أيرلندا الشمالية..حقل الزهور والألغام ماضي الخميس تصوير: سليمان حيدر

أيرلندا الشمالية..حقل الزهور والألغام

ما أشد التناقض على سطح هذه الأرض؛ وفي جوفها ألغام تتفجر وزهور تتفتق وما بين الجمال الساحر والفزع تنام بلفاست وتصحو فأيرلندا الشمالية يراودها حلم الفكاك من القبضة البريطانية أعداد متزايدة من الأيرلنديين تعبر عن الرفض لهذه الوحدة مع الإمبراطورية الآفلة ووسائل التعبير عن هذا الرفض عديدة وخطرة لكنها خطورة محسوبة بين صوت الانفجارات وأبسطة الزهور أو هكذا تبدو الأمور في بلفاست.

في الثالثة فجرا أفقت على صوت انفجار رهيب، اخترق الحاجز الصوتي لأذني، واجتاح خلايا جسدي جميعها، وجعلها ترتجف وجلة من شدة قرب الصوت، فتحت باب الغرفة، وإذا بزميلي المصور قد أفاق هو الآخر لسماعه ذات صوت الانفجار، بخطوات متسارعة وأرجل تصطك مع بعضها البعض نزلنا درجات السلم المؤدية إلى بهو الفندق، والقلب لا يكف عن الخفقان بدقات غريبة وغير منتظمة، والعقل استرجع مباشرة جميع التحذيرات التي تلقاها ببرود، وجميع الحوادث التي قرأ عنها أو سمعها في نشرات الأخبار عن هذه المدينة، وصلنا البهو ونحن نلهث وعلامات الاستفهام تتطاير من وجوهنا، والفزع باد على ملامحنا، ولكننا فوجئنا بأننا نحن فقط المرعوبون، وأن كل شيء هادىء وساكن، خفت درجة حدة التوتر التي كانت تجتاحنا، وبخطوات سريعة متضاربة وقطرات العرق بدت واضحة على وجهي، اتجهت إلى موظفة الاستقبال التي بادرتني قائلة: هل من خدمة أؤديها لك؟ قلت بعد أن بللت ريقي بكأس من الماء كان موضوعا على طاولة الاستقبال، ومسحت ما علق من قطرات العرق على وجهي بمنديل كان بجنب كأس الماء: كأنني سمعت صوت انفجار بالقرب منا، هل حدث شيء؟ قالت وابتسامة جميلة تعلو وجهها الطفولي: لا تقلق يا سيدي، فهـذا أمر اعتيادي، ونحن هنا في (بلفاست) قد اعتدنا سماع صوت الانفجارات، خاصة في مثل هذا الوقت من اليوم.

قلت: أوهي بعيدة من هنا؟

قالت: لا تقلق إنها بعيدة جدا، ونحن هنا بالفندق محاطون بأدق أنواع الحماية.

قلت: لست قلقا إلى هذه الدرجة، ولكن لي عملا مرتبطا مع هذه الانفجارات، أحب أن أؤديه.

قالت: يا سيدي هنا في بلفاست تستطيع أن تؤدي العمل الذي تشاء، ولكن في الصباح.

شكرتها، والتفت إلى زميلي الذي وجدته قد غط في سبات عميق على إحدى الأرائك، أفقته وقد اكتشفت أنني أحمل في يدي كاميرتي الصغيرة وجهاز الكاسيت، وأن زميلي يحمل هو الآخر كاميرته، فحتى في هذه اللحظة لم نستطع أن ننفك عن مهنتنا.

عدنا إلى الغرفة ونحن نضحك على وضعنا، وكيف كانت حالنا قبل قليل.

رن جرس الهاتف وكانت المتحدثة على الطرف الآخر تسأل: بعثة مجلة العربي؟ قلت: نعم. قالت! اسمي (هيلاري) وأنا مرافقتكم هنا في بلفاست، وسأكون أمام باب الفندق الذي تسكنون فيه تمام الثامنة والنصف أي بعد خمس وأربعين دقيقة، هل أنتم مستعدون؟ قلت: بالطبع. قالت: اتفقنا.

في الثامنة وعشر دقائق كنا نتناول إفطارنا في أحد أركان الفندق الهادئة، بينما نحن كذلك لمحت رجلا عجوزا يرمقنا من مكانه بنظرات غريبة، أشرت له بيدي محييا من بعيد، فهم واقفا واقترب منا، وقال: أغراب؟ قلت: نعم، قال: ومن أين؟ قلت: الكويت. قال بعد أن أخذ يتفحصنا بنظرات أكثر دقة: آه.. أهلا وسهلا بكم، ولكن ماذا تفعلون هنا في بلفاست، قلت: نحن  صحفيون وقد جئنا لعمل استطلاع صحفي مصور عن مدينة بلفاست، وقبل أن يطرح أسئلة أخرى بادرته قائلا، أود أن أسألك: هل سمعت صوت الانفجار الذي وقع فجر اليوم؟

قال: نعم، وهذا أمر معتاد في بلفاست، قلت: أو جميع الانفجارات تقع في مثل هذا الوقت؟ قال: في الغالب، فالثوار الايرلنديون غالبا ما يقومون بوضع متفجرات في أوقات كهذه لا يكون فيها أناس، فهم لا يريدون إيذاء أحد، وهم يريدون فقط إيصال رفضهم للاتحاد مع بريطانيا، ولو أصيب أحد بأذى بسببهم لكرههم الناس، ولخسروا قاعدتهم الشعبية من المواطنين.

إنها الثامنة والنصف إلا دقيقتين، ويجب أن ننطلق، شكرت صاحبي، وقلت له: إننا يجب أن نلتقي مرة ثانية، فلدي الكثير من الأسئلة والاستفسارات التي أود أن أتحدث فيها معك، قال: بكل سرور، وأنا موجود هنا دائما.

