بريس داڤن «إدريس أفندي» فرنسي عشق مصر وأرّخ لآثارها

تناولت المراجعُ العربية في علم الآثار وتاريخ مصر بالدراسة والتبجيل سيرَ العديد من علماء المصريات والآثار الإسلامية والقبطية من الأوربيين والأمريكيين
وما أضافوه من المعرفة التاريخية والأثرية والجغرافية، لكن كان من بينهم مَن قام بجهودٍ رائدة ومضنية في البحث في آثار مصر وتاريخها وجُحِد حقه في الذكر والدراسة حتى في مصر نفسها، منهم إيميل بريس داڤنّ؛ ذلك الفرنسي الذي أطلق عليه الدكتور أنور لوقا أنه «مؤرخ أهمله التاريخ»، وكذلك المؤرخ الفرنسي كاريه الذي قال عنه إنه في نظر المثقفين الفرنسيين «مجرد اسم لا مكان له بين الأسماء الرنانة في تاريخ علم المصريات»، رغم أنه جاب مصر من الإسكندرية حتى أعالي النيل، ووثّق آثار مصر الإسلامية والفرعونية في سجلين فريدين كفيلين أن يخلّدا اسمه في علم الآثار. وتنشر مجلة العربي هذه النبذة عنه في ذكرى ميلاده واعترافًا بفضله ولتعريف القارئ العربي به.
ولد ايميل بريس داڤن في فرنسا في 27 يناير عام 1807 ودرس الهندسة في المدرسة الفرنسية الملكية للفنون والصنائع. وفي عام 1827 انتقل إلى مصر؛ حيث عمل مهندسًا للري في حكومة محمد علي، ومربيًا لأبناء ابراهيم باشا نجل محمد علي، وأستاذًا للطبوغرافيا في مدرسة أركان الحرب بالخانكة، ثم نُقل إلى دمياط أستاذًا للتحصينات في مدرسة المشاة وبذل نفسه للمرضى في وباءي الكوليرا والطاعون عام 1831 و1834؛ حيث خالط الشعب البائس وفهم نفوس المصريين ولمس تحت الأسمال التي ألقاها عليهم الحاضر الوخِم تلك الصفات الكريمة العريقة التي سجلتها حضارتهم من قديم الزمن، فتعمق في مجتمع المصريين ودرس تفاصيل حياتهم وأتقن لغتهم، ودعاه الجميع باسمه الذي تحول بعد إعلان إسلامه، من بريس إلى (إدريس أفندي).
تعد تلك السنوات من حياته (1834-1831) سنوات تعلم وتأمل واعتكاف، فقد اتجه فيها هذا المهندس إلى دراسة الآثار والمعمار العربي والفرعوني وصار ضليعًا في علم المصريات، وثابر في تعلم اللغة العربية بلهجاتها وفك شفرة اللغة الهيروغليفية، وعندما استشعر نفسه مستعدًا بالقدر الكافي لدراستها العملية الحقلية، ترك وظيفته ونال حريته من قيودها والتزاماتها.
قدم بريس استقالته عام 1836 ليتفرغ لدراسة تاريخ هذا المجتمع؛ فانتقل بين الفلاحين من قرية إلى قرية، ومن الدلتا إلى الصعيد، ومن الصعيد إلى النوبة، حتى وصل إلى بوابة معبد أبو سنبل الرائعة. وكانت أولى دراساته المجتمعية والأثرية رحلته الأثرية في الجزء الشرقي من دلتا النيل، حيث نشر ما كتبه عنها في المجلد الأول من مجلة «مقالات عن مصر – Miscellanea Aegyptiaca»، وهو نصٌ شديد الندرة يشي بما لدى هذا البحاثة والرحالة الشاب ذي التسعة والعشرين عامًا من معلومات غزيرة وملاحظة دقيقة للعادات والتقاليد العربية وأسلوب تصويري ينبض بالحياة. وقد أدت أبحاثه في الفترة من 1843 - 1839 إلى نتائج يعرف مؤرخو الآثار أهميتها، وكان أول من لاحظ ورسَم النقوش الممتازة الفريدة المنحوتة على أعمدة «حور محب» من عهد أخناتون بالكرنك، كما أنه تولى نزع الركام عن معبد خونسو بالأقصر وأظهر إلى الوجود اثنتي عشرة غرفة منه، وهو عملٌ يكفي أن يسجل اسمَه في ميدان علم المصريات.
