نشأة فن التمثيل العربي سمير فريد

نشأة فن التمثيل العربي

ليس مثل الفن مجال يتسم برحابة الصدر وحب التنوع. وعندما تكون جذور هذا التنوع مشتركة، بل واحدة، فإن الحصاد يغدو وفيرا وجميلا. ولعل فن التمثيل العربي مثال ساطع لاشتراك الجذور وتكامل التنوع.

يعاني الباحث في تاريخ السينما العربية في مصر أو غير مصر، مصاعب كثيرة، نظرا لعدم توافر المعلومات الدقيقة المحققة. ويكفي للتدليل على ذلك أن باحثا كبيرا مثل مسعود ضاهر في كتابه "الهجرة اللبنانية إلى مصر" عام 1986 يعرف بالكثير من الشخصيات، وعندما يأتي إلى بشارة يواكيم "بشارة واكيم" يقول بالنص: "فنان موهوب شارك في عدد كبير من المسرحيات الناجحة، واعتبر من الفنانين الشعبين. ليست لدينا معلومات وافية حوله"

شوام ومغاربة

أطلق المصريون تعبير الشام على المشرق العربي حتى النصف الأول من القرن العشرين، كما أطلقوا تعبير المغاربة على سكان المغرب العربي. وقد شهدت الفترة من أواسط القرن التاسع عشر إلى أواسط القرن العشرين نزوح الآلاف من الشوام إلى مصر، وخاصة من سوريا ولبنان. وبلغ هذا النزوح ذروته في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، فترة ظهور السينما، وتأسيس صناعة السينما العربية في مصر، وكما كان للشوام دور كبير في تأسيس المسرح في مصر، كان لهم الدور نفسه في تأسيس السينما. ويذكر الكثير من الباحثين في تاريخ السينما العربية في مصر أن السينما بدأت على أيدي "الأجانب"، ويقصدون بـ "الأجانب" كل من هو غير مصري، أي سواء كان من الشام أم من أوربا.

والواقع أن الشامي لم يكن أجنبيا في مصر في فترة ظهور السينما لأن مصر وكل بلاد الشام كانت تابعة للدولة التركية العثمانية. وكانت مصر مثل غيرها من بلاد هذه الدولة تخضع لقانون الجنسية العثماني الصادر في 19/ 1/ 1869، والذي يعتبر كل سكان الدولة يحملون الجنسية العثمانية. ولذلك كان سفر مواطن من سوريا أو لبنان إلى مصر أو العكس رحلة داخلية، وليس هجرة بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، فالهجرة تكون من دولة إلى أخرى، وليس داخل دولة واحدة مهما كانت مساحتها الجغرافية.

وهذه الحقيقة القانونية فضلا عن الحقيقة التاريخية هي التي جعلت الباحثين في شتى المجالات يفرقون بين الشامي والأجنبي في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، مثل الدكتور نبيل عبدالحميد في كتابه "النشاط الاقتصادي للأجانب وأثره في المجتمع المصري من عام 1922 إلى عام 1952 ". فهو لا يعتبر الشوام أو المغاربة من الأجانب، ويقصد بالأجانب الأوربيين والأمريكيين وغيرهم من غير العرب.

يقول مسعود ضاهر: "هاجر السوريون واللبنانيون إلى مصر بأعداد كبيرة قياسا إلى عدد السكان المحليين في المناطق السورية واللبنانية. منهم من هاجر إليها طلبا للحرية السياسية كبعض الكتاب والمثقفين والشعراء والصحفيين، ومنهم من هاجر بدافع الظروف الاقتصادية على اختلاف أنواعها، وكانت مصر بلادا غنية قياسا إلى باقي البلدان العربية حتى نهاية القرن التاسع عشر، لا بل حتى مرحلة اكتشاف النفط وتسويقه في القرن العشرين. كانت مصر تسمى (مخزن العرب) فأرضها وافرة الخيرات والغلال، وتجارتها مزدهرة، وصناعتها متطورة وصحافتها تتمتع بقدر كبير من الحرية، وحياتها الثقافية والأدبية والفنية على جانب كبيرة من التطور والنهضة. وقد لعبت هذه العوامل مجتمعة دورها في اجتذاب أعداد كبيرة من الشوام إلى مصر".

ويقول ضاهر إن "الظروف التاريخية كانت ملائمة جدا لعمل الشوام أكثر من سواهم. فالكفاءة الشخصية، ومعرفة اللغات، وسرعة التكيف، والإخلاص في العمل، والخبرة التاريخية في مجال الخدمات، والانفتاح القديم على الغرب وغيرها من الأسباب، جعلت الشوام، وغالبيتهم من المسيحيين، يلعبون دورا مميزا في مصر. وذلك الواقع يفسر إلى حد بعيد أن المسألة لم تكن طائفية، بل مصلحية".وإن العلاقات الاجتماعية بين طوائف الشام في مصر كانت "عادية جدا، ولم تكن متوترة كما في سوريا ولبنان. ويعود الفضل في ذلك إلى المجتمع المصري نفسه الذي صهر أبناءه والقاطنين بينهم في جميع المجالات".

