بريس داڤن «إدريس أفندي» فرنسي عشق مصر وأرّخ لآثارها

بريس داڤن «إدريس أفندي» فرنسي عشق مصر وأرّخ لآثارها

تناولت‭ ‬المراجعُ‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬علم‭ ‬الآثار‭ ‬وتاريخ‭ ‬مصر‭ ‬بالدراسة‭ ‬والتبجيل‭ ‬سيرَ‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬علماء‭ ‬المصريات‭ ‬والآثار‭ ‬الإسلامية‭ ‬والقبطية‭ ‬من‭ ‬الأوربيين‭ ‬والأمريكيين
وما‭ ‬أضافوه‭ ‬من‭ ‬المعرفة‭ ‬التاريخية‭ ‬والأثرية‭ ‬والجغرافية،‭ ‬لكن‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬بينهم‭ ‬مَن‭ ‬قام‭ ‬بجهودٍ‭ ‬رائدة‭ ‬ومضنية‭ ‬في‭ ‬البحث‭ ‬في‭ ‬آثار‭ ‬مصر‭ ‬وتاريخها‭ ‬وجُحِد‭ ‬حقه‭ ‬في‭ ‬الذكر‭ ‬والدراسة‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬نفسها،‭ ‬منهم‭ ‬إيميل‭ ‬بريس‭ ‬داڤنّ؛‭ ‬ذلك‭ ‬الفرنسي‭ ‬الذي‭ ‬أطلق‭ ‬عليه‭ ‬الدكتور‭ ‬أنور‭ ‬لوقا‭ ‬أنه‭ ‬‮«‬مؤرخ‭ ‬أهمله‭ ‬التاريخ‮»‬،‭ ‬وكذلك‭ ‬المؤرخ‭ ‬الفرنسي‭ ‬كاريه‭ ‬الذي‭ ‬قال‭ ‬عنه‭ ‬إنه‭ ‬في‭ ‬نظر‭ ‬المثقفين‭ ‬الفرنسيين‭ ‬‮«‬مجرد‭ ‬اسم‭ ‬لا‭ ‬مكان‭ ‬له‭ ‬بين‭ ‬الأسماء‭ ‬الرنانة‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬علم‭ ‬المصريات‮»‬،‭ ‬رغم‭ ‬أنه‭ ‬جاب‭ ‬مصر‭ ‬من‭ ‬الإسكندرية‭ ‬حتى‭ ‬أعالي‭ ‬النيل،‭ ‬ووثّق‭ ‬آثار‭ ‬مصر‭ ‬الإسلامية‭ ‬والفرعونية‭ ‬في‭ ‬سجلين‭ ‬فريدين‭ ‬كفيلين‭ ‬أن‭ ‬يخلّدا‭ ‬اسمه‭ ‬في‭ ‬علم‭ ‬الآثار‭.  ‬وتنشر‭ ‬مجلة‭ ‬العربي‭ ‬هذه‭ ‬النبذة‭ ‬عنه‭ ‬في‭ ‬ذكرى‭ ‬ميلاده‭ ‬واعترافًا‭ ‬بفضله‭ ‬ولتعريف‭ ‬القارئ‭ ‬العربي‭ ‬به‭. ‬

ولد‭ ‬ايميل‭ ‬بريس‭ ‬داڤن‭ ‬في‭ ‬فرنسا‭ ‬في‭ ‬27‭ ‬يناير‭ ‬عام‭ ‬1807‭ ‬ودرس‭ ‬الهندسة‭ ‬في‭ ‬المدرسة‭ ‬الفرنسية‭ ‬الملكية‭ ‬للفنون‭ ‬والصنائع‭. ‬وفي‭ ‬عام‭ ‬1827‭ ‬انتقل‭ ‬إلى‭ ‬مصر؛‭ ‬حيث‭ ‬عمل‭ ‬مهندسًا‭ ‬للري‭ ‬في‭ ‬حكومة‭ ‬محمد‭ ‬علي،‭ ‬ومربيًا‭ ‬لأبناء‭ ‬ابراهيم‭ ‬باشا‭ ‬نجل‭ ‬محمد‭ ‬علي،‭ ‬وأستاذًا‭ ‬للطبوغرافيا‭ ‬في‭ ‬مدرسة‭ ‬أركان‭ ‬الحرب‭ ‬بالخانكة،‭ ‬ثم‭ ‬نُقل‭ ‬إلى‭ ‬دمياط‭ ‬أستاذًا‭ ‬للتحصينات‭ ‬في‭ ‬مدرسة‭ ‬المشاة‭ ‬وبذل‭ ‬نفسه‭ ‬للمرضى‭ ‬في‭ ‬وباءي‭ ‬الكوليرا‭ ‬والطاعون‭ ‬عام‭ ‬1831‭ ‬و1834؛‭ ‬حيث‭ ‬خالط‭ ‬الشعب‭ ‬البائس‭ ‬وفهم‭ ‬نفوس‭ ‬المصريين‭ ‬ولمس‭ ‬تحت‭ ‬الأسمال‭ ‬التي‭ ‬ألقاها‭ ‬عليهم‭ ‬الحاضر‭ ‬الوخِم‭ ‬تلك‭ ‬الصفات‭ ‬الكريمة‭ ‬العريقة‭ ‬التي‭ ‬سجلتها‭ ‬حضارتهم‭ ‬من‭ ‬قديم‭ ‬الزمن،‭ ‬فتعمق‭ ‬في‭ ‬مجتمع‭ ‬المصريين‭ ‬ودرس‭ ‬تفاصيل‭ ‬حياتهم‭ ‬وأتقن‭ ‬لغتهم،‭ ‬ودعاه‭ ‬الجميع‭ ‬باسمه‭ ‬الذي‭ ‬تحول‭ ‬بعد‭ ‬إعلان‭ ‬إسلامه،‭ ‬من‭ ‬بريس‭ ‬إلى‭ (‬إدريس‭ ‬أفندي‭). ‬

تعد‭ ‬تلك‭ ‬السنوات‭ ‬من‭ ‬حياته‭ (‬1834-1831‭) ‬سنوات‭ ‬تعلم‭ ‬وتأمل‭ ‬واعتكاف،‭ ‬فقد‭ ‬اتجه‭ ‬فيها‭ ‬هذا‭ ‬المهندس‭ ‬إلى‭ ‬دراسة‭ ‬الآثار‭ ‬والمعمار‭ ‬العربي‭ ‬والفرعوني‭ ‬وصار‭ ‬ضليعًا‭ ‬في‭ ‬علم‭ ‬المصريات،‭ ‬وثابر‭ ‬في‭ ‬تعلم‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬بلهجاتها‭ ‬وفك‭ ‬شفرة‭ ‬اللغة‭ ‬الهيروغليفية،‭ ‬وعندما‭ ‬استشعر‭ ‬نفسه‭ ‬مستعدًا‭ ‬بالقدر‭ ‬الكافي‭ ‬لدراستها‭ ‬العملية‭ ‬الحقلية،‭ ‬ترك‭ ‬وظيفته‭ ‬ونال‭ ‬حريته‭ ‬من‭ ‬قيودها‭ ‬والتزاماتها‭. ‬

قدم‭ ‬بريس‭ ‬استقالته‭ ‬عام‭ ‬1836‭ ‬ليتفرغ‭ ‬لدراسة‭ ‬تاريخ‭ ‬هذا‭ ‬المجتمع؛‭ ‬فانتقل‭ ‬بين‭ ‬الفلاحين‭ ‬من‭ ‬قرية‭ ‬إلى‭ ‬قرية،‭ ‬ومن‭ ‬الدلتا‭ ‬إلى‭ ‬الصعيد،‭ ‬ومن‭ ‬الصعيد‭ ‬إلى‭ ‬النوبة،‭ ‬حتى‭ ‬وصل‭ ‬إلى‭ ‬بوابة‭ ‬معبد‭ ‬أبو‭ ‬سنبل‭ ‬الرائعة‭. ‬وكانت‭ ‬أولى‭ ‬دراساته‭ ‬المجتمعية‭ ‬والأثرية‭ ‬رحلته‭ ‬الأثرية‭ ‬في‭ ‬الجزء‭ ‬الشرقي‭ ‬من‭ ‬دلتا‭ ‬النيل،‭ ‬حيث‭ ‬نشر‭ ‬ما‭ ‬كتبه‭ ‬عنها‭ ‬في‭ ‬المجلد‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬مجلة‭ ‬‮«‬مقالات‭ ‬عن‭ ‬مصر‭ ‬‭ ‬Miscellanea‭ ‬Aegyptiaca‮»‬،‭ ‬وهو‭ ‬نصٌ‭ ‬شديد‭ ‬الندرة‭ ‬يشي‭ ‬بما‭ ‬لدى‭ ‬هذا‭ ‬البحاثة‭ ‬والرحالة‭ ‬الشاب‭ ‬ذي‭ ‬التسعة‭ ‬والعشرين‭ ‬عامًا‭ ‬من‭ ‬معلومات‭ ‬غزيرة‭ ‬وملاحظة‭ ‬دقيقة‭ ‬للعادات‭ ‬والتقاليد‭ ‬العربية‭ ‬وأسلوب‭ ‬تصويري‭ ‬ينبض‭ ‬بالحياة‭. ‬وقد‭ ‬أدت‭ ‬أبحاثه‭ ‬في‭ ‬الفترة‭ ‬من‭ ‬1843‭ - ‬1839‭ ‬إلى‭ ‬نتائج‭ ‬يعرف‭ ‬مؤرخو‭ ‬الآثار‭ ‬أهميتها،‭ ‬وكان‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬لاحظ‭ ‬ورسَم‭ ‬النقوش‭ ‬الممتازة‭ ‬الفريدة‭ ‬المنحوتة‭ ‬على‭ ‬أعمدة‭ ‬‮«‬حور‭ ‬محب‮»‬‭ ‬من‭ ‬عهد‭ ‬أخناتون‭ ‬بالكرنك،‭ ‬كما‭ ‬أنه‭ ‬تولى‭ ‬نزع‭ ‬الركام‭ ‬عن‭ ‬معبد‭ ‬خونسو‭ ‬بالأقصر‭ ‬وأظهر‭ ‬إلى‭ ‬الوجود‭ ‬اثنتي‭ ‬عشرة‭ ‬غرفة‭ ‬منه،‭ ‬وهو‭ ‬عملٌ‭ ‬يكفي‭ ‬أن‭ ‬يسجل‭ ‬اسمَه‭ ‬في‭ ‬ميدان‭ ‬علم‭ ‬المصريات‭. ‬

سافر‭ ‬بريس‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬فرنسا‭ ‬ثم‭ ‬عاد‭ ‬إلى‭ ‬مصر‭ ‬عام‭ ‬1858‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬سعيد‭ ‬باشا،‭ ‬فيجوب‭ ‬مصر‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬مسجلًا‭ ‬مشاهداته‭ ‬وملاحظًا‭ ‬ومصورًا‭ ‬المعالم‭ ‬والآثار‭ ‬بالآلة‭ ‬الفوتوغرافية‭ ‬أو‭ ‬راسمًا‭ ‬إياها‭ ‬بقلمه‭ ‬وألوانه‭ ‬أو‭ ‬صانعًا‭ ‬لها‭ ‬قوالب‭ ‬متقنة،‭ ‬حتى‭ ‬اجتمع‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬كله‭ ‬محصول‭ ‬ثمين‭ ‬من‭ ‬المعلومات‭ ‬الجغرافية‭ ‬والبشرية‭ ‬والتاريخية‭ ‬والفنية‭ ‬واللغوية‭ ‬والاجتماعية‭. ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬داڤن‭ ‬قد‭ ‬اقتصر‭ ‬فقط‭ ‬على‭ ‬الكشف‭ ‬عن‭ ‬روائع‭ ‬الفن‭ ‬والهندسة‭ ‬المعمارية‭ ‬الفرعونية،‭ ‬بل‭ ‬امتد‭ ‬مجهوده‭ ‬إلى‭ ‬آثار‭ ‬الحضارة‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬مصر،‭ ‬وكان‭ ‬نتيجة‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬نشر‭ ‬بالفرنسية‭ ‬كتبه‭ ‬المصورة‭: ‬‮«‬الآثار‭ ‬المصرية‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬يضم‭ ‬خمسين‭ ‬لوحة‭ ‬من‭ ‬القطع‭ ‬الكبير‭ ‬للآثار‭ ‬الفرعونية‭ ‬في‭ ‬وادي‭ ‬النيل،‭ ‬و«تاريخ‭ ‬الفن‭ ‬المصري‭ ‬من‭ ‬أقدم‭ ‬العصور‭ ‬حتى‭ ‬الحكم‭ ‬الروماني‮»‬‭ ‬وهو‭ ‬أطلس‭ ‬رائع‭ ‬يضم‭ ‬في‭ ‬مجلدين‭ ‬160‭ ‬لوحة‭ ‬من‭ ‬القطع‭ ‬الكبير،‭ ‬و«الفن‭ ‬العربي‭ ‬مأخوذًا‭ ‬من‭ ‬آثار‭ ‬القاهرة‭ ‬منذ‭ ‬القرن‭ ‬السابع‭ ‬الميلادي‭ ‬حتى‭ ‬نهاية‭ ‬القرن‭ ‬الثامن‭ ‬عشر‮»‬،‭ ‬وهو‭ ‬أطلس‭ ‬من‭ ‬ثلاثة‭ ‬مجلدات‭ ‬بها‭ ‬مئتا‭ ‬لوحة‭ ‬ملونة‭ ‬من‭ ‬القَطع‭ ‬الكبير‭ ‬وقد‭ ‬طبعت‭ ‬الجامعة‭ ‬الأمريكية‭ ‬بالقاهرة‭ ‬الكتابين‭ ‬الأخيرين‭ ‬في‭ ‬مجلدين‭ ‬باللغة‭ ‬الإنجليزية‭ ‬يمكن‭ ‬للقارئ‭ ‬مطالعتهما‭ ‬هناك،‭ ‬وكلها‭ ‬أعمال‭ ‬يصعب‭ ‬العثور‭ ‬عليها‭ ‬في‭ ‬يومنا‭ ‬هذا‭ ‬ولا‭ ‬غنى‭ ‬لعالم‭ ‬الآثار‭ ‬والمصريات‭ ‬عنها،‭ ‬فكثير‭ ‬منها‭ ‬قد‭ ‬تهدَّم‭ ‬أو‭ ‬انمحى‭ ‬بفعل‭ ‬الزمن‭.  ‬وقد‭ ‬قال‭ ‬الأثري‭ ‬الفرنسي‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬معلقًا‭ ‬على‭ ‬أعمال‭ ‬بريس‭ ‬داڤن‭: ‬‮«‬لم‭ ‬يتم‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬تفسير‭ ‬الفن‭ ‬المصري‭ ‬والعربي‭ ‬بهذه‭ ‬الروعة‮»‬‭. ‬كما‭ ‬نشر‭ ‬داڤن‭ ‬في‭ ‬لندن‭ ‬بالاشتراك‭ ‬مع‭ ‬المستشرق‭ ‬البريطاني‭ ‬جيمس‭ ‬أوغسطوس‭ ‬سانت‭ ‬جون‭ ‬عام‭ ‬1848‭ ‬كتابه‭ ‬النادر‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يذكر‭ ‬مؤرخو‭ ‬الفنون‭ ‬عنه‭ ‬شيئًا‭: ‬‮«‬الألبوم‭ ‬الشرقي‮»‬،‭ ‬وهو‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬32‭ ‬لوحة‭ ‬بالألوان‭ ‬رسمها‭ ‬عن‭ ‬حياة‭ ‬المصريين‭ ‬والنوبيين‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر،‭ ‬سجَّل‭ ‬فيها‭ ‬أهم‭ ‬مظاهر‭ ‬الحياة‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬من‭ ‬الإسكندرية‭ ‬حتى‭ ‬إثيوبيا،‭ ‬مع‭ ‬شرح‭ ‬تلك‭ ‬اللوحات‭ ‬للقارئ‭ ‬الأوربي،‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬منه‭ ‬سجلًا‭ ‬تاريخيًا‭ ‬فنيًا‭ ‬جميلًا‭ ‬عن‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬وادي‭ ‬النيل‭ ‬إبان‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭. ‬أما‭ ‬متحف‭ ‬اللوفر‭ ‬فيدين‭ ‬له‭ ‬بنقل‭ ‬غرفة‭ ‬الملوك‭ ‬بالكرنك‭ ‬من‭ ‬الأقصر‭ ‬إلى‭ ‬باريس،‭ ‬وهي‭ ‬أثرٌ‭ ‬يعادل‭ ‬في‭ ‬أهميته‭ ‬بردية‭ ‬تورين‭ ‬وجداول‭ ‬معبد‭ ‬أبيدوس‭. ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الأعمال‭ ‬تشكل‭ ‬أسبابًا‭ ‬لا‭ ‬تنضب‭ ‬لعرفان‭ ‬العالم‭ ‬المتحضر‭ ‬له،‭ ‬فاسم‭ ‬بريس‭ ‬داڤن‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يُخلد‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬أسماء‭ ‬شامبليون‭ ‬ومارييت‭ ‬وماسبيرو‭ ‬في‭ ‬ميدان‭ ‬التاريخ‭ ‬المصري‭ ‬القديم‭ ‬والحديث‭.‬

ويقول‭ ‬المؤرخ‭ ‬والأثري‭ ‬الفرنسي‭ ‬جان‭ ‬ماري‭ ‬كاريه‭: ‬‮«‬قبل‭ ‬بريس‭ ‬داڤن،‭ ‬كان‭ ‬الفن‭ ‬الفرعوني‭ ‬بالنسبة‭ ‬للجميع‭ ‬فنًا‭ ‬هندسيًّا‭ ‬ومعماريًّا‭ ‬مؤلفًا‭ ‬من‭ ‬الخطوط‭ ‬والمقاييس‭ ‬والأحجام‭. ‬وبقدوم‭ ‬داڤن‭ ‬دبت‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مكونات‭ ‬هذا‭ ‬الفن‭ .‬كانت‭ ‬علوم‭ ‬الآثار‭ ‬المصرية‭ ‬بعد‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬وصف‭ ‬مصر‮»‬‭ ‬والعالم‭ ‬شامبليون‭ ‬في‭ ‬انتظار‭ ‬فنان،‭ ‬وقد‭ ‬وجدته‭ ‬مع‭ ‬بريس‭ ‬داڤن،‭ ‬ولم‭ ‬تجد‭ ‬غيره‭ ‬بعد‭ ‬وفاته‭ ‬حتى‭ ‬الآن‮»‬‭.‬

انتهت‭ ‬حياة‭ ‬بريس‭ ‬داڤن‭ ‬بالفاقة‭ ‬والبؤس‭ ‬يوم‭ ‬16‭ ‬فبراير‭ ‬1879،‭ ‬وباعت‭ ‬زوجته‭ ‬جزءًا‭ ‬كبيرًا‭ ‬من‭ ‬مخطوطاته‭ ‬وأوراقه‭ ‬ورسومه‭ ‬المائية‭ ‬ومكتبته‭ ‬النادرة‭ ‬القيمة‭ ‬في‭ ‬إنجلترا‭ ‬وهو‭ ‬طريح‭ ‬الفراش‭ ‬في‭ ‬نزعات‭ ‬الموت‭ ‬الأخيرة،‭ ‬غير‭ ‬مدرك‭ ‬لما‭ ‬يحدث‭ ‬حوله،‭ ‬وما‭ ‬تبقى‭ ‬من‭ ‬أعماله‭ ‬محفوظ‭ ‬بالمكتبة‭ ‬الوطنية‭ ‬في‭ ‬باريس‭ ‬وبجمعية‭ ‬الآثار‭ ‬في‭ ‬أڤان‭ ‬سير‭ ‬هلب‭ ‬شمال‭ ‬فرنسا‭. ‬

