حكايات طبية

في ممارسة الطب يعيش الأطباء هزائم وانتصارات متعددة، فما من طبيب يداوي المرضى ويحارب الأمراض، إلا وقد عرف من هذه وتلك الكثير. أما الهزائم، فهي- وإن كانت مريرة أحيانا- لا تدفع إلى اليأس والاستسلام، بل على العكس من ذلك تحث على الصمود والثبات. وأما الانتصارات، فتملأ الطبيب بشعور خاص سأبينه فيما بعد- ربما كان مغايرا لما يتوقعه كثير من الناس- وإضافة لذلك فإنها تشحن الطبيب بطاقة من الحيوية والنشاط.

أحد الانتصارات التي عرفتها كان في مستشفى الأطفال في جامعة دمشق، وكنت أعمل وقتها طبيبا اختصاصيا في ذلك المستشفى، عندما سافر الاختصاصي في أمراض الصدر إلى الخارج، فأسند إلى الإشراف على جناح الأمراض الصدرية بدلا عنه.

كانت معلوماتي وقتها عن الأمراض الصدرية لا تعدو معلومات أي طبيب أطفال آخر، وبما أنه كان مطلوبا مني الإشراف على أطباء الدراسات العليا، كان لابد لي من أن أزيد من اطلاعي على هذه الأمراض. فحبست نفسي أسبوعا أو أكثر، لا أقرأ إلا في موضوع الأمراض التنفسية، وراجعت كثيرا من المجلات الطبية المتخصصة وقرأت مقالات متعددة عن أمراض الصدر لم أكن قد قرأتها أو اهتممت بها من قبل، وبهذه الذخيرة المتواضعة بدأت العمل.

خلال جولاتي على المرضى لاحظت أن معظمهم دخل إلى المستشفى إما لإصابته بالتهاب شديد في الرئة أو لإصابته بنوبة ربو قاسية. وفوجئت أثناء طوافي على هؤلاء المرضى أنهم كانوا يعطون المضادات الحيوية (أنتي بيوتيك) بكميات كبيرة، وبمشاركة عدة أدوية معا، خاصة تلك الأنواع الحديثة ذات الفاعلية القوية والأضرار الجسيمة، مما يخالف أبسط القواعد العلمية. وكان هذا الأمر يشمل مرضى الربو أيضا، مع أنه من المعروف أن نوبات الربو عند الأطفال تحصل غالبا تالية لالتهاب بالحمات الراشحة لا يفيد فيه (الأنتي بيوتيك).

لذلك أصدرت تعليماتي إلى أطباء الدراسات العليا بالتقليل من وصف (الأنتي بيوتيك) والتدقيق في اختيار النوع المناسب وعدم اللجوء إلى إعطاء خليط عشوائي من هذه الأدوية.

أما فيما يتعلق بمرضى الربو فقد طلبت عدم إعطائهم أي مضاد حيوي إلا إذا كان ثمة موجودات شعاعية أو مخبرية تشير إلى احتمال وجود التهاب جرثومي. خاصة أننا كنا نجري صورة شعاعية للصدر لكل مريض يدخل إلى المستشفى بسبب نوبة ربوية شديدة، خوفا من وجود اختلاطات جدية لهذه النوبة. سار العمل في الجناح في يسر وسهولة وبأقل قدر من (الأنتي بيوتيك).

ثم اضطررت إلى أخذ إجازة لمدة يومين، عدت بعدها فوجدت أنه قد قبل في الجناح طفل مصاب بالتهاب شديد في الرئة، وحالته خطرة، وكان الابن الوحيد لأحد المسئولين النافذين.

عندما عرض علي الطبيب المقيم حالة هذا الطفل فوجئت بأنه كان يتناول أربعة أنواع من (الأنتي بيوتيك)، وقد وصف كل واحد منها أحد الأساتذة الذين طلب الأب مشورتهم.

وعندما فحصت الطفل كان بحالة سبات وغياب كامل عن الوعي، وكان بين الموت والحياة وهو إلى الأول، منهما أقرب، وقد يئس الأطباء والأهل من حياته.

درست الإضبارة بتمعن، فأثار انزعاجي إعطاء الطفل كل هذه الأنواع من المضادات الحيوية التي لم تحسن بالتأكيد من حالته، كما بدا واضحا لكل ذي بصر.

إلا أنني في الوقت نفسه لم أكن أستطيع أن أوقف أيا منها، إذ لو فعلت ذلك ثم مات المريض، لقيل إن وقف الدواء كان سبب موته.

ومن جهة أخرى فإن حالة المريض الصدرية لم تكن مما يؤدي لحصول السبات لديه، وهنا أشرت على أطباء الدراسات العليا أن علينا أن نبحث عن سبب السبات، وأجرينا فحوصا عصبية كانت نتائجها طبيعية.

عندها تذكرت مقالة كنت قرأتها قبل عدة أيام، ذكرت أنه في بعض حالات ذات الرئة ينقص الصوديوم (وهو أحد أملاح الدم المهمة) بمقدار كبير. لذلك طلبت من الطبيب المقيم أن يتحرى مقدار الصوديوم في الدم بصورة إسعافية. وجاءت النتيجة خلال أقل من ساعة لتبين أن مقدار الصوديوم كان منخفضا جدا إلى مستوى خطر. وهنا طلبت من المقيم أن يعطي المريض وريديا محلولا مركزا من المصل الملحي الذي يحوي كلوريد الصوديوم (ملح الطعام)، وبحثنا في المستشفى عن هذا المحلول- الذي قل أن يستعمل- فلم نجده، فأخذنا نتصل بأكثر من مشفى، حتى تمكنا في النهاية من العثور على المصل المطلوب.

وبحماسة شديدة أخذنا نحقن هذا الطفل وريديا بالمحلول الكثيف، بعد أن حسبنا بدقة مقدار الماء والأملاح اللازمة، ففي وصف السوائل الوريدية والأملاح كل شيء بقدر.

ولم تمض ساعة على ذلك إلا وكان الطفل قد صحا من سباته، بصورة فاقت أفضل توقعاتنا. فكاد والد الطفل يجن فرحا.

عندها كنت قد امتلأت بالثقة بالنفس، فأخرجت قلمي وأخذت أشطب كل علاج رأيته غير ضروري بغض النظر عمن وصفه، خاصة ما وجدته زائدا من المضادات الحيوية.

بعد ثلاثة أيام كان الطفل يغادر المستشفى إلى بيته صحيحا معافى. نأتي الآن إلى الشعور الذي أحسست به بعد هذا الانتصار.

قد يظن البعض أنه شعور بالغرور أو الخيلاء. لكن الحقيقة أن ما شعرت به كان عكس ذلك تماما.

كان شعورا بالتواضع، أجل التواضع. فلقد أحسست وقتها أن الله يسر لي من العلم ما وفقني به إلى إنقاذ حياة هذا الطفل، فلو لم أكن قد قرأت تلك المقالة حديثا لما عرفت سبب الحالة، ولما اهتديت إلى علاجها.

ذلك الشعور بالتواضع الخالص، والشكر العميم لله تعالى، جعلني أفهم ما كنت قرأته في كتب التراث من تاريخ وأدب من أن كثيرا من الخلفاء والأمراء والحكام كانوا ساعة انتصاراتهم يسجدون لله حمدا وشكرا.

سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.