اللغة حياة.. علامَ تَرْكُ المستعمل واعتماد الغريب؟

اللغة حياة.. علامَ تَرْكُ المستعمل واعتماد الغريب؟
        

          كان أحد الوزراء يعرض، يومًا، وقائع جلسة للحكومة اللبنانيّة، والصحفيّون حوله، وسائل الإعلام المرئيّة والمسموعة تنقل خطابه، وإذا هو يستطرد من السياسة إلى اللغة، في لفتة مهذبة، ليوحى وجوب استعمال عبارة «الشهود الزور» وليس «شهود الزور»، فصدم عادة المستعمل العربيّ الذي يسمع العكس ويقوله.

          لم يكن الوزير مخطئًا الخطأ كلّه، لكنّه اجتهد فلم يصِب، ذلك لأنّ الزور مصدر بمعنى الكذب والباطل، وقد يعني الخداع، وهو ككلّ الأسماء الجامدة قد يؤوَّل بصفة مشتقّة فيُستعمل نعتًا، نحو: كاتبٌ عَدْلٌ، ورجلٌ ثِقةٌ، أي عادل وموثوق به. بَيْد أنّ النعت بالمصدر لا يبدو قياسيًّا، بل يرجح أنّه سماعيّ، إذ لا يقال، مثلًا: قاضٍ ظُلْمٌ، ولا طريقٌ انحناءٌ. ولم يرد في الحديث النبويّ ولا في كلام البلغاء والفقهاء إلاّ عبارتا: شاهد الزور، وشهادة الزور، فقد وردت العبارتان كثيرًا في الحديث الشريف، ومن ذلك: لَنْ تَزُولَ قَدَمُ شَاهِدِ الزُّورِ حَتَّى يُوجِبَ اللهُ لَهُ النَّارَ ، ومنه: أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ قَالَ: قَوْلُ الزُّورِ - أَوْ قَالَ: شَهَادَةُ الزُّورِ ، ومنه «عُدِلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ بِالإِشْرَاكِ بِاللهِ»، أي وردت كلمة الزور مضافًا إليها لا نعتًا. ووردت في القرآن الكريم عبارة واجْتَنِبوا قَوْلَ الزُّورِ ، وفي الحديث أيضًا مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ للهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ . وقال أبو تَمّام يردّ على بعض الشعراء:

          أَفِيَّ تَنْظِمُ قولَ الزورِ والفَنَدِ
                                        وأنتَ أبرزُ مِنْ لا شيءَ في العَددِ؟

          وجاء في «البيان والتبيين» للجاحظ: «ومن غَلبَ عليه الشيطانُ هذه الغلبة، كانت حاله داعية إلى قول الزور»، أي بإضافة القول إلى الزور في ذلك كلّه، لا بنعت الزور للقول. ولا يُعتدّ بزعم بعض المعاجم أنّه يقال: رجلٌ زورٌ، وقومٌ زورٌ، فلا شاهد عليه، في ما نعلم؛ وهذه المعاجم نفسها لم تجد شاهدًا على كلمة الزور إلا عبارات: شاهد الزور، وشهادة الزور، وقول الزور، وحين يكون الخِيار بين المستعمَل بكثرة، وبين غير المستعمَل المقيس على النادر، فالمستعمل أولى. ولذلك كانت إيماءة الوزير اللغويّة في غير كنهها.

          وفي الحرب الأهليّة اللبنانيّة، انفردت إحدى الإذاعات باستخدام كلمة «أَفْرِقاء»، جمعًا لفريق، ولا أدري أشغفًا بالغريب أم خوفًا من الخطأ راحت وسائل إعلام أخرى تستعمل هذا الجمع؟ وظهر خلاف بين كتّاب الصحافة، فقِلّة منهم ذهبت إلى ذلك المذهب الغريب، وكثرة آثرت المألوف، أي «فُرَقاء». ولم يلبث استعمال «أفرقاء» أن ضَعُف أمام استعمال فُرَقاء، حتى قام بعض المتفَقِهين في اللغة فخطّأ استعمال مذيعة عربيّة لصيغة فُرقاء، زاعمًا أنّ صوابها هو أَفْرقاء، وانشغل حتى الإنترنت بهذا الموضوع استنكارًا لأفرقاء أو قولًا بها.

          والحقيقة أنّ كلمة فريق لم تُجمع في القديم قطّ، في ما نعلم، بل استُعملت مفردةً ومثنّاة، سواء في القرآن الكريم أو في الحديث الشريف، أو في الشعر، أو في كتب الأدب، ككتب الجاحظ، أو في كتب اللغة ككتاب «الخصائص» لابن جنّيّ، وبعد بحث مضنٍ وجدنا كلمة «أفرقاء» في نصّ وحيد، هو بيت للشاعر الجاهليّ عَوْف بن عَطيّة التَيْميّ، يصف انقسام أعداء قومه ثلاث فئات: قتلى، وأسرى، وطلقاء، يقول:

          فَهُمُ ثلاثةُ أَفْرِقاءَ : فسابِحٌ
                                        في الرُمْحِ يعثُرُ في النَجيعِ الأَحْمَرِ

          ووجدناها في شرحٍ معجمِيٍّ للقرطبيّ عند تفسيره للآية (75) من سورة البقرة، وفي معجمَي «القاموس المحيط» و«تاج العروس». لكنّ المتأخّرين، في القرنين العشرين والحادي والعشرين، وربّما قبل ذلك، أكثروا من استعمال فُرقاء جمعًا لفريق. وقد أيّدهم «المعجم الوسيط» الصادر عن مجمع اللغة العربيّة في القاهرة، إذ أشار إلى أنّ جمع فريق هو فُرقاء. ولا نعلم قبل الإذاعة التي سبق الإيماء إليها من استعمل »أفرقاء».

وهنا لا بد من ملحوظات:

          إن «تاج العروس» توسيع «للقاموس المحيط» فهما بمثابة المعجم الواحد، ولا تأييد فيهما ولا في تفسير القرطبيّ لصيغة أفرقاء بأيّ شاهد. ويغلب على الظنّ أنّ سبب اكتفاء القدماء بمثنّى «فريق» هو دلالة الكلمة، عندهم، على الشطر يُكمله شطر آخر، فمعناها قريب، أحيانًا، من معنى النصف، ولذلك نقرأ في القرآن الكريم، مثلًا : فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُون  أي فكذّبتم بعض الأنبياء وقتلتم بعضهم الآخر. ونقرأ أيضًا: فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَة . وكذلك : فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُون ، الخ. وأكدّ الطبريّ أنّ الفريق «جمعٌ كالطائفة، لا واحد له من لفظه، وهو فَعِيل من التفرّق، سُمّي به الجماعة، كما سمّيت الجماعة بالحزب، من التحزّب». هذا عدا معان ثانويّة للكلمة.

          والمعروف صرفيًّا أنّ وزن «فَعِيل» الدالّ على صفةٍ لمذكّرٍ عاقلٍ إنّما يُجمع قياسيًّا على «فُعَلاء»، نحو: عميد، عمداء، ولا يجمع على «أفْعلاء» إلاّ ما كان معتلّ اللام؛ نحو: ذكيّ ، أذكياء؛ أو مضعّفًا، نحو: طبيب، أطبّاء؛ فجمع فُرقاء قياسيّ، وجمع أفرقاء شاذّ، لأنّ فريق ليس معتلّ اللام ولا مضعّفًا. وورود «أفرقاء» في الشعر إنّما هو، على الأرجح، للضرورة الشعريّة.

          وقد استعمل الكتّاب في العصور الحديثة كلمة فريق بمعانٍ جديدة، منها معنى المجموعة التي تشترك في عمل أو نشاط واحد، ومنها معنى الطرف المتعاقد مع طرف آخر أو أطراف آخرين. وهم لذلك جمعوها بكثرة على فُرقاء، فقالوا مثلًا: فُرقاء النـزاع، إلاّ في الرياضة، فقد جمعوها على فِرَق، بتضمينها معنى فِرقة.

          ينتج عن ذلك أنّ ترْك القدماء لجمع فريق بسبب معنى الشطر الذي محضوه إيّاه، وأنّ ورود جمعه بصيغة «أفرقاء» في بيت واحد، خلافًا للقياس، ورضوخًا للضرورة الشعريّة، كلّ ذلك يجعل الأخذ بذلك الجمع شذوذًا؛ ولا تقاس «أفرقاء» على أصدقاء، لأنّ أصدقاء شاذّة عن القياس أيضًا، ثم إنّ جمع أصدقاء استقرّ في الاستعمال بحيث لم يكن له منازع، ولم يبد موضع شكّ، على حين أن استعمال «أفرقاء» متروك. وجمع فرقاء غالب على استعمال الكتّاب في العصور الحديثة، خضوعًا للقياس، وتمييزًا للمعاني الجديدة التي منحوها للكلمة، بحيث جعلوها مصطلحًا جديدًا يحتاج إلى جمع أو جموع جديدة, وما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب، كما يقرّر ابن جنّي.  وفي النتيجة فإنّ تقصّي النادر والشاذّ ليس من شيم الفصحاء، وذلك لأنّ النصّ المكتوب رسالة تقتضي الوضوح والجمال وعدم مجافاة العادات اللغويّة الصحيحة، وإلاّ صدمت المتلقّي وبدت عجرفة وتحذلقًا. أمّا الحديث عن التجديد في اللغة الشعريّة، أو عن الثورة على اللغة، فشأن آخر، وهو لا يتّصل بلغة الإعلام أبدًا.

 

 

مصطفى الجوزو