لقد‭ ‬ترك‭ ‬لنا‭ ‬إدريس‭ ‬أفندي‭ ‬لوحات‭ ‬ومؤلفات‭ ‬ممتازة‭ ‬تجلو‭ ‬روائع‭ ‬ماضينا‭ ‬وتلقي‭ ‬الضوء‭ ‬على‭ ‬أسرار‭ ‬الحكم‭ ‬والسياسة‭ ‬التي‭ ‬أثرت‭ ‬في‭ ‬مصير‭ ‬مصر‭ ‬الحديث،‭ ‬وإنني‭ ‬عبر‭ ‬صفحات‭ ‬مجلة‭ ‬العربي‭ ‬احتفالًا‭ ‬بذكرى‭ ‬ميلاد‭ ‬‮«‬إدريس‭ ‬افندي‮»‬‭ ‬ألفتُ‭ ‬نظر‭ ‬الأوساط‭ ‬الأدبية‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬وفرنسا‭ ‬لاستخراج‭ ‬الكنز‭ ‬الوثائقي‭ ‬الثمين‭ ‬الذي‭ ‬تركه‭ ‬في‭ ‬دار‭ ‬الكتب‭ ‬الفرنسية‭ ‬بباريس،‭ ‬وهو‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬أوراق‭ ‬مخطوطة‭ ‬تضم‭ ‬اثني‭ ‬عشر‭ ‬مجلدًا‭ ‬وتتصل‭ ‬بدراسة‭ ‬مصر‭ ‬من‭ ‬جميع‭ ‬النواحي،‭ ‬والذي‭ ‬لم‭ ‬يُنشر‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭ ‬رغم‭ ‬النداء‭ ‬الذي‭ ‬وجهه
د‭. ‬أنور‭ ‬لوقا‭ ‬في‭ ‬الخمسينيات‭ ‬والثمانينيات‭ ‬لإخراج‭ ‬هذه‭ ‬المخطوطة‭ ‬ذات‭ ‬الاثني‭ ‬عشر‭ ‬مجلدًا‭ ‬إلى‭ ‬النور،‭ ‬ولم‭ ‬يستجب‭ ‬أحد‭ ‬في‭ ‬الأوساط‭ ‬الثقافية‭ ‬بمصر‭ ‬أو‭ ‬فرنسا‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭. ‬وأهم‭ ‬هذه‭ ‬المجلدات‭: ‬مجلد‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬سياسة‭ ‬مصر‭ ‬الحديثة‭ ‬وإدارتها‮»‬‭ ‬ومجلدان‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬أخلاق‭ ‬وعادات‭ ‬المصريين‮»‬‭. ‬لقد‭ ‬أنصف‭ ‬‮«‬إدريس‭ ‬أفندي‮»‬‭ ‬مصر،‭ ‬فمن‭ ‬حقه‭ ‬عليها‭ ‬أن‭ ‬تنصفه،‭ ‬وإنني‭ ‬آمل‭ ‬أن‭ ‬يتولى‭ ‬زمام‭ ‬هذه‭ ‬المبادرة‭ ‬المعهد‭ ‬الفرنسي‭ ‬للآثار‭ ‬الشرقية‭ ‬بالمنيرة‭. ‬وقد‭ ‬عرضنا‭ ‬مع‭ ‬هذا‭ ‬المقال‭ ‬بعضًا‭ ‬من‭ ‬لوحاته‭ ‬وإبداعاته‭ ‬عن‭ ‬مصر‭ ‬والمصريين،‭ ‬آملين‭ ‬أن‭ ‬تشحذ‭ ‬هذه‭ ‬اللوحات‭ ‬الهمم‭ ‬لعمل‭ ‬المزيد‭ ‬من‭ ‬التعريف‭ ‬بهذا‭ ‬المستشرق‭ ‬المجتهد‭ ‬العظيم،‭ ‬وأن‭ ‬يوجد‭ ‬من‭ ‬يتولى‭ ‬رعاية‭ ‬مخطوطته‭ ‬السابقة‭ ‬الذكر‭ ‬وإخراجها‭ ‬إلى‭ ‬ميدان‭ ‬الطباعة‭ ‬والنشر‭ ‬■