المبادرات الحكومية

في الموعد تماما وجدنا مرافقتنا عند المدخل الرئيسي للفندق، انطلقنا بعد أن تعارفنا، وقالت: لدينا اليوم برنامج حافل باللقاءات والزيارات. وقد فاجأتنا عندما قالت: أتعلمون أنكم أول صحفيين عرب يأتون لزيارة بلفاست، قلت: نحن هكذا دائما نبحث عن الأماكن غير المعتاد ارتيادها.

قالت مرافقتنا: سنلتقي أولا بالسيد فيليب ماجفيري (مساعد رئيس المكتب الإعلامي لمدينة بلفاست) الذي سيصحبكم في جولة طويلة حول المدينة، ويمكنكم الاستفسار منه حول أي معلومات. انطلقت بنا السيارة تجوب أنحاء المدينة الحائرة والتي حيرتنا معها فقد جعلني جمال المدينة وروعتها وهدوؤها أنسى أنني هنا في إحدى مدن الإرهاب وانعدام الأمان. قلت للسيد فيليب الذي لم يكف عن الكلام مذ أن انطلقت السيارة بنا: أريدك أن تحدثنا عن المجتمع الأيرلندي.

قال: سأجيبك عن هذا السؤال بشكل مباشر، قلت: وهذا ما أريد، فاسترسل قائلا: أيرلندا الشمالية مجتمع منقسم على ذاته بعمق، وتعود جذور هذا الانقسام العميق إلى مئات السنين من التاريخ الأيرلندي والبريطاني، ومن هذا الانقسام تتحقق أعمال العنف المتواصلة، وعدم الاستقرار السياسي، والصورة المشوهة للمنطقة، وهذه جميعها لها آثار وانعكاسات سلبية خطيرة من الناحيتين البشرية والمالية.

ولقد جرت في السنوات القليلة الماضية تطورات بناءة في مواقف الشعب في أيرلندا الشمالية وقي السياسات المتبعة من قبل الحكومة، وأدركت الحكومة الحاجة الماسة لتكوين مناخ مناسب للحوار والمناقشة ، شريطة أن يتحول هذا الحوار إلى تعزيز فرص المصالحة والاحترام المتبادل للعادات والتقاليد المتباينة والموجودة داخل المجتمع الأيرلندي.

ولعل المهمة الأساسية تتمثل في مواجهة التحدي القاضي بتعليم الناس سبل العيش المشترك بسلام، وذلك بإنشاء هياكل سياسية تستطيع التوفيق بين المعتقدات والطموحات والتقاليد المختلفة، ولذا فقد قامت الحكومة بوضع سياسات للعلاقات الاجتماعية وللمبادرات على السواء، فالسياسة الراهنة للحكومة بالنسبة للعلاقات الاجتماعية تستهدف تحقيق الأهداف الأساسية الآتية:
ا - زيادة مستوى الاتصالات بين أفراد المجتمع.
2 - الدعوة لمزيد من التفاهم المتبادل، ومزيد من الاحترام للثقافات والتقاليد المختلفة.
3 - تأمين فرص المساواة والمعاملة الحسنة لجميع المواطنين.

وتقوم الحكومة بالعديد من المبادرات في أيرلندا الشمالية من أجل كسب رضا المواطنين، فقد عمدت لإجراء إصلاحات تربوية رئيسية شاسعة كما خصصت مبالغ طائلة لدعم التراث الثقافي والتباين في مجالات الفنون والمتاحف والمطبوعات ووسائل الإعلام وغـيرها، كما قامت الحكومة بدعم واسع النطاق للأنشطة المتعلقة باللغة الأيرلندية، ووضعت الحكومة خطة مركزة من أجل التفاهم الديني بين أفراد المجتمع.

هنا قاطعت السيد فيليب وقلت: أريد أن أعرف القصة كاملة، لماذا يحدث في أيرلندا ما يحدث من أعمال عنف، وما هي أسبابها؟

قال: إنها حكاية قديمة وطويلة أيضا، ولكن قبل أن أحدثك بها يجب أن أعطيك خلفية تاريخية وبعض المعلومات عن أيرلندا الشمالية، وأعطاني مجموعة من الأوراق لأقرأها وأشار إلى السائق ليتجه ناحية أحد المرتفعات، وبينما السيارة تنطلق بنا جلست أقرأ على عجالة ما تحتويه هذه الأوراق.

أيرلندا الشمالية، جزء من المملكة المتحدة (بريطانيا العظمى وشمال أيرلندا)، تبلغ مساحتها حوالي (121، 14) كم مربعا، ويبلغ عدد سكانها مليونا وخمسمائة وتسعة وثمانين ألف نسمة، من بينهم (اربعمائة وتسعون) ألف نسمة يقيمون في ضواحي العاصمة (بلفاست).

لم أكمل قراءة بقية الأوراق، قال السيد فيليب: نحن الآن في أعلى منطقة ارتفاعا في مدينة بلفاست، نزلنا من السيارة ومشينا على الأقدام، قال فيليب: هل أنت مستعد لسماع الحكاية القديمة، قلت: كلي أذن صاغية، وأتمنى لو تروي الحكاية بكامل تفاصيلها.. قال: ن مجرد وقوع أيرلندا الشمالية بالقرب من بريطانيا العظمى جعل الناس والتجار والمرتزقة والبضائع والأفكار تتدفق إلى ما بين المنطقتين لقرون عديدة، ولو تعلم فإن القديس (باتريك) الذي حول أيرلندا إلى الديانة المسيحية أتى من البر البريطاني، كما أن القديس (كولمبو) الذي حول اسكتلندا إلى المسيحية أتى من أيرلندا ذاتها، ويوجد في بريطانيا العظمى حاليا أعداد من الأيرلنديين أكثر من المقيمين في أيرلندا ذاتها.

وتعود العلاقة الرسمية ما بين بريطانيا العظمى وأيرلندا إلى قدوم قائد (الانغلو- نورمان) في القرن الثاني عشر للميلاد، والتي عززت فيما بعد باستيطان مستوطنين من الاسكتلنديين والإنجليز في القرنين السادس والسابع عشر للميلاد، واليوم فإن حوالي (60%) مـن سكان أيرلندا الشمالية عبارة عن مسيحيين (بروتستانت- إنجيليين) و (40%) من المسيحيين (الكاثوليك)، وتعتبر الاكثرية (البروتستانتية) نفسها بريطانية وتود البقاء مع المملكة المتحدة، في حين أن أغلب الكاثوليك يعتبرون أنفسهم أيرلنديين.

وفي القرن التاسع عشر كانت هناك محاولات وممارسة ضغوط لمنح أيرلندا الشمالية حكما ذاتيا محدودا، وقد قوبلت هذه المحاولات برفض تام، ومقاومة متزايدة من الفئات البروتستانتية في الأقضية الشمالية من أيرلندا الشمالية، وبعد ثورة عيد الفصح عام (1916) فاز الوطنيون (القوميون) بجميع المقاعد تقريبا (في خارج بولستر) في انتخابات وست منستر العامة  التي أجريت في عام (1918) وعليه فقد قرروا إقامة برلمان خاص بهم في مدينة دبلن. ويكمل السيد فيليب حديثه الشائق عن الجذور التاريخية لما يحدث حاليا في أيرلندا الشمالية من أعمال عنف، ونحن نسير على الأقدام والهواء البارد يداعبنا بلطف، والغيوم في السماء ترقبنا بتودد، والشمس تطل علينا باستحياء، تمنع أشعتها من ملاحقتنا، وقد لاح لنا عن قرب سور عظيم، شاهق الارتفاع، ولولا خشية الاتهام بالجهل لقلت إن هذا هو سور الصين العظيم!!

قال السيد فيليب:
في ديسمبر 1921 تم توقيع معاهدة (انغلو- أيرلندية) التي قضت بإنشاء (دولة أيرلندية حرة) في عام 1922 أي دولة مستقلة في الكومنولث البريطاني، وفي عام 1949 أصبحت (الدولة الحرة) جمهورية، وانسحبت من الكومنولث، ومن عام 1920 إلى 1972 أصبح لأيرلندا الشمالية حكومة إقليمية، مقرها (ستورموت) في خارج مدينة بلفاست.

وفي عام 1985 تم توقيع اتفاقية بين حكومة المملكة المتحدة وحكومة جمهورية أيرلندا، ومن أبرز ما جاء في الاتفاقية أنه إذا ما قررت الأغلبية من سكان أيرلندا الشمالية في المستقبل اقامة أيرلندا موحدة فإن كلتا الحكومتين ستقومان بوضع مشروع قانون لتحقيق ذلك وبالتالي تأييده.

التطورات الأخيرة.. وأعمال العنف

وصلنا الحائط الصامد أو السور العظيم أو السد المنيع، لا اسم محددا له، ولكن توجد له وظيفة غاية في الأهمية، فهذا السور الذي يخترق مدينة بلفاست من المنتصف ويقسمها إلى نصفين، يفصل ما بين الكاثوليك والبروتستانت، ولولاه لكانت هناك معارك ضارية يوميا بينهم وإن كان السور لا يمنع وقوعها الآن ولكنه يخفف من كثرتها ومن حدتها.

صرنا نتمشى بجانب السور والعربات العسكرية المصفحة ذات اللون الرمادي لا تكف عن الدوران حول السور، ويعتلي كل عربة رجل بزي عسكري، منتصبا بوضع الاستعداد، يمسك بكلتا يديه رشاشا كامل الذخيرة، ويحمل بجيبه تصريحا باستخدام الرشاش متى ما شعر بوجود مخربين.

قلت لفيليب: متى بدأت أعمال العنف التي نسمع عنها حاليا؟، استدار إليّ وقال وكأنه ينتظر مني هذا السؤال: بدأت أعمال العنف في أيرلندا الشمالية عام 1969، وذلك عقب ظهور حركة حقوق الإنسان الساعية لتحسين فرص الأقليات للحصول على العمل والإسكان والتعليم والتمثيل الانتخابي.

وقد اتخذت الحكومة العديد من الإجراءات والتدابير للإصلاح ومن أبرزها حظر التمييز الديني، وبعد تطبيق هذه الإجراءات زالت الاضطرابات الطائفية في البلاد.

ولم تستمر الحال على ما هي عليه.

وفي أوائل السبعينيات قام الوطنيون المتطرفون، خاصة الجيش السري الأيرلندي، بالإضافة الى بعض الجماعات الإرهابية مثل (لوياليست) أي الموالين، باستغلال الانقسامات التاريخية في أيرلندا الشمالية، ونظموا حملات العنف.

وفي عام 1972 تم تعليق الحكومة، وفي العام الذي يليه حل البرلمان الإقليمي، وأدخلت الترتيبات الحالية لحكم مباشر من (وست منستر)، وفي عام 1982 أجريت انتخابات برلمانية، وفي الخامس عشر من نوفمبر 1985 وقعت حكومتا المملكة المتحدة وأيرلندا اتفاقا استهدف تعزيز السلام الدائم والاستقرار ما بين الجهات (الوطنية) و (الاتحادية) وتعزيز الصداقة بين البلدين وإقامة التعاون بينهما، وتقوية إجراءات الأمن، كما اتفقوا على أن أي تغيير في وضع أيرلندا الشمالية يجب أن يكون برضا الأكثرية من سكانها.

وفي هذا الإطار تم إنشاء هيئة برلمانية بريطانية- أيرلندية في شهر فبراير 1990، لبحث القضايا السياسية والأمنية وشئون المجموعة الأوربية والمسائل الاقتصادية والاجتماعية والتربوية والبيئية.

قلت للسيد فيليب: ما هي أبرز المنظمات التي تقوم بأعمال العنف؟

قال: لا تستعجل، فأنت على موعد مع المسئول الأمني والعسكري في بلفاست، وسوف يتحدث معك في كل شيء، ومن الأفضل أن تقرأ بقية الأوراق التي أعطيتك إياها قبل أن تقابل السيد ماكارتيني.

أمسكت بالورق، وأخذت أقلبه وأقرأ ما جاء فيه، ونحن في طريق عودتنا إلى السيارة، وقرأت: إن المنظمة الإرهابية الرئيسية في أيرلندا الشمالية هي منظمة الجيـش الجمهوري الأيرلندي (I.R.A) المؤقتة ، وهذه المنظمة تهدف إلى إجراء تغيير سياسي باستخدام القوة من أجل تكوين أيرلندا الموحدة، وذلك ليس بانسحاب بريطانيا من أيرلندا الشمالية فحسب، بل وبالإطاحة بحكومة الجمهورية الأيرلندية ذاتها واستبدالها بجمهورية اشتراكية.

كما يوجد العديد من المنظمات الأخرى مثل (بولستر فولنشير فورس) أي قوة متطوعي بولستر، و (بولستر فريدم فايتر) أي محاربي بولستر من أجل الحرية، وهاتان المنظمتان تهدفان إلى توجيه ضربات ضد أبناء الطائفة الكاثوليكية في أيرلندا الشمالية.

لفت انتباهي وأنا أقرأ ما بين يدي من ورق أننا نتجه خارج حدود مدينة بلفاست، باتجاه غابة خضراء أو حديقة غناء، والحق أن أيرلندا جميعها وكما رأيتها من أعلى قممها عبارة عن غابة كبيرة تظللها الأشجار وتكسوها الخضرة وتجملها الأزهار.

قالت (هيلاري): إننا الآن باتجاه مقر الحكومة حيث سنلتقي بالمسئول الأمني والعسكري. وصلنا بوابة مقر الحكومة وإذا هي أرض خضراء مترامية الأطراف لا تستطيع بالعين المجردة أن تعرف أولها من آخرها، تزينها قصور متفرقة سجل التاريخ فيها وعنها أهم وقائع الأحداث في عمر هذه المدينة، اقتربنا من أحد القصور وأخذت أتأمل فيه عن قرب، وكأن التاريخ والحوادث التي أبحث عنها لأدونها قد سطرت على جدرانه، وكأن القصر نفسه لم تشيده يد بشربل قد يكون نبت من الأرض مع بقية الأشجار التي تحيط به.

دخلنا القصر، في الطابق العلوي، كان السيد جون ماكارتيني المسئول الأمني والعسكري بانتظـارنا وكنت أحمل معي العديد من الأسئلة والاستفسارات والمعلومات، وقد بادرته قائلا: أريد أن أعرف منك شخصيا تاريخ المشكلة وجذورها وتطوراتها.. قال: بدأت المشكلة قبل مئات السنين، فقد كان الصراع بين البريطانيين والأيرلنديين قديما ومستمرا، في بادىء الأمر كان الأيرلنديون يتولون الحكم في البلاد، واستمروا لقرون طويلة، بعد ذلك تحول الحكم إلى النظام الكاثوليكي لفترة من الزمن حتى جاء ملاك الأراضي من البريطانيين، ومنذ ذلك الحين بدأت المشكلة. وأضاف: إن النزاع الحالي بدأ عام 1921 لكنه لم يستمر طويلا، وخفت حدته، وفي عام 1968 اشتعل مرة أخرى بسبب الاتحادات بعد أن كانت الأمور قد هدأت، فقد شعر الكاثوليك أنهم فقدوا السلطة والعديد من الوظائف، ثم ظهرت الفروق الطائفية التي أدت إلى انتفاضة من جانب الكاثوليك، لكن الحكومة أجهضت تحركاتهم رغم كونها سلمية، وقد بالغت الحكومة في الرد والتصدي لهم، ثم بدأت أعمال العنف تظهر وتتواصل.

وتحولت مظاهرات الناس السلمية في الشوارع إلى أعمال عنف وشغب، وأصبح الهدف الرئيسي قتل الشعب ونشر الفوضى، ولكن العنف السياسي قوبل بالرفض من قبل المواطنين الذين كانت الغالبية منهم ترجح الحلول السلمية. وفي بداية السبعينيات شهدت البلاد أسوأ موجة عنف.

معدل القتلى كان (80) شخصا في العام وأغلبهم من المدنيين.

قلت: وكيف تواجه الحكومة هؤلاء؟

قال: الحكومة تبذل قصارى جهدها للسيطرة على الجماعات الإرهابية، ولكن هذا ما نسميه (ديموقراطية) فهناك دائما تعارض في الآراء، وكل شخص يختلف عن الشخص الآخر في أسلوب التعبير عن رأيه، وهذا لا يعني أنني أبرر أعمال العنف وتعريض حياة البشر للهلاك، إنما يعني ترك الأمر للبرلمان المختار من الشعب، والبرلمان يتقبل تعايش مختلف الفئات.

ولقد أصبح من الصعب على الحكومة إدانة المتهمين بأعمال العنف وذلك بسبب دقة عملهم، فـالإرهابيون خبراء في إخفاء الأدلة، كما أنهم يجيدون اختيار المكان والزمان المناسبين لتنفيذ عملياتهم، ولو تصدق فإن أعضاء الجماعات أنفسهم لا يعرفون الشخص المكلف بتنفيذ أي عملية تخريبية، فقد أصبحوا مهرة في تنفيذ الأعمال الإرهابية وهم لا يفصحون عن طبيعة عملهم ولا يجازفون في تنفيذها.

سألته: ولكن كيف السبيل لإنهاء هذه الأعمال الإرهابية؟

أجاب: لا سبيل لإنهاء الأزمة إلا بإقناع الناس بأن الحكومة تعمل من أجل مصلحة الجميع.

فالجيش، الجمهوري الأيرلندي، يسعى لتوحيد أيرلندا، ولكن ليست هناك وسيلة للاندماج بالقوة، ومن المستحيل تحقيق ذلك عن طريق الأعمال التخريبية والإرهاب، وعلى الناس أن يعوا هذه الحقيقة.

والمشكلة الحقيقية في أيرلندا الشمالية، أن هناك فئتين متحاربتين من (الكاثوليك والبروتستانت) ومن المستحيل إجبارهم على التعايش السلمي، كما أنه يستحيل إنهاء العنف بالقوة، فكلما زاد القمع زادت أعمال العنف بل وزاد تأييد الناس لها، لأن الناس سيرون الحكومة وكأنها تقمع الشعب، ورغم هذا فالمنطقة هنا آمنة رغم أن أعمال العنف تودي بحياة ثمانين شخصا في العام تقريبا، فالناس هنا ملتزمون بالقانون، والمنطقة عموما أكثر أمنا من لندن، خاصة أن معظم أعمال العنف تتركز فى مناطق معينة وهي تلك التي يتركز فيها الجيش الجمهوري، ولكن الشرطة أيضا موجودة في هذه المناطق، وعموما فإن الانتماء للجيش الجمهوري جريمة يعاقب عليها القانون.

مع الناس في حياتهم اليومية

المساء باغتنا دون استئذان أدركنا أن الليل في بلفاست يحل قبل موعده بثلاث ساعات، وأن المساء يأتي قبل الليل، وأنه لا يرتبط بالظلام ولكنه مرتبط بشيء آخر يشبه الظلام والليل في اللون فقط.

بعد السادسة مساء لا ترى شيئا يتحرك في شوارع بلفاست سوى شبيهات الظلام والليل وهي عربات مدرعة يكسوها اللون الأسود القاتم السواد لا يظهر منها شيء سوى بضع مواسير ظاهرة يبدو أنها مقدمة سلاح رشاش، تبدأ العفاريت السود (كما يطلق عليها في بلفاست) تجوب الشوارع، ومع أنها دليل دامغ لوجود خلل في الأمن إلا أنها تعطي المواطنين نوعا من  الارتياح والطمأنينة.

كنا في طريق عودتنا إلى الفندق الذي نسكن فيه، والذي هو عبارة عن غابة كبيرة تحيط به الأشجار من كل جانب يتوسطها قصر مبني على الطراز الأيرلندي القديم، محاط بأدق رعاية أمنية.

في طريق العودة وقد خلت شوارع بلفاست من أي جنس بشري إلا من خرج لحاجة ضرورية ليقضيها، كانت العربات السوداء المدرعة هي التي تتحرك فقط، وبينما الشارع في كامل هدوئه، وبينما أنا قد أرخيت رأسي على المقعد الأمامي للسيارة التي تنطلق بنا من شارع لشارع بحثا عن مخرج، فهناك لا تعلم أي الشوارع سالك في الليل، وإذا بي أحس بالنافذة الخلفية للسيارة قد أنزلت وإذا بزميلي المصور قد أخرج نصف جسده وأخذ يلتقط الصور لهذه المدرعات، فزع السائق وكأن كارثة قد وقعت، وقبل أن يتفوه بأي كلمة، وجهت أنوار الكشافات الضوئية باتجاهنا، وأحاطتنا سيارتا شرطة لم نعلم من أين خرجتا، أيقنا أن ثمة خطأ قد وقع، أنزلنا من السيارة التي أحيطت بستة أو سبعة من المسلحين، خلت للحظة أنني قد أغفيت، وأن ما أراه أمامي ما هو إلا حلم، ولكنني أمسكت بيدي الأخرى بقوة فأحسست بالوجود والوعي، منظر مفزع جدا، لم أتخيل أنني سأتعرض له، مع أنني كنت أراه دائم الحدوث في الأفلام الأمريكية، تكلم أحدهم بلهجة أيرلندية لم أفهم معناها، ولكنني سارعت بإظهار هوية الصحافة الدولية، التي لم يأبه بها، وقلت: نحن صحفيون.. وبعد سيل من الأسئلة والاستفسارات والتحقق من هويتنا وتفتيش السيارة التي كنا نستقلها، وبعد أن اعتقدت أننا وقعنا في شر أعمالنا، وأنه لا مخرج لنا، جاء الفرج فجأة، بعد أن أتى أحدهم وكان يجري اتصالات مكثفة ويظهر أنه كان يسأل عنا، تركونا لحال سبيلنا محذرين إيانا من تكرار الفعلة مرة أخرى، ولم ينسوا بالطبع أن يأخذوا الفيلم الذي كان في الكاميرا وبقية الأفلام الأخرى.

في الطريق قال لي سائق التاكسي: إنني طوال عمري في بلفاست ولم أحتك بهؤلاء الناس، وإنها المرة الأولى التي أخاطب فيها أحدا منهم.

قلت له: أو تخشونهم؟ قال: ليست المسألة خشية أو خوفا، ولكنهم واقع مفروض علينا مثل الإنجليز، ولا شيء بأيدينا، فمنذ مائتي سنة تقريبا والإنجليز يتحكمون بنا حتى أنهم أجبرونا على التحدث باللغة الإنجليزية ومن يتكلم باللغة الأيرلندية (الجايلي) فإن مصيره الموت ولقد حاولوا مسح الثقافة الأيرلندية والقضاء على التراث ولكنهم لن يستطيعوا.

قلت: أنت إذن ضد الوحدة مع بريطانيا؟

قال: بالطبع، وبعد عشر سنوات لن تجد الإنجليز بيننا. وصلنا الفندق، وودعنا سائق التاكسي الثائر، وبعد هذا العناء الفكري والجسدي الذي تعرضنا له كان يلزمنا قسط كبير من الراحة والنوم.

بلفاست جميلة.. ولكن

الصباح كان جميلا، والأشجار قد كست الأرض ظلالا، وقطرات الندى العالقة على الأوراق تتساقط تباعا، والشمس حانية هادئة، والطقس معتدل بدقة متناهية، والأزهار تفتحت وأظهرت ألوانها الجذابة الخلابة، وكانت تمثل روعة الجمال في حديقة الفندق الكبيرة.

الثامنة والنصف تماما عند الباب الرئيسي للفندق وقفت السيارة السوداء ونزلت منها (هيلاري) لتكمل معنا جولاتنا ولقاءاتنا في بلفاست.

انطلقت بنا السيارة تجوب الشوارع المزدحمة وكأنها لم تكن بالأمس قد توقفت عن نبض الحياة، وبينما نحن في الطريق، أخذنا نروي لهيلاري ما تعرضنا له البارحة وهي ما بين تعجب ودهشة، لا تخفي معهما ابتسامتها، حتى توقفنا عند أحد القصور الرائعة البنيان. نزلنا، سرنا في ممرات القصر الفسيحة، الحوائط كانت تنطق بالتاريخ، والأبواب كانت تفوح منها رائحة الماضي العبقة والأرضية الرخامية بيان للجاه والعز، والسقف الذي كان يشع بأنوار الثريات القديمة المعلقة يكسو المكان هيبة تاريخية، والفخامة كانت تدل على أن لهذا القصر حكاية، والصور المعلقة للملوك المتعاقبين على حكم بريطانيا العظمى تدل على أهمية المكان.

جلسنا في إحدى القاعات الفخمة جدا، تتوسطها صورة كبيرة للملكة (اليزابيث) في شبابها وقد رسمها فنان مبدع، وبجانبها صورة أخرى (للأمير تشارلز) ولي عهد بريطانيا، إضافة لصور أخرى كثيرة من تاريخ أيرلندا.

نحن على موعد مع محافظ مدينة بلفاست اللورد سميث، وهذا القصر هو مقر المحافظ وكعادة الملوك القدماء دخل علينا طاقم الخدمة يسألوننا عما نفضل من شراب بعدها دخل علينا رجل ضخم يرتدي زيا غاية في الغرابة والفخامة ليعرفنا بنفسه أنه كبير الموظفين الخاصين باللورد سميث، وأن اللورد في طريقه إلينا، ونحن وسط ذهولنا اللا إرادي فتح الباب وصاح الرجل الضخم وكأنه في ساحة معركة معلنا دخول اللورد، وكنت أتخيله سيدخل علينا ممتطيا جواداً أبيض يحيط به جنود من الطراز القديم، وقد ارتدى زيا كما الملوك الأوائل الذين نشاهدهم في الأفلام التاريخية. دخل علينا الرجل وإذا به مثلنا تماما يرتدي بذلة رسمية، في العقد الخامس من عمره تقريبا، يضع على رقبته قلادة من الذهب الخالص نقشت عليها نقوش غريبة جميلة، تمتد حتى منتصف بطنه، وهذه عادة توارثوها منذ القدم بأن يرتدي المحافظ هذه القلادة.

قلت للورد سميث وقد جلس بجانب المدفئة التي تمثل بحد ذاتها حائطا أساسيا من حوائط القاعة التي نجلس بها: لقد لاحظت امتزاج الجمال بالرعب والعنف في بلفاست!! كيف تفسر لنا هذه الظاهرة؟ قال بعد أن اعتدل في جلسته: "بلفاست أجمل مدينة في أوربا، ورغم المشاكل فإنها تحمل كل معاني الجمال، والشيء الجميل لدينا أننا نعزف بالمشكلة التي نعاني منها، والجميع هنا يسعى بطريقته لإيجاد السلام، ونحن نشجع أي شخص مهما كانت مهمته صغيرة على السير في طريق السلام.

المشكلة في بلفاست هي العنف، ويصعب تحديد الوسيلة لإنهاء تلك المشكلة، ولكننا نرى أن عدد المطالبين بالسلام أخذ يتزايد، وأصبحت نسبة المرتبطين بصورة مباشرة بالعنف قليلة، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال المنازل الكثيرة المنتشرة في بلفاست فهي خير دليل على الاستقرار".

واللورد سميث متفائل جدا بالمستقبل ويعتقد: "أن الغالبية بدأت تعي أهمية السلام في المنطقة، وأن هذه الأغلبية هي التي ستتغلب في النهاية على العنف وعلى الفئات المشاكسة، وأننا سنرى السلام قريبا وقد عم بلفاست، خاصة أننا نعيش الآن بداية محادثات بين الأحزاب المختلفة مما يمهد الطريق للسلام ".

وعندما قلت له: هل تعتقد أن بلفاست بعد أن يعمها الاستقرار ستكون عاصمة سياحية؟ رد بلا النافية، وقال: هذا صعب جدا، فحتى قبل نشوء المشاكل لم تكن بلفاست مدينة سياحية، ورغم ما بها من مناطق تصلح للسياحة مثل الصروح التاريخية والمناظر الطبيعية التي تستحق الزيارة إلا ان بلفاست تظل عاصمة يصعب اعتبارها مدينة سياحية.

غادرنا قصر المدينة، وطلبت من مرافقتنا (هيلاري) أن نقوم بجولة في أنحاء العاصمة بلفاست، قالت: ومن أين تحب أن نبدأ؟

قلت: من هنا. وأشرت باتجاه البحر، قالت: فكرة رائعة، وانطلقنا باتجاه البحر، وعند البحر كان هناك ميناء تجاري غاية في الضخامة والكبر، وبجانبه يوجد مصنع لصناعة السفن بجميع أشكالها وأحجامها، وقد علمت ان هذا المصنع واحد من أكبر مصانع السفن في العالم، وفيه تم بناء سفينة (تيتانيك) الأمريكية والتي غرقت بعد أن ارتطمت بصخور جليدية، وهذا  الحادث يعتبر أكبر حادث بحري.

تركنا الميناء والمصنع واتجهنا ناحية المتحف الأيرلندي، عند البوابة الرئيسية للمتحف، كان في انتظارنا السيـد (وينت) مدير المتحف الذي صحبنا في جولة بأرجاء المتحف الضخم، وقد رأينا التاريخ وقد عرض بوقائعه، وفي المتحف يعرضون تاريخ بداية أشهر الصناعات والحرف ابتداء بصناعة الإطارات، ويعتبر الأيرلنديون أول من صنع إطارات دانلوب، مرورا بصناعة السيارات وتطورها، إلى نشوء حرفة الطباعة وتاريخ مسيرتها، وكيفية تطويرها، إضافة إلى كثير من الصناعات الأخرى.

وفي هذا المتحف توجد أجنحـة مختلفة، ففي داخل المتحف يوجد متحف مصغر يضم العديد من آثار الدول ذات التاريخ العريق، فيوجد على سبيل المثال جناح خاص للآثار والمومياوات المصرية القديمة التي أحضرها الأيرلنديون معهم عام 1835 من مصر عندما كان المستكشفون الأيرلنديون يحفرون في مصر بحثا عن الآثار، وقد كان هناك اتفاق مع المصريين على أن يكون للأيرلنديين نصيب من هذه الآثار، كما يوجد جناح خاص بأمريكا قبل وبعد كولومبوس. ويوجد أيضا جناح خاص للحيوانات التي انقرضت (خاصة الديناصورات) وقد علمت أن قصة الفيلم الأمريكي (الحديقة الجوارسكية) مستوحاة من هذا المتحف، حتى أن الفيلم أشار إلى أن الديناصورات وجدت في شمال أيرلندا، كما يوجد جناح خاص لأشهر الرسامين والفنانين الأيرلنديين مثل جون لافري (1856- 1941)، وجيكو موكريتي (1698- 1767)، وجوشيارينولدز، وغيرهم، ويوجد بجانب المتحف مبنى الجامعة الملكية في بلفاست، دخلنا مبنى الجامعة المشيد وسط حديقة كبيرة تعطي إحساسا دائما بالنشاط، وجلنا في أرجاء الأقسام العلمية، توقفنا عند لافتة صغيرة معلقة في وسط باب خشبي قديم وإن كان يحمل بعض علامات التجديد، كتب عليها كلمتا (قسم الاقتصاد)، توقفت وطلبت أن أتحدث مع بعض الأساتذة في هذا القسم، دخلنا وإذا بمجموعة من الأساتذة جالسين يتناقشون في موضوع ما، وبعد أن عرفناهم بأنفسنا قلت: لدي بعض الأسئلة والاستفسارات التي أبحث لها عن إجابة!

قالوا: تفضل. قلت: أولا، أريد أن أعرف نبذة مختصرة عن الوضع الاقتصادي في أيرلندا الشمالية.. قال أحدهم: إن الاقتصاد في إيرلندا الشمالية جزء لا يتجزأ من اقتصاد المملكة المتحدة، فخلال عقد الثمانينيات ساهم الإقليم في استعادة عافية الاقتصاد القومي، الذي ساعد بدوره في تحفيز النشاط الصناعي والاقتصادي، ولعل اعتماد اقتصاد أيرلندا الشمالية  على القطاع العام بالإضافة إلى قاعدة صناعية صغيرة نسبيا جعل الإقليم أقل عرضة للتقلبات الدورية.

قال آخر: المشكلة الأساسية تكمن في البطالة، فقد وصلت نسبة البطالة فى عام 1992 إلى (103.800) في مقابل (125.300) عام 1986، وعلى الرغم من ارتفاع العدد المطلق إلا أن النسبة تدنت، فنسبة عدد العاطلين في قوة العمل عام 1992 بلغت (14.2%) في حين أنها كانت (17.7%) عام 1986.

وتدخل أستاذ آخر في الحديث كان يضع "بايب" في فمه ويرتدي نظارة سوداء، وقد بدا واضحا تقدمه في العمر، وقال: إن القطاع الزراعي يعتبر أحد أكبر القطاعات الاقتصادية في الإقليم، إذ تبلغ نسبة العاملين فيه (7%) من جملة قوة العمل، مما يعني أن نسبة العاملين في الزراعة في أيرلندا الشمالية تصل إلى ثلاثة أضعاف نسبة العاملين في القطاع الزراعي في المملكة المتحدة.

قلت: ألا تعتقدون أن للسياحة دوراً كبيراً في تنشيط الاقتصاد؟

قال أحدهم: إن القطاع السياحي في أيرلندا الشمالية مختلف عن القطاعات السياحية في بقية أقاليم الجزر البريطانية، ويرجع السبب في ذلك إلى أن صورة أيرلندا الشمالية وخلال العشرين سنة الماضية أصبحت مشوهة بسبب أعمال العنف، ورغم هذا فقد أكدت نتائج دراسة علمية أجريت حديثا أن السياحة واحدة من الصناعات القليلة جدا ذات إمكانات النمو السريع.

وأطلعني أحد الأساتذة على إحصائية حديثة لأعداد السياح، تشير إلى أنه وللسنة الثالثة على التوالي يزداد عدد السياح الذين يتوافدون إلى إيرلندا الشمالية، ففي عام 1991 وصل عدد السياح إلى مليون ومائتي الف سائح، وبلغ عدد الذين يزورون أيرلندا لقضاء أيام العطل حوالي (15%) أي (250) ألف شخص.

الوضع السياسي

الوقت يمر وبلفاست مدينة جميلة وهادئة، كان من المفترض أن تكون واحدة من أهم العواصم الأوربية، ولكن حقل الألغام المتفجر الذي لا يكف عن إفـزاع الناس حال دون ذلك، إن العلاقة بين أيرلندا الشمالية والمملكة المتحدة علاقة مدينة في دولة بهذه الدولة، فأيرلندا الشمالية حاليا تتمثل بسبعة عشر نائبا يمثلونها في برلمان المملكة المتحدة في وستمنستر في لنـدن، بالإضافة إلى ذلك فقد تم انتخاب ثلاثة نواب ليمثلوها في البرلمان الأوربي (المجموعة الأوربية)، وفي الانتخابات العامة الأخيرة لعام 1992 فازت الأحزاب الوحدوية (التحالف) بـ (13) مقعدا مقابل أربعة مقاعد للحزب الديمقراطي الاجتماعي (العمال)، أما الجيش الجمهوري الأيرلندي (السري) فلم يفز بأي مقعد في البرلمان الجديد.

وقد سألت ممثل الحزب الديمقراطي (العمال) في بلفاست السيد جونثن ستيفن عن وضع الأحزاب السياسية في أيرلندا الشمالية، فقال: هناك حزبان عماليان رئيسيان الأول الحزب الديمقراطي وهو الحزب الرسمي، والآخر الحزب الوحدوي (التحالف) ويتكون من الكاثوليك والبروتستانت، كما يوجد (الشين فين) وهو حزب حليف أو شريك سياسي للجيش الجمهوري الأيرلندي وهو يؤمن بأن البريطانيين مدسوسون ويجب إجبارهم على المغادرة، كما يجب توحيد جزيرة أيرلندا، ويعيش البروتستانت والكاثوليك بسلام.

قلت: وما رأيك أنت في هذا الكلام؟

قال: هذه نظرة متفائلة، وأنا لا أعتقد أن البروتستانت سيقبلون هذا الحل، فهم لا يقبلون توحيد أيرلندا، ولا يمكن إجبار أي شريحة من البشر على تقبل وضع بالقوة، وأعتقد أنه لا حل إلا بالإقناع وإعطاء حوافز للناس لتغيير توجهاتهم، وتبقى أفضل طريقة لإنهاء المشكلة هي إقناع الشعب بالتعايش السلمي، وتقبل اختلاف وجهات النظر السياسية.

قلت: هل نستطيع القول بأن المشكلة في أيرلندا الشمالية ذات طابع ديني؟

قال: كثيرا ما نربط المشكلة بالصراع بين البروتستانت والكاثوليك مما يعطي المشكلة طابعا دينيا، ولكن في الواقع هي نزاع حول أرض وهوية، وليست نزاعا دينيا، واستخدام المصطلحات الكبيرة يربك المسألة أكثر، فأنا مثلا أتزعم حزب الكاثوليك ولكنني بروتستانتي، فالمسألة ليست مسألة دين إنما وطنية.

قلت: ما هي مطالب الناس من الحزب؟

قال: مطالب الناس من الحزب هي السلام والوظائف والازدهار، ونحن كأي حزب آخر لا نستطيع توفير ذلك لأننا لا نملك أية سلطة على الحكومة، وليس لأي سياسي في أيرلندا أي سلطة، فالحكم متروك لسياسيي بريطانيا في لندن، فنحن مثلا لا يمكننا اتخاذ إجراءات اقتصادية لحل مشكلة البطالة، فهذه من اختصاص الحكومة البريطانية. ولتحقيق مطالب الشعب فإننا نسعى للتوصل إلى اتفاق يعطي السكان المحليين نوعا من السلطة والنفوذ السياسي، ولكن ليس بمعزل عن الحكومة في بريطانيا، فالمنطقة أصغر من أن تكون مستقلة، ولكننا نطمح بتعاون مشترك بين بريطانيا وأيرلندا وأوربا، فنحن نؤمن بالتقارب مع أوربا الموحدة، ونعرف أن ذلك أصبح قريبا بعد اتفاقية ماسترخت والمباحثات حول توحيد العملة، وأعتقد أن أولادي عندما يصلون إلى مثل سني سيعيشون في أوربا موحدة، وستصبح مشكلة الهوية الوطنية التي نعاني منها منذ ثلاثمائة سنة من ذكريات الماضي، وهذا لا يعني مسح انتماء الأفراد لوطن معين، ولكن تعزيز انتماء مجموع الدول الأوربية تحت مظلة واحدة. وبعد أن حصلت على ما أريده من معلومات من السيد جونثن قلت: أريد أن أتجول في وسط المدينة، قالت هيلاري: سآخذكم إلى مكان جميل. وفي منتصف شارع كبير توقفنا عند أحد المقاهي القديمة جدا، قالت: هذا أقدم مكان لدينا، ومنذ عشرات السنين والناس معتادة على ارتياد هذا المكان.

وفي مقابل المقهى يوجد مبنى ضخم كتب عليه كلمة فندق أوربا، ولكنه مغلق، سألت هيلاري عنه فقالت: هذا أكبر فندق في بلفاست، ولكنه مغلق الآن للتصليح، بعد أن قام الثوار الأيرلنديون بتفجيره، وقالت: انظر إلى الجهة الأخرى، التفت، فإذا بمبنى غاية في الجمال والروعة، ولكنه محاط بأخشاب تدل على أن هناك عملية ترميم وإصلاح تجرى له، قالت هيلاري: هذه دار الأوبرا، وهي واحدة من أكبر وأهم دور الأوبرا في العالم، وهي كذلك حظيت بنصيبها من أعمال التخريب التى قام بها الثوار، ومنذ تسعة أشهر وحتى الآن وأعمال الإصلاح جارية فيها.

وتظل المشكلة الأيرلندية قائمة ومستمرة ويبقى الثوار موجودين يمارسون أعمالهم التخريبية، إنها مشكلة مزمنة وحكاية قديمة لشعب استعمر وضم إلى دولة كانت في يوم ما تحكم العالم تقريبا. وتبقى القلوب تخفق بشدة كلما سمع صوت انفجار، ومع أن الناس اعتادوا هذه الأصوات إلا أنهم في نفس الوقت قد ملوها، ويحلمون بمستقبل تشرق فيه شمس السلام والأمان، لتزيل الضباب والدخان الناجم عن القنابل والمتفجرات، ولتعود الأرض مكسوة بالزهور بعد أن يتم تطهيرها من الألغام.

أيرالندا الشمالية

تشكل بالإضافة إلى ويلز وإنجلترا وإسكتلندا المملكة المتحدة. وهى عبارة عن جزيرة في الشمال الشرقي للجزر البريطانية، مساحتها "14.121" كم2 "5452 ميلا مربعا". المناخ : لطيف ومعتدل، ