من «الشيّاح» إلى «سماء نائية» إسماعيل فهد إسماعيل الرواية توثيقًا للتاريخ

من «الشيّاح» إلى «سماء نائية»  إسماعيل فهد إسماعيل الرواية توثيقًا للتاريخ

هل‭ ‬كان‭ ‬الروائي‭ ‬الكويتي‭ ‬الكبير‭ ‬إسماعيل‭ ‬فهد‭ ‬إسماعيل‭ ‬حين‭ ‬كتب‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬الشيّاح‮»‬‭ ‬عن‭ ‬بدايات‭ ‬الحرب‭ ‬الأهلية‭ ‬في‭ ‬لبنان،‭ ‬يتخيّل‭ ‬أنه‭ ‬سيكتب‭ ‬يومًا‭ ‬عن‭ ‬حرب‭ ‬أخرى‭ ‬ستدور‭ ‬رحاها‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬بلده‭ ‬الكويت،‭ ‬بعد‭ ‬أقل‭ ‬من‭ ‬عقد‭ ‬ونصف‭ ‬العقد؟‭ ‬في‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬الأدب‭ ‬الروائي‭ ‬هناك‭ ‬توثيقٌ‭ ‬للحدث،‭ ‬وتسجيلٌ‭ ‬للتفاصيل،‭ ‬وإدانةٌ‭ ‬للجرائم‭ ‬ضد‭ ‬الإنسانية،‭ ‬والأهم‭  ‬حفظٌ‭ ‬للتأريخ‭. ‬يستهل‭ ‬إسماعيل‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬الشيّاح‮»‬‭ ‬بعبارةٍ‭ ‬يقتبسها‭ ‬من‭ ‬بريخت‭: ‬‮«‬على‭ ‬الحائط‭ ‬كتابة‭ ‬بالطباشير‭: (‬هم‭ ‬يريدون‭ ‬الحرب‭)‬،‭ ‬والذي‭ ‬كتبها‭ ‬سقط‭ ‬صريعًا‮»‬،‭ ‬راصدًا‭ ‬عذابات‭ ‬الإنسان‭ ‬البسيط،‭ ‬الذي‭ ‬يكون‭ ‬وقود‭ ‬الحرب‭ ‬وضحيتها‭ ‬الكبرى،‭ ‬نقصًا‭ ‬في‭ ‬الغذاء‭ ‬والدواء،‭ ‬وشحًا‭ ‬في‭ ‬الماء،‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬أن‭ ‬تغامر‭ ‬بدفع‭ ‬روحك‭ ‬ثمنًا‭ ‬لتأمين‭ ‬قنينة‭ ‬ماء‭ ‬لطفل‭ ‬رضيع‭.‬

في‭ ‬‮«‬الشيّاح‮»‬،‭ ‬تدور‭ ‬الأحداث‭ ‬حول‭ ‬تفاصيل‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية‭ ‬لمجموعة‭ ‬صغيرة‭ ‬من‭ ‬الناس‭ ‬البسطاء‭ ‬علقت‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬على‭ ‬خطوط‭ ‬التماس‭ ‬بين‭ ‬شطري‭ ‬العاصمة‭ ‬بيروت،‭ ‬وهي‭ ‬تكافح‭ ‬يومًا‭ ‬بعد‭ ‬يوم‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬البقاء‭. ‬أما‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬سماء‭ ‬نائية‮»‬،‭ ‬فتدور‭ ‬في‭ ‬عقل‭ ‬مدرس‭ ‬كويتي،‭ ‬علق‭ ‬في‭ ‬قاعةٍ‭ ‬رياضيةٍ‭ ‬بإحدى‭ ‬المدارس‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬الدوام‭ ‬بسبب‭ ‬مداهمة‭ ‬آلام‭ ‬الديسك‭ ‬الحادة‭ ‬التي‭ ‬تشلّه‭ ‬عن‭ ‬الحركة،‭ ‬فتغدو‭ ‬القاعة‭ ‬مسرحًا‭ ‬لاسترجاع‭ ‬ذكريات‭ ‬حياته‭ ‬وآلامه‭ ‬التي‭ ‬يحملها‭ ‬على‭ ‬ظهره‭ ‬منذ‭ ‬ثلاثين‭ ‬عامًا‭. ‬