وعندما يندهش البعض من قرار الحكومة المصرية إيفاد الممثل اللبناني جورج أبيض في أول بعثة لدراسة المسرح في فرنسا عام 1904، فذلك لأنهم لا يعلمون "أن حكومات مصر لم تعتبر أبناء الشوام من الأجانب، بل من العرب، ويعاملون تماما كأبناء الشعب المصري، ولهم الحق في السفر إلى أوربا ضمن البعثات المرسلة للتخصص والعودة للعمل في مصر". وأن البعثة الأولى عام 1813 لدراسة الفنون العسكرية وبناء السفن وتعلم الهندسة كان من بين أفرادها الشامي "نقولا مسابكي" وكان من بين المترجمين البارزين إبان حكم محمد علي أوجست سكاكيني وهو من أصل شامي. وبوغوص بك الأرمني الذي أصبح وزيرا للشؤون الخارجية والتجارية.

ورغم انفصال مصر عن الدولة التركية العثمانية سياسيا في 15/ 11/ 1914، ورسميا بعد توقيع معاهدة لوزان في 24/ 7/ 1923، إلا أن الشوام لم يعتبروا من الأجانب إلا مع صدور قانون الجنسية المصرية في 10/ 3/ 1929. وكان هذا القانون هو القانون الثاني للجنسية بعد قانون 26/ 5/ 1926 الذي لم ينفذ. ولا شك أن تردد الحكومة المصرية في تنفيذ القانون لمدة ثلاث سنوات يرجع إلى وجود ذلك العدد الهائل من الشوام الذين لا يمكن مساواتهم بالأوربيين وغيرهم ولذلك تنص المادة 22 من القانون 19 لعام 1929 على: "أن كل شخص يسكن الأراضي المصرية يعد مصريا، ويعامل بهذه الصفة إلى أن تثبت جنسيته على الوجه الصحيح".

ولقد بلغ الاندماج بين المصريين والشوام إلى حد نظم الشعر فيهم، ففي قصيدة من قصائده يقول حافظ إبراهيم الملقب بـ "شاعر النيل" عن الشوام:

رادوا المناهل في الدنيا ولو وجدوا

إلى المجرة ركبا صاعدا ركبوا

ويقول مسعود ضاهر: "شارك الشعب المصري، إلى جانب الشعوب العربية الأخرى، في معركة استقلال لبنان، وذلك من مختلف المستويات الرسمية والشعبية.وكان للنحاس باشا، رئيس مجلس وزراء مصر، دور أساسي في الصيغة التعددية التي أقيمت في لبنان عام 1943، وقادت إلى انتصار الكتلة الدستورية فيالانتخابات، وتسلمها مقاليد السلطة اللبنانية".

واعتبار الشوام من الأجانب لم يأت نتيجة صدورقانون الجنسية عام 1929، وإنما لأن "قسما كبيرا من الشوام رفض الحصول على الجنسية المصرية وحدها مما أوجد الشك الحذر منهم لأن الشعب المصري فخور جدا بانتمائه لمصر، ويرفض أن يشرك به أي انتماء لبلد آخر".

الناس أعمال لا أعراق

وحين نفرق بين الشامي والأجنبي لا نستهدف التهوين من شأن الأجنبي، أو عزل دوره عن دور الشامي، أو دور المصري. الواقع أن المجتمع المصري في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين لم يكن يفرق بين الناس بأعراقهم، وإنما بأعمالهم، وإلى أي مدى تخدم أو لا تخدم المجتمع. وقد كان الأجانب من غير العرب "يتمتعون بامتيازات واسعة يرجع تاريخها إلى المعاهدتين اللتين عقدتهما الدولة العثمانية مع فرنسا في سنة 1535، وفي سنة 1740 بقصد تيسير الاتجار بين رعايا كل من الدولتين، وحماية الأجانب من تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية عليهم، والتي لا تتفق مع شرائعهم".

وحسب تعداد عام 1927 كان عدد سكان مصر 14.117.864 منهم 225.600 أجنبي، ومن بين هؤلاء الأجانب 542 و 207 من الأوربيين وليس من بينهم الشوام بالطبع. وكانت الجالية الأكبر عددا اليونانية تليها الإيطالية، ثم البريطانية، والفرنسية. وبينما كان عدد الأجانب 768. 174 عام 1917، أي أقل من عددهم عام 1927، نجد هذا العدد يتناقص عام 1937 إلى 855،179، ثم إلى 589، 132 عام 1947. ويرجع ذلك إلى توقيع معاهدة مونترو لإلغاء الامتيازات الأجنبية في مصر في 8/ 5/ 1937.

