أمه بتوفير المبلغ المطلوب. وحين حمل المبلغ إلى الضابط في اليوم التالي لاحظ تلكؤه، فخالطه الشك في نواياه، إلا أنه لم يكن أمامه من خيار غير الاستمرار في لعبة المفاوضة، ليُفاجَأ بطلب مبلغ ألف دينار أخرى، قائلًا: «اعتبرها أتعابًا إضافية»! ويتساءل مع نفسه: «هل هذا الجيش مؤهلٌ أن يحارب ويصمد فعلًا»؟ فهو جيشٌ متهاو من الداخل، يتوسل الرشوة والمال والابتزاز.
في الصباح، حين يذهب بالمبلغ الإضافي المطلوب يُفاجأ بحشود عسكرية لم يشاهدها من قبل، ومُنع من دخول المعسكر، فظنّ أنهم ينقلون الأسرى الكويتيين، وعاد أدراجه إلى البيت خائبًا مهمومًا. وفي العصر طرق بابه أحد الجيران ليدعوه للذهاب إلى المقبرة لمشاركتهم في واجب دفن الشهداء، ليُفاجأ بأن أخاه من بينهم. لقد كان فعل غدرٍ يمثل جوهر نظام الديكتاتور.
كان الشهداء من النساء والرجال، وكذلك كان الحضور في المقبرة التي يلفها الصمت والحزن. وطلب إلقاء نظرةٍ أخيرةٍ على أخيه، وبعد تردّدٍ سمح له جاره بالاقتراب، وبمجرد الكشف عن وجه أخيه صدمه منظر الرأس المهشّم، فسقط غائبًا عن الوعي. وحين أفاق تساءل: ما الذي دعاهم للتمثيل بالجثث؟ هؤلاء يُفترض أنهم أسرى حرب.
كان هذا هو اليوم الأخير من المهلة التي قرّرها مجلس الأمن للانسحاب من الكويت، وتحت ضغوط الخوف من انطلاق الحرب في أية لحظة أقدم الجيش المحتل على تصفية الأسرى. وهمس له صديقه مواسيًا: «هم ما زالوا يمارسون نهجهم ذاته مع المعارضين من مواطنيهم». وفي حالةٍ يُرثى لها من الانفعال والتمزّق الداخلي يقرّر أن يلتحق بالمتطوّعين، فيردّ عليه: «أنت متعَبٌ كفايةً»!
كان الناس في الداخل يتحرّقون شوقًا لنشوب الحرب، أملًا في الخلاص من براثن الاحتلال. ومع نهاية مهلة مجلس الأمن، عند انتصاف ليل السادس عشر من يناير، وبينما كان مستلقيًا بين اليقظة والمنام، يسمع أصوات الطائرات المغيرة، فيخرج ركضًا إلى السطح، ناسيًا كل آلام ظهره، ليشاهد الطائرات تغطّي السماء، ويصعد الجيران إلى أسطح المنازل ليطلقوا صيحات الفرح انتظارًا للخلاص.
كان ظنّ عامة الكويتيين في الداخل أن بدء الحرب يعني انتهاء أزمتهم خلال ساعات، لكن الساعات طالت إلى أيامٍ وأسابيع. في البداية استمرت المضادات الأرضية في الردّ على الطائرات لكنها خمدت بعد أيام، بينما استمر الإعلام البعثي يردّد: «الحرب الجوية هي حرب الجبناء»، وأنهم «مصممون على خوض غمار أم المعارك حتى آخر جندي».
بداية النهاية للمحتل
عقب ندرة الغذاء والأدوية وانقطاع الكهرباء والهاتف، بدأ جيش الاحتلال يأسر من يخرجون من بيوتهم وسوقهم إلى مراكز تجميع، وإرسالهم إلى ما وراء الحدود. كانت الهزيمة تلوح في الأفق، وبدأ الانسحاب وتحرّرت الكويت. وتحوّلت الأيام التالية إلى ظلامٍ دامسٍ في النهار بفعل الدخان الكثيف بعد تفجير مئات الآبار النفطية التي استغرق إخمادها تسعة أشهر، بينما لم يدم الاحتلال أكثر من سبعة أشهر. إن رائحة الحرب لم تكن لتطول المعتدي وحده، فطرفا الحرب - بشكل أو بآخر- خاسران.
ظلّ يبحث عن لغز أخيه الذي لمّح جنديٌ إلى أنه كان سينقل رسالةً منه إلى زوجته: هل كان أخوه متزوجًا بالسر؟ وما يترتب عليه من مسؤولية تجاه أرملته. ظلّ يبحث عن خيطٍ بشأن زواج أخيه لمدة عامين، بعد أن جرت عملية إعادة ترتيب أوضاع وزارات الدولة واستعادة عافيتها، راجع وزارة العدل، ليكشف عن تاريخ العقد الذي يعود إلى أكتوبر1988، ومع متابعة البحث تبيّن أن زوجة أخيه اسمها نضال، وأنها فلسطينية من مواليد الكويت عام 1970، واتصل برقم الهاتف فإذا به خارج الخدمة، وزار عنوان السكن فوجده مبنى رثًا مهجورًا بين مبانٍ مماثلة.
كانت كل هذه الذكريات يستعيدها عقله الباطن وهو مسجّى على أرض الصالة الرياضية بالمدرسة، حتى غابت الشمس وحلّ الظلام، وفيما بدأ يخرج من حالته بين الصحو والغيبوبة، كان الطلبة الذين جاؤوا عصرًا للتدرب الرياضي مساءً داخل المدرسة تتناهى أصواتهم إلى أذنيه. وهو يشاهد الطلبة يُنهُون تدريبهم ويغادرون، يلتفت إلى الصبي الذي صفعه ذلك الصباح فيناديه باسم سليمان. يستدير نحوه الصبي مستفسرًا فيشير إليه بالقدوم. يقترب منه ويصحّح له أن سليمان اسم أبيه المتوفى وليس اسمه. وفيما يتأمل وجهه يتذكّر وجه أخيه، لقد ورث كل ملامحه، ولكي يتأكد أكثر يسأله: هل اسم أمك نضال؟ فيجيبه: نعم، فيمسك بيده بقوةٍ ويسيران إلى المنزل ■