تبدأ‭ ‬عملية‭ ‬استرجاع‭ ‬الذكريات‭ ‬بطيئةً‭ ‬هادئةً،‭ ‬ثم‭ ‬تتسارع‭ ‬بعد‭ ‬حادثةٍ‭ ‬عرَضيةٍ‭ ‬حدثت‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬اليوم‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬نقله‭ ‬إلى‭ ‬مدرسة‭ ‬أخرى‭ ‬كمدرّس‭ ‬احتياط،‭ ‬حيث‭ ‬كُلّف‭ ‬بمراقبة‭ ‬أحد‭ ‬الصفوف‭ ‬مؤقتًا‭. ‬كان‭ ‬الصف‭ ‬غارقًا‭ ‬في‭ ‬الفوضى‭ ‬والضجيج،‭ ‬فحاول‭ ‬استعادة‭ ‬الهدوء‭ ‬دون‭ ‬جدوى،‭ ‬من‭ ‬الكلمة‭ ‬الناصحة‭ ‬إلى‭ ‬رفع‭ ‬الصوت،‭ ‬وأخيرًا‭ ‬يقرّر‭ ‬إنزال‭ ‬العقاب،‭ ‬يستدعي‭ ‬أقرب‭ ‬طالب،‭ ‬ويبادره‭ ‬بصفعة‭ ‬تنطبع‭ ‬احمرارًا‭ ‬على‭ ‬خدّه،‭ ‬بينما‭ ‬جمد‭ ‬الصبي‭ ‬الذي‭ ‬أخذته‭ ‬المفاجأة‭ ‬في‭ ‬مكانه‭ ‬وعيناه‭ ‬تقولان‭ ‬احتجاجًا‭: ‬‮«‬لماذا‭ ‬أنا»؟‭ ‬ظلّ‭ ‬الصبي‭ ‬يلاحقه‭ ‬بنظرات‭ ‬الاستنكار‭ ‬والاشمئزاز‭ ‬وهو‭ ‬يحاول‭ ‬الإفلات‭ ‬منها‭.‬

ظلّ‭ ‬وجه‭ ‬الصبي‭ ‬يذكّره‭ ‬بوجه‭ ‬أخيه‭ ‬الوحيد،‭ ‬الذي‭ ‬وُلد‭ ‬بعده‭ ‬بعشرة‭ ‬أعوامٍ‭ ‬فكان‭ ‬مدلّلَ‭ ‬والديه،‭ ‬كما‭ ‬جاء‭ ‬شخصية‭ ‬مختلفة‭ ‬تمامًا‭ ‬عنه،‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬التناقض‭ ‬التام؛‭ ‬فبينما‭ ‬هو‭ ‬شخصية‭ ‬رزينة‭ ‬انطوائية‭ ‬مسالمة،‭ ‬كان‭ ‬أخوه‭ ‬منفتحًا‭ ‬حركيًا‭ ‬مشاغبًا،‭ ‬وحين‭ ‬كانت‭ ‬الأم‭ ‬تستغرب‭ ‬هذا‭ ‬التناقض‭ ‬بين‭ ‬الولدين‭ ‬يجيبها‭ ‬الأب‭: ‬‮«‬إنهما‭ ‬يكملان‭ ‬بعضهما‭ ‬البعض‮»‬‭.‬

لكن‭ ‬هذا‭ ‬التكامل‭ ‬لم‭ ‬يأتِ‭ ‬أبدًا،‭ ‬فطوال‭ ‬فترة‭ ‬طفولتهما‭ ‬حتى‭ ‬يوم‭ ‬الفراق‭ ‬الأخير‭ ‬ظل‭ ‬التناقض‭ ‬والتنافر‭ ‬يحكمان‭ ‬علاقتهما‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬شاهد‭ ‬أخاه‭ ‬يشتبك‭ ‬مع‭ ‬اثنين‭ ‬من‭ ‬أطفال‭ ‬الجيران‭ ‬ويوسعهما‭ ‬ضربًا‭. ‬حاول‭ ‬فك‭ ‬الاشتباك‭ ‬بينما‭ ‬تشبّث‭ ‬أخوه‭ ‬بذيل‭ ‬أحد‭ ‬الطفلين‭ ‬ليزيده‭ ‬ضربًا،‭ ‬فاضطر‭ ‬إلى‭ ‬إيقاف‭ ‬أخيه‭ ‬بصفعةٍ‭ ‬على‭ ‬وجهه،‭ ‬فجمد‭ ‬مكانه‭ ‬غير‭ ‬مصدّقٍ‭ ‬أن‭ ‬ينحاز‭ ‬أخوه‭ ‬الأكبر‭ ‬إلى‭ ‬خصمه‭. ‬ظلت‭ ‬هذه‭ ‬العقدة‭/ ‬القطيعة‭ ‬تحكم‭ ‬علاقتهما‭ ‬حتى‭ ‬شارف‭ ‬الصغير‭ ‬على‭ ‬العشرين‭.‬

بعد‭ ‬انتهاء‭ ‬الدوام‭ ‬تداهمه‭ ‬آلام‭ ‬الظهر‭ ‬الحادة،‭ ‬فيلجأ‭ ‬إلى‭ ‬الصالة‭ ‬الرياضية‭ ‬الخالية،‭ ‬يداري‭ ‬وضعه،‭ ‬متصبّرًا‭ ‬حتى‭ ‬تتحسن‭ ‬حالته‭ ‬فيتمكن‭ ‬من‭ ‬المغادرة،‭ ‬لكن‭ ‬هذا‭ ‬اللجوء‭ ‬يطول‭ ‬لساعات،‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬حلول‭ ‬الظلام‭.‬

