إلى أن نلتقي

إلى أن نلتقي
        

أين الوجه وأين القناع؟

          كنت أسير في شوارع نيويورك مذهولًا، كأنني داخل فيلم سينمائي حي، بدت المدينة بشوارعها المزدحمة ومبانيها العملاقة وجسورها الحديدية أشبه بحيوان ضخم خلق ليحكم العالم، ولم تترك ناطحات السحاب المتراصة والسامقة إلا مساحة صغيرة تظهر من خلالها السماء،  ولكن ما حيرني أكثر من المدينة هو شخصية المواطن الأمريكي، فهو «شخصان» في واحد، أو أنه يرتدي قناعين، واحدًا يخص د.جيكل، والآخر لا ينتمي إلا لمستر هايد، فهو داخل بلده شخص حبوب ومرح ومحب للصداقة، غير متكلف أو رسمي وعاشق للحياة، ولكنه في الخارج يقدم وجهًا آخر، وجهًا لا يحترم حياة الآخرين ولكنه يرهقها بقلب بارد وبأكبر كمية ممكنة من أسلحة الدمار، فالبطل الذي علمنا من خلال شاشة السينما كيف نحب ونعشق ونرقص تحت المطر، لا يمكن أن يكون هو نفسه الذي يقتحم قرى أفغانستان الفقيرة ويقصف الأطفال والنساء بالطائرات دون هوادة، ويزهق أرواح آلاف العراقيين بدعوى تعليمهم الديمقراطية ويقيم المعسكرات (جوانتانامو) ليؤدب حفنة من الأبرياء قادهم حظهم التعس ليكونوا في أفغانستان وقت الغزو، كيف نربط بين هذه الأفعال الوحشية وبين الاختراقات الهائلة في مجال العلم والفكر التي يقدمها لنا العقل الأمريكي؟ والذي جعل من أمريكا أكثر الدول حصولًا على جائزة نوبل، ما الذي يغير هذا المواطن الحبوب عندما يغادر قارته ويواجه العالم إلى هذا الحد؟ أجدني أتذكر هنا إحدى حكايات أستاذنا الكبير يحيى حقي من كتابه الرائع «خليها على الله»، وهو يقدم فيه صورا من حياته عندما كان يعمل وكيلا للنيابة في الريف المصري، يحكي لنا عن أحد أطباء الريف الذين قابلهم، كان متحجر القلب لدرجة تثير الاشمئزاز، لا يتحرك لإنقاذ أي مريض من عذاباته ولا يستجيب لأي توسل أو استعطاف، ولا يخرج عدته الطبية إلا بعد أن يأخذ أجره مضاعفا، ولكن الأمر كان مختلفا تماما عندما ذهب الكاتب إليه داخل بيته، كان قد قبل دعوته للعشاء محرجا، ولكن هناك أدهشه الطبيب برقته ودماثته، ومدى أناقة البيت الذي يعيش فيه، فهناك مكتبة عامرة بالكتب ولوحات فنية معلقة توحي بذوق رفيع، وزوجة مضيافة وابنة صغيرة تعزف على البيانو، وقد ذكره نموذج هذا الطبيب بالإنسان البدائي، ففي داخل بيته أو بالأحرى كهفه حيث الدفء والأمان تظهر أفضل صفاته الإنسانية، ولكن العالم الخارجي بالنسبة له هو غابة خطرة لا يأمن غدرها، عليه أن يتعامل معها بالوحشية التي تناسبها، يصطاد الحيوانات المتوحشة قبل أن تصطاده، ويبادر الجميع بالعنف ليظهر تفوقه، وينتزع كل ما يملكونه ليعود بالغنائم إلى كهفه كل مساء، هذا هو حال الفرد الأمريكي عندما يغادر قارته، كهفه المعاصر، يشعر بأنه يهبط إلى غابة العالم البدائية المليئة بالفخاخ، ويواجه شعوبا أشبه بالحيوانات المتوحشة، وعليه أن يتعامل معها بنفس الدرجة من التوحش، فالعالم خارج القارة ليس مكانا للبقاء والتآلف ولكن للصراع والتقاتل، وهو لا يمكن أن يكون آمنا إلا إذا روع من فيه أولًا، وهذا ما فعله منذ القنبلة الذرية الأولى التي ألقاها على هيروشيما، ومازال يواصل فعله حتى الآن، حتى أننا لم نعد نعرف الوجه من القناع.

 

 

 

محمد المنسي قنديل