الإسكندرية.. باريس الصغرى

ولو لم تعرف مصر المسرح لما عرفت السينما. وقد بدأ المسرح، ومن بعده السينما في الإسكندرية، وكان للشوام وللأجانب دور بارز في نشأة المسرح بمفهومه الأوربي،. ثم في نشأة السينما بعد ذلك. ولم يكن السبب الوحيد لبداية المسرح والسينما في الإسكندرية كونها "الميناء" الذي تأتيه وتقلع منه السفن القادمة من بيروت أو من مارسيليا أو غيرهما من الموانىء، فقد كانت هناك موانىء أخرى دولية مثل بورسعيد، وقبلي دمياط، وإنما يرجع ذلك إلى تاريخ مدينة الإسكندرية قبل جغرافيتها.

حسب إحصاء 1927 كان في الإسكندرية حوالي نصف الأجانب المقيمين في مصر، وكان مجموعهم في الإسكندرية والقاهرة يزيد على 80% من مجموعهم الكلي. وقد حاول أغنياء الإسكندرية، وعلى رأسهم أغنياء الشوام والأجانب الأوربيين جعل الإسكندرية "باريس الصغرى". فكانوا يستدعون الفرق الفنية، وفرق الأوبرا العالمية من الخارج لإحياء حفلات خاصة لهم. وكان مسرح زيزينيا الذي بناه أحد أثرياء اليونان من أهم مسارح الشرق الأوسط. وفي الإسكندرية "أسس سليم نقاش ابن شقيق مارون نقاش أول فرقة مسرحية بدأت عروضها على مسرح زيزينيا عام 1876". وكانت فرقته مكونة من 12 ممثلا وأربع ممثلات وفيها قدم أحمد أبو خليل القباني أول عروض فرقته المسرحية عام 1884.

وكما ذكرنا كانت الجالية اليونانية هي أكبر الجاليات الأجنبية في الإسكندرية، وتليها الإيطالية. وقد قامت الجالية الإيطالية بتأسيس شركة للإنتاج السينمائي في الإسكندرية عام 1917 مولها فرع بنك دي روما بالمدينة، وقامت الجالية اليونانية بإنتاج أفلام ناطقة باليونانية في الإسكندرية بعد نطق السينما في مصر عام 1932. وهي صفحة خاصة في تاريخ السينما بمصر. ولا غرابة في ذلك فقد كان لليونانيين دائما وضع خاص في المجتمع المصري. يقول د. نبيل عبدالحميد: "ونتيجة لطول المعاشرة بين المصرين واليونانيين لم ينظر إليهم المصريون كأجانب حقيقيين، وبالتالي لم يشعر هؤلاء اليونانيون في وقت من الأوقات بأنهم في غير بلادهم كما اتصفوا بحبهم للعمل، وتواضعهم الكبير، وتبسطهم مع المصريين ".

جذور تتشابك

ويذكر مسعود ضاهر في كتابه أن الأب قرالي نشر في "المجلة السورية" التي كان يصدرها عام 1925 سلسلة مقالات عن رحلة قام بها إلى مصر. وفي هذه المقالات "تحدث عن المواهب الفنية الشامية في مصر آنذاك، وذكر رائد المسرح العربي مارون نقاش، والممثل إسكندر فرح، والممثل بشارة يواكيم، والممثل جورج أبيض، والممثل البارع نجيب الريحاني، والممثل عزيز عيد، وأميرة الكوميديا المصرية بديعة مصابني". وكل من ذكرهم الأب قرالي ولدوا في الشام ما عدا نجيب الريحاني الذي ولد في القاهرة من أب عراقي مسيحي يدعى إلياس ريحانه وأم قبطية مصرية تدعى لطيفة، وفضل أن يكون اسمه الريحاني بسبب سهولة نطق الريحاني عن ريحانه. ولعل ما جعل الأب قرالي ينسب نجيب الريحاني إلى الشام عائلة الريحاني اللبنانية العريقة، وتصوره أن الريحاني الاسم الأصلي لنجيب، وكذلك زواج نجيب من بديعة مصابني عام 1924.

 

سمير فريد

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




بديعة مصباني: اللبنانية





بديعة مصباني: المصرية





صورة تذكارية في منزل أحمد شوقي عام 1912





عزيز عيد





دولت أبيض





جورج أبيض





على مسرح الأوبرا قدم جورج أبيض أكثر مسرحياته