خلال‭ ‬هذه‭ ‬الساعات‭ ‬ينشب‭ ‬الألم‭ ‬مخالبه‭ ‬في‭ ‬جسده‭ ‬فيشلّه‭ ‬عن‭ ‬الحركة،‭ ‬ويتمدد‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬الصالة‭ ‬المغبرّة،‭ ‬طلبًا‭ ‬لسكون‭ ‬الآلام‭. ‬وخلال‭ ‬هذه‭ ‬الساعات‭ ‬ينثال‭ ‬عليه‭ ‬شريط‭ ‬ذكريات‭ ‬حياته،‭ ‬بدءًا‭ ‬من‭ ‬وجه‭ ‬الصبي‭ ‬الذي‭ ‬صفعه‭ ‬يومها،‭ ‬متماهيًا‭ ‬مع‭ ‬وجه‭ ‬أخيه‭ ‬يوم‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬سن‭ ‬العاشرة،‭ ‬وما‭ ‬تقلبت‭ ‬به‭ ‬أحوال‭ ‬العائلة‭ ‬من‭ ‬فقدٍ‭ ‬ومصائب‭ ‬ومصاعب‭. ‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬العزلة‭/ ‬الغيبوبة‭ ‬هي‭ ‬الخلفية‭ ‬التي‭ ‬نطلّع‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬على‭ ‬مسيرة‭ ‬حياةِ‭ ‬عائلة‭ ‬كويتية‭ ‬في‭ ‬الثمانينيات،‭ ‬وما‭ ‬انتهت‭ ‬إليه‭ ‬أوضاعها‭ ‬زمن‭ ‬الاحتلال‭ ‬العراقي‭. ‬

 

زلزال‭ ‬الاحتلال

الاحتلال‭ ‬كان‭ ‬زلزالًا،‭ ‬فهو‭ ‬يعني‭ ‬التشرد‭ ‬والأحزان،‭ ‬الذهول‭ ‬والفجيعة‭ ‬من‭ ‬الفقدان،‭ ‬حزن‭ ‬عاتٍ‭ ‬جارف،‭ ‬مع‭ ‬مشاعر‭ ‬الحقد‭ ‬والكراهية‭ ‬من‭ ‬الغدر‭. ‬لقد‭ ‬تحوّلت‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية‭ ‬إلى‭ ‬جحيم‭ ‬لا‭ ‬يُطاق‭. ‬ومع‭ ‬أمٍ‭ ‬مريضةٍ‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬علاج‭ ‬دوري‭ ‬للفشل‭ ‬الكلوي‭ ‬تغدو‭ ‬مراجعة‭ ‬المستشفى‭ ‬محنةً‭ ‬كبرى،‭ ‬مع‭ ‬قرار‭ ‬قسري‭ ‬بتغيير‭ ‬الجنسية‭. ‬ومن‭ ‬حسن‭ ‬حظه‭ ‬أن‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬طبيب‭ ‬كويتي‭ ‬شاب‭ ‬كان‭ ‬الوحيد‭ ‬المتبقي‭ ‬في‭ ‬القسم‭ ‬مع‭ ‬جهازٍ‭ ‬واحدٍ‭ ‬للغسيل‭ ‬يعمل،‭ ‬حاول‭ ‬مساعدته‭ ‬بإدخال‭ ‬أمه‭ ‬للعلاج‭ ‬فورًا،‭ ‬وحين‭ ‬تم‭ ‬ترتيب‭ ‬الوضع‭ ‬لعلاجها‭ ‬غيّرت‭ ‬رأيها،‭ ‬إذ‭ ‬أرادت‭ ‬أن‭ ‬ترافقه‭ ‬إلى‭ ‬المركز‭ ‬حيث‭ ‬يتم‭ ‬استبدال‭ ‬الجنسية،‭ ‬فخاطبها‭:‬

‭- ‬تتعرضين‭ ‬للخطر؟‭ ‬

أجابت‭: ‬البلد‭ ‬كلها‭... ‬في‭ ‬خطر‭.‬

وفي‭ ‬الطريق‭ ‬تلح‭ ‬عليه‭ ‬بإعادتها‭ ‬إلى‭ ‬المنزل،‭ ‬رافضةً‭ ‬تغيير‭ ‬وثائقها‭ ‬الأصلية،‭ ‬لتذوي‭ ‬سريعًا‭ ‬بفعل‭ ‬مضاعفات‭ ‬المرض،‭ ‬وتُسلم‭ ‬الروح‭ ‬بعد‭ ‬يومين‭ ‬من‭ ‬المكوث‭ ‬الواهن‭ ‬في‭ ‬السرير‭. ‬كانت‭ ‬آخر‭ ‬وصية‭ ‬لها‭: ‬أخوك‭!‬

الأخ‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬مستهترًا‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬مراهقته‭ ‬عاش‭ ‬حياةً‭ ‬من‭ ‬الضياع‭ ‬والتفلّت،‭ ‬فدفع‭ ‬والديه‭ ‬إلى‭ ‬توبيخه‭ ‬الدائم،‭ ‬لكنه‭ ‬عدّل‭ ‬من‭ ‬سيرته‭ ‬باتباع‭ ‬تكتيك‭ ‬جديد،‭ ‬وهو‭ ‬التظاهر‭ ‬بالاستقامة‭ ‬للتغطية‭ ‬على‭ ‬الاستمرار‭ ‬في‭ ‬حياته‭ ‬السرية‭. ‬وحين‭ ‬مات‭ ‬الأب‭ ‬كان‭ ‬مختفيًا‭ ‬عن‭ ‬الأنظار،‭ ‬ولم‭ ‬يظهر‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬اليوم‭ ‬الثاني‭ ‬بالمقبرة‭ ‬قبيل‭ ‬التشييع‭ ‬بقليل،‭ ‬ودخل‭ ‬المغتسل‭ ‬ليرتمي‭ ‬على‭ ‬جثمان‭ ‬والده‭ ‬ويتعلّق‭ ‬به‭ ‬لا‭ ‬يريد‭ ‬فراقه‭. ‬وبصعوبةٍ‭ ‬استطاع‭ ‬الجيران‭ ‬إبعاده‭ ‬عن‭ ‬أبيه‭ ‬لإخراجه‭ ‬من‭ ‬الحالة‭ ‬الهيستيرية‭ ‬التي‭ ‬تهاوى‭ ‬فيها،‭ ‬وعرف‭ ‬الأخ‭ ‬الأكبر‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬برفقة‭ ‬فتاة‭ ‬شقراء‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الليلة‭.‬

هذا‭ ‬الأخ‭ ‬الأصغر،‭ ‬مع‭ ‬بداية‭ ‬الغزو‭ ‬العراقي‭ ‬للكويت‭ ‬صبيحة‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬أغسطس‭ ‬عام‭ ‬1990يختفي‭ ‬من‭ ‬البيت‭ ‬ويلتحق‭ ‬بمجموعةٍ‭ ‬من‭ ‬الشباب‭ ‬لمقاومة‭ ‬المحتل،‭ ‬حيث‭ ‬أبدى‭ ‬حماسةً‭ ‬واندفاعًا‭ ‬كبيرين،‭ ‬وفي‭ ‬أحد‭ ‬الاشتباكات‭ ‬يُصاب‭ ‬في‭ ‬فخذه‭ ‬بطلق‭ ‬ناري،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬ظلّ‭ ‬يدافع‭ ‬عن‭ ‬المجموعة‭ ‬لتأمين‭ ‬انسحابها‭ ‬أمام‭ ‬مجموعةٍ‭ ‬كبيرةٍ‭ ‬من‭ ‬الجنود‭ ‬حاصرتهم،‭ ‬وكان‭ ‬قبل‭ ‬ذلك‭ ‬يعود‭ ‬للمنزل‭ ‬مرةً‭ ‬في‭ ‬الأسبوع،‭ ‬لكنه‭ ‬بعد‭ ‬انقطاعه‭ ‬الأخير‭ ‬حاول‭ ‬الأخ‭ ‬البحث‭ ‬عنه‭ ‬فعرف‭ ‬أنه‭ ‬أدخل‭ ‬المستشفى‭ ‬للعلاج‭ ‬من‭ ‬إصابته‭.‬

في‭ ‬أحد‭ ‬تنقلاته‭ ‬القليلة‭ ‬خارج‭ ‬البيت‭ ‬يتم‭ ‬إيقاف‭ ‬المدرّس‭ ‬عند‭ ‬إحدى‭ ‬نقاط‭ ‬التفتيش،‭ ‬وتُصادر‭ ‬سيارته‭ ‬بدعوى‭ ‬مخالفته‭ ‬القرار‭ ‬الخاص‭ ‬بضرورة‭ ‬تبديل‭ ‬لوحات‭ ‬‮«‬العهد‭ ‬البائد‮»‬‭! ‬مصادرات‭ ‬السيارات‭ ‬اضطرت‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المواطنين‭ ‬الكويتيين‭ ‬لاقتناء‭ ‬الدراجات‭ ‬الهوائية‭.‬

ومع‭ ‬المكوث‭ ‬في‭ ‬البيوت‭ ‬طويلًا،‭ ‬يبدأ‭ ‬المدرّس‭ ‬في‭ ‬زراعة‭ ‬الخضراوات‭ ‬الورقية‭ ‬بأرض‭ ‬صغيرة‭ ‬ليشغل‭ ‬نفسه‭ ‬عن‭ ‬التفكير،‭ ‬بينما‭ ‬بدأ‭ ‬آخرون‭ ‬في‭ ‬تربية‭ ‬الدواجن‭ ‬لتأمين‭ ‬غذاء‭ ‬احتياطي‭ ‬فيما‭ ‬لو‭ ‬نشبت‭ ‬الحرب‭ ‬وضاقت‭ ‬السبل‭ ‬على‭ ‬البشر‭. ‬وبدأ‭ ‬آخرون‭ ‬بحفر‭ ‬آبارٍ‭ ‬في‭ ‬بيوتهم‭ ‬استعدادًا‭ ‬لانقطاع‭ ‬المياه‭. ‬وهذه‭ ‬الفترة،‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬فيها‭ ‬مراجل‭ ‬الحرب‭ ‬تغلي،‭ ‬شهدت‭ ‬أيضًا‭ ‬التهافت‭ ‬على‭ ‬شراء‭ ‬السرج‭ ‬الزيتية‭ ‬والشموع‭ ‬والفحم‭ ‬استعدادًا‭ ‬لانقطاع‭ ‬الكهرباء‭ ‬والبطاريات‭ ‬الجافة‭ ‬ليضمنوا‭ ‬استمرار‭ ‬متابعة‭ ‬أخبار‭ ‬الإذاعات‭.‬

ويظلّ‭ ‬يؤرقه‭ ‬مصير‭ ‬أخيه،‭ ‬استشعارًا‭ ‬للمسؤولية‭ ‬تجاه‭ ‬وصية‭ ‬أمه‭ ‬الأخيرة،‭ ‬فيلجأ‭ ‬إلى‭ ‬أحد‭ ‬الضباط،‭ ‬الذي‭ ‬أبدى‭ ‬بعض‭ ‬التعاطف‭ ‬أثناء‭ ‬تفتيش‭ ‬منزلهم‭. ‬لكن‭ ‬المشكلة‭ ‬أن‭ ‬الأخ‭ ‬المعتقل‭ ‬متهمٌ‭ ‬بقضية‭ ‬كبرى‭: ‬جرائم‭ ‬إرهابية‭ ‬مرتبطة‭ ‬بالقتل،‭ ‬ثم‭ ‬إنه‭ ‬في‭ ‬قبضة‭ ‬المخابرات،‭ ‬لكن‭ ‬الضابط‭ ‬وعده‭ ‬ببذل‭ ‬جهده‭ ‬لمعرفة‭ ‬مصير‭ ‬أخيه‭ ‬خلال‭ ‬أسبوع‭. ‬بعد‭ ‬أيام،‭ ‬زاره‭ ‬الضابط‭ ‬ليلًا‭ ‬ليخبره‭ ‬بنقله‭ ‬إلى‭ ‬موقع‭ ‬عمل‭ ‬آخر،‭ ‬وأن‭ ‬أخاه‭ ‬نقل‭ ‬إلى‭ ‬معتقل‭ ‬ثانٍ‭: ‬‮«‬المشاتل‮»‬،‭ ‬وهو‭ ‬مكان‭ ‬آمن‭ ‬لاختفائه‭ ‬بين‭ ‬الأشجار،‭ ‬خُصّص‭ ‬للإرهابيين‭ ‬الخطرين،‭ ‬وعن‭ ‬يساره‭ ‬الضابط‭ ‬العراقي‭: ‬هل‭ ‬أنت‭ ‬مستعد‭ ‬لأن‭ ‬تشتريه؟‭ ‬

‭- ‬والمقابل؟‭ ‬

‭- ‬خمسة‭ ‬آلاف‭ ‬دينار‭. ‬

وعندما‭ ‬يستثقل‭ ‬المبلغ‭ ‬لعدم‭ ‬توفره‭ ‬لديه،‭ ‬يردّ‭ ‬عليه‭: ‬أنتم‭ ‬الكويتيون‭ ‬تدبّرونها‭. ‬

كان‭ ‬المبلغ‭ ‬فوق‭ ‬طاقته،‭ ‬وعاد‭ ‬إلى‭ ‬المنزل‭ ‬ليفكّر‭ ‬في‭ ‬تقديمه‭ ‬لليوم‭ ‬التالي‭ ‬طمعًا‭ ‬في‭ ‬افتداء‭ ‬أخيه،‭ ‬فالموجود‭ ‬800‭ ‬دينار‭ ‬فقط،‭ ‬هي‭ ‬ما‭ ‬تبقّى‭ ‬من‭ ‬مبلغ‭ ‬ألف‭ ‬دينار،‭ ‬تسلّمته‭ ‬أمه‭ ‬سابقًا‭ ‬من‭ ‬رجل‭ ‬ملثم،‭ ‬قال‭ ‬إنه‭ ‬‮«‬من‭ ‬حكومتنا‭ ‬في‭ ‬السعودية‮»‬‭. ‬فكّر‭ ‬في‭ ‬بيع‭ ‬الأجهزة‭ ‬المنزلية،‭ ‬فاكتشف‭ ‬أن‭ ‬حصيلتها‭ ‬كلها‭ ‬لن‭ ‬تتجاوز‭ ‬ألف‭ ‬دينار،‭ ‬فما‭ ‬العمل؟

اتجه‭ ‬تفكيره‭ ‬نحو‭ ‬ما‭ ‬تركته‭ ‬أمه‭ ‬من‭ ‬مقتنيات،‭ ‬وخفّف‭ ‬من‭ ‬شعوره‭ ‬بالذنب‭ ‬أنه‭ ‬إنّما‭ ‬ينفّذ‭ ‬وصيتها‭ ‬ويحقق‭ ‬رغبتها‭ ‬في‭ ‬الاهتمام‭ ‬بأخيه‭. ‬وبالفعل‭ ‬تكفّلت‭ ‬مصوغات‭ ‬أمه‭ ‬بتوفير‭ ‬المبلغ‭ ‬المطلوب‭. ‬وحين‭ ‬حمل‭ ‬المبلغ‭ ‬إلى‭ ‬الضابط‭ ‬في‭ ‬اليوم‭ ‬التالي‭ ‬لاحظ‭ ‬تلكؤه،‭ ‬فخالطه‭ ‬الشك‭ ‬في‭ ‬نواياه،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬أمامه‭ ‬من‭ ‬خيار‭ ‬غير‭ ‬الاستمرار‭ ‬في‭ ‬لعبة‭ ‬المفاوضة،‭ ‬ليُفاجَأ‭ ‬بطلب‭ ‬مبلغ‭ ‬ألف‭ ‬دينار‭ ‬أخرى،‭ ‬قائلًا‭: ‬‮«‬اعتبرها‭ ‬أتعابًا‭ ‬إضافية‮»‬‭! ‬ويتساءل‭ ‬مع‭ ‬نفسه‭: ‬‮«‬هل‭ ‬هذا‭ ‬الجيش‭ ‬مؤهلٌ‭ ‬أن‭ ‬يحارب‭ ‬ويصمد‭ ‬فعلًا»؟‭ ‬فهو‭ ‬جيشٌ‭ ‬متهاو‭ ‬من‭ ‬الداخل،‭ ‬يتوسل‭ ‬الرشوة‭ ‬والمال‭ ‬والابتزاز‭. ‬

في‭ ‬الصباح،‭ ‬حين‭ ‬يذهب‭ ‬بالمبلغ‭ ‬الإضافي‭ ‬المطلوب‭ ‬يُفاجأ‭ ‬بحشود‭ ‬عسكرية‭ ‬لم‭ ‬يشاهدها‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬ومُنع‭ ‬من‭ ‬دخول‭ ‬المعسكر،‭ ‬فظنّ‭ ‬أنهم‭ ‬ينقلون‭ ‬الأسرى‭ ‬الكويتيين،‭ ‬وعاد‭ ‬أدراجه‭ ‬إلى‭ ‬البيت‭ ‬خائبًا‭ ‬مهمومًا‭. ‬وفي‭ ‬العصر‭ ‬طرق‭ ‬بابه‭ ‬أحد‭ ‬الجيران‭ ‬ليدعوه‭ ‬للذهاب‭ ‬إلى‭ ‬المقبرة‭ ‬لمشاركتهم‭ ‬في‭ ‬واجب‭ ‬دفن‭ ‬الشهداء،‭ ‬ليُفاجأ‭ ‬بأن‭ ‬أخاه‭ ‬من‭ ‬بينهم‭. ‬لقد‭ ‬كان‭ ‬فعل‭ ‬غدرٍ‭ ‬يمثل‭ ‬جوهر‭ ‬نظام‭ ‬الديكتاتور‭.‬

كان‭ ‬الشهداء‭ ‬من‭ ‬النساء‭ ‬والرجال،‭ ‬وكذلك‭ ‬كان‭ ‬الحضور‭ ‬في‭ ‬المقبرة‭ ‬التي‭ ‬يلفها‭ ‬الصمت‭ ‬والحزن‭. ‬وطلب‭ ‬إلقاء‭ ‬نظرةٍ‭ ‬أخيرةٍ‭ ‬على‭ ‬أخيه،‭ ‬وبعد‭ ‬تردّدٍ‭ ‬سمح‭ ‬له‭ ‬جاره‭ ‬بالاقتراب،‭ ‬وبمجرد‭ ‬الكشف‭ ‬عن‭ ‬وجه‭ ‬أخيه‭ ‬صدمه‭ ‬منظر‭ ‬الرأس‭ ‬المهشّم،‭ ‬فسقط‭ ‬غائبًا‭ ‬عن‭ ‬الوعي‭. ‬وحين‭ ‬أفاق‭ ‬تساءل‭: ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬دعاهم‭ ‬للتمثيل‭ ‬بالجثث؟‭ ‬هؤلاء‭ ‬يُفترض‭ ‬أنهم‭ ‬أسرى‭ ‬حرب‭. ‬

كان‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬اليوم‭ ‬الأخير‭ ‬من‭ ‬المهلة‭ ‬التي‭ ‬قرّرها‭ ‬مجلس‭ ‬الأمن‭ ‬للانسحاب‭ ‬من‭ ‬الكويت،‭ ‬وتحت‭ ‬ضغوط‭ ‬الخوف‭ ‬من‭ ‬انطلاق‭ ‬الحرب‭ ‬في‭ ‬أية‭ ‬لحظة‭ ‬أقدم‭ ‬الجيش‭ ‬المحتل‭ ‬على‭ ‬تصفية‭ ‬الأسرى‭. ‬وهمس‭ ‬له‭ ‬صديقه‭ ‬مواسيًا‭: ‬‮«‬هم‭ ‬ما‭ ‬زالوا‭ ‬يمارسون‭ ‬نهجهم‭ ‬ذاته‭ ‬مع‭ ‬المعارضين‭ ‬من‭ ‬مواطنيهم‮»‬‭. ‬وفي‭ ‬حالةٍ‭ ‬يُرثى‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬الانفعال‭ ‬والتمزّق‭ ‬الداخلي‭ ‬يقرّر‭ ‬أن‭ ‬يلتحق‭ ‬بالمتطوّعين،‭ ‬فيردّ‭ ‬عليه‭: ‬‮«‬أنت‭ ‬متعَبٌ‭ ‬كفايةً‮»‬‭! ‬

كان‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬الداخل‭ ‬يتحرّقون‭ ‬شوقًا‭ ‬لنشوب‭ ‬الحرب،‭ ‬أملًا‭ ‬في‭ ‬الخلاص‭ ‬من‭ ‬براثن‭ ‬الاحتلال‭. ‬ومع‭ ‬نهاية‭ ‬مهلة‭ ‬مجلس‭ ‬الأمن،‭ ‬عند‭ ‬انتصاف‭ ‬ليل‭ ‬السادس‭ ‬عشر‭ ‬من‭ ‬يناير،‭ ‬وبينما‭ ‬كان‭ ‬مستلقيًا‭ ‬بين‭ ‬اليقظة‭ ‬والمنام،‭ ‬يسمع‭ ‬أصوات‭ ‬الطائرات‭ ‬المغيرة،‭ ‬فيخرج‭ ‬ركضًا‭ ‬إلى‭ ‬السطح،‭ ‬ناسيًا‭ ‬كل‭ ‬آلام‭ ‬ظهره،‭ ‬ليشاهد‭ ‬الطائرات‭ ‬تغطّي‭ ‬السماء،‭ ‬ويصعد‭ ‬الجيران‭ ‬إلى‭ ‬أسطح‭ ‬المنازل‭ ‬ليطلقوا‭ ‬صيحات‭ ‬الفرح‭ ‬انتظارًا‭ ‬للخلاص‭.‬

كان‭ ‬ظنّ‭ ‬عامة‭ ‬الكويتيين‭ ‬في‭ ‬الداخل‭ ‬أن‭ ‬بدء‭ ‬الحرب‭ ‬يعني‭ ‬انتهاء‭ ‬أزمتهم‭ ‬خلال‭ ‬ساعات،‭ ‬لكن‭ ‬الساعات‭ ‬طالت‭ ‬إلى‭ ‬أيامٍ‭ ‬وأسابيع‭. ‬في‭ ‬البداية‭ ‬استمرت‭ ‬المضادات‭ ‬الأرضية‭ ‬في‭ ‬الردّ‭ ‬على‭ ‬الطائرات‭ ‬لكنها‭ ‬خمدت‭ ‬بعد‭ ‬أيام،‭ ‬بينما‭ ‬استمر‭ ‬الإعلام‭ ‬البعثي‭ ‬يردّد‭: ‬‮«‬الحرب‭ ‬الجوية‭ ‬هي‭ ‬حرب‭ ‬الجبناء‮»‬،‭ ‬وأنهم‭ ‬‮«‬مصممون‭ ‬على‭ ‬خوض‭ ‬غمار‭ ‬أم‭ ‬المعارك‭ ‬حتى‭ ‬آخر‭ ‬جندي‮»‬‭. ‬

 

بداية‭ ‬النهاية‭ ‬للمحتل

عقب‭ ‬ندرة‭ ‬الغذاء‭ ‬والأدوية‭ ‬وانقطاع‭ ‬الكهرباء‭ ‬والهاتف،‭ ‬بدأ‭ ‬جيش‭ ‬الاحتلال‭ ‬يأسر‭ ‬من‭ ‬يخرجون‭ ‬من‭ ‬بيوتهم‭ ‬وسوقهم‭ ‬إلى‭ ‬مراكز‭ ‬تجميع،‭ ‬وإرسالهم‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬وراء‭ ‬الحدود‭. ‬كانت‭ ‬الهزيمة‭ ‬تلوح‭ ‬في‭ ‬الأفق،‭ ‬وبدأ‭ ‬الانسحاب‭ ‬وتحرّرت‭ ‬الكويت‭. ‬وتحوّلت‭ ‬الأيام‭ ‬التالية‭ ‬إلى‭ ‬ظلامٍ‭ ‬دامسٍ‭ ‬في‭ ‬النهار‭ ‬بفعل‭ ‬الدخان‭ ‬الكثيف‭ ‬بعد‭ ‬تفجير‭ ‬مئات‭ ‬الآبار‭ ‬النفطية‭ ‬التي‭ ‬استغرق‭ ‬إخمادها‭ ‬تسعة‭ ‬أشهر،‭ ‬بينما‭ ‬لم‭ ‬يدم‭ ‬الاحتلال‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬سبعة‭ ‬أشهر‭. ‬إن‭ ‬رائحة‭ ‬الحرب‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬لتطول‭ ‬المعتدي‭ ‬وحده،‭ ‬فطرفا‭ ‬الحرب‭ - ‬بشكل‭ ‬أو‭ ‬بآخر‭- ‬خاسران‭. ‬

ظلّ‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬لغز‭ ‬أخيه‭ ‬الذي‭ ‬لمّح‭ ‬جنديٌ‭ ‬إلى‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬سينقل‭ ‬رسالةً‭ ‬منه‭ ‬إلى‭ ‬زوجته‭: ‬هل‭ ‬كان‭ ‬أخوه‭ ‬متزوجًا‭ ‬بالسر؟‭ ‬وما‭ ‬يترتب‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬مسؤولية‭ ‬تجاه‭ ‬أرملته‭. ‬ظلّ‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬خيطٍ‭ ‬بشأن‭ ‬زواج‭ ‬أخيه‭ ‬لمدة‭ ‬عامين،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬جرت‭ ‬عملية‭ ‬إعادة‭ ‬ترتيب‭ ‬أوضاع‭ ‬وزارات‭ ‬الدولة‭ ‬واستعادة‭ ‬عافيتها،‭ ‬راجع‭ ‬وزارة‭ ‬العدل،‭ ‬ليكشف‭ ‬عن‭ ‬تاريخ‭ ‬العقد‭ ‬الذي‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬أكتوبر1988،‭ ‬ومع‭ ‬متابعة‭ ‬البحث‭ ‬تبيّن‭ ‬أن‭ ‬زوجة‭ ‬أخيه‭ ‬اسمها‭ ‬نضال،‭ ‬وأنها‭ ‬فلسطينية‭ ‬من‭ ‬مواليد‭ ‬الكويت‭ ‬عام‭ ‬1970،‭ ‬واتصل‭ ‬برقم‭ ‬الهاتف‭ ‬فإذا‭ ‬به‭ ‬خارج‭ ‬الخدمة،‭ ‬وزار‭ ‬عنوان‭ ‬السكن‭ ‬فوجده‭ ‬مبنى‭ ‬رثًا‭ ‬مهجورًا‭ ‬بين‭ ‬مبانٍ‭ ‬مماثلة‭.‬

كانت‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الذكريات‭ ‬يستعيدها‭ ‬عقله‭ ‬الباطن‭ ‬وهو‭ ‬مسجّى‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬الصالة‭ ‬الرياضية‭ ‬بالمدرسة،‭ ‬حتى‭ ‬غابت‭ ‬الشمس‭ ‬وحلّ‭ ‬الظلام،‭ ‬وفيما‭ ‬بدأ‭ ‬يخرج‭ ‬من‭ ‬حالته‭ ‬بين‭ ‬الصحو‭ ‬والغيبوبة،‭ ‬كان‭ ‬الطلبة‭ ‬الذين‭ ‬جاؤوا‭ ‬عصرًا‭ ‬للتدرب‭ ‬الرياضي‭ ‬مساءً‭ ‬داخل‭ ‬المدرسة‭ ‬تتناهى‭ ‬أصواتهم‭ ‬إلى‭ ‬أذنيه‭. ‬وهو‭ ‬يشاهد‭ ‬الطلبة‭ ‬يُنهُون‭ ‬تدريبهم‭ ‬ويغادرون،‭ ‬يلتفت‭ ‬إلى‭ ‬الصبي‭ ‬الذي‭ ‬صفعه‭ ‬ذلك‭ ‬الصباح‭ ‬فيناديه‭ ‬باسم‭ ‬سليمان‭. ‬يستدير‭ ‬نحوه‭ ‬الصبي‭ ‬مستفسرًا‭ ‬فيشير‭ ‬إليه‭ ‬بالقدوم‭. ‬يقترب‭ ‬منه‭ ‬ويصحّح‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬سليمان‭ ‬اسم‭ ‬أبيه‭ ‬المتوفى‭ ‬وليس‭ ‬اسمه‭. ‬وفيما‭ ‬يتأمل‭ ‬وجهه‭ ‬يتذكّر‭ ‬وجه‭ ‬أخيه،‭ ‬لقد‭ ‬ورث‭ ‬كل‭ ‬ملامحه،‭ ‬ولكي‭ ‬يتأكد‭ ‬أكثر‭ ‬يسأله‭: ‬هل‭ ‬اسم‭ ‬أمك‭ ‬نضال؟‭ ‬فيجيبه‭: ‬نعم،‭ ‬فيمسك‭ ‬بيده‭ ‬بقوةٍ‭ ‬ويسيران‭ ‬إلى‭ ‬المنزل‭ ‬■