سافر بريس بعد ذلك إلى فرنسا ثم عاد إلى مصر عام 1858 في عهد سعيد باشا، فيجوب مصر من جديد مسجلًا مشاهداته وملاحظًا ومصورًا المعالم والآثار بالآلة الفوتوغرافية أو راسمًا إياها بقلمه وألوانه أو صانعًا لها قوالب متقنة، حتى اجتمع له من ذلك كله محصول ثمين من المعلومات الجغرافية والبشرية والتاريخية والفنية واللغوية والاجتماعية. ولم يكن داڤن قد اقتصر فقط على الكشف عن روائع الفن والهندسة المعمارية الفرعونية، بل امتد مجهوده إلى آثار الحضارة العربية في مصر، وكان نتيجة ذلك أن نشر بالفرنسية كتبه المصورة: «الآثار المصرية» الذي يضم خمسين لوحة من القطع الكبير للآثار الفرعونية في وادي النيل، و«تاريخ الفن المصري من أقدم العصور حتى الحكم الروماني» وهو أطلس رائع يضم في مجلدين 160 لوحة من القطع الكبير، و«الفن العربي مأخوذًا من آثار القاهرة منذ القرن السابع الميلادي حتى نهاية القرن الثامن عشر»، وهو أطلس من ثلاثة مجلدات بها مئتا لوحة ملونة من القَطع الكبير وقد طبعت الجامعة الأمريكية بالقاهرة الكتابين الأخيرين في مجلدين باللغة الإنجليزية يمكن للقارئ مطالعتهما هناك، وكلها أعمال يصعب العثور عليها في يومنا هذا ولا غنى لعالم الآثار والمصريات عنها، فكثير منها قد تهدَّم أو انمحى بفعل الزمن. وقد قال الأثري الفرنسي في ذلك معلقًا على أعمال بريس داڤن: «لم يتم من قبل تفسير الفن المصري والعربي بهذه الروعة». كما نشر داڤن في لندن بالاشتراك مع المستشرق البريطاني جيمس أوغسطوس سانت جون عام 1848 كتابه النادر الذي لم يذكر مؤرخو الفنون عنه شيئًا: «الألبوم الشرقي»، وهو عبارة عن 32 لوحة بالألوان رسمها عن حياة المصريين والنوبيين في القرن التاسع عشر، سجَّل فيها أهم مظاهر الحياة الاجتماعية، من الإسكندرية حتى إثيوبيا، مع شرح تلك اللوحات للقارئ الأوربي، ما يجعل منه سجلًا تاريخيًا فنيًا جميلًا عن الحياة في وادي النيل إبان القرن التاسع عشر. أما متحف اللوفر فيدين له بنقل غرفة الملوك بالكرنك من الأقصر إلى باريس، وهي أثرٌ يعادل في أهميته بردية تورين وجداول معبد أبيدوس. كل هذه الأعمال تشكل أسبابًا لا تنضب لعرفان العالم المتحضر له، فاسم بريس داڤن يجب أن يُخلد إلى جانب أسماء شامبليون ومارييت وماسبيرو في ميدان التاريخ المصري القديم والحديث.
ويقول المؤرخ والأثري الفرنسي جان ماري كاريه: «قبل بريس داڤن، كان الفن الفرعوني بالنسبة للجميع فنًا هندسيًّا ومعماريًّا مؤلفًا من الخطوط والمقاييس والأحجام. وبقدوم داڤن دبت الحياة في كل مكونات هذا الفن .كانت علوم الآثار المصرية بعد كتاب «وصف مصر» والعالم شامبليون في انتظار فنان، وقد وجدته مع بريس داڤن، ولم تجد غيره بعد وفاته حتى الآن».
انتهت حياة بريس داڤن بالفاقة والبؤس يوم 16 فبراير 1879، وباعت زوجته جزءًا كبيرًا من مخطوطاته وأوراقه ورسومه المائية ومكتبته النادرة القيمة في إنجلترا وهو طريح الفراش في نزعات الموت الأخيرة، غير مدرك لما يحدث حوله، وما تبقى من أعماله محفوظ بالمكتبة الوطنية في باريس وبجمعية الآثار في أڤان سير هلب شمال فرنسا.
لقد ترك لنا إدريس أفندي لوحات ومؤلفات ممتازة تجلو روائع ماضينا وتلقي الضوء على أسرار الحكم والسياسة التي أثرت في مصير مصر الحديث، وإنني عبر صفحات مجلة العربي احتفالًا بذكرى ميلاد «إدريس افندي» ألفتُ نظر الأوساط الأدبية في مصر وفرنسا لاستخراج الكنز الوثائقي الثمين الذي تركه في دار الكتب الفرنسية بباريس، وهو عبارة عن أوراق مخطوطة تضم اثني عشر مجلدًا وتتصل بدراسة مصر من جميع النواحي، والذي لم يُنشر حتى الآن رغم النداء الذي وجهه
د. أنور لوقا في الخمسينيات والثمانينيات لإخراج هذه المخطوطة ذات الاثني عشر مجلدًا إلى النور، ولم يستجب أحد في الأوساط الثقافية بمصر أو فرنسا حتى الآن. وأهم هذه المجلدات: مجلد بعنوان «سياسة مصر الحديثة وإدارتها» ومجلدان بعنوان «أخلاق وعادات المصريين». لقد أنصف «إدريس أفندي» مصر، فمن حقه عليها أن تنصفه، وإنني آمل أن يتولى زمام هذه المبادرة المعهد الفرنسي للآثار الشرقية بالمنيرة. وقد عرضنا مع هذا المقال بعضًا من لوحاته وإبداعاته عن مصر والمصريين، آملين أن تشحذ هذه اللوحات الهمم لعمل المزيد من التعريف بهذا المستشرق المجتهد العظيم، وأن يوجد من يتولى رعاية مخطوطته السابقة الذكر وإخراجها إلى ميدان الطباعة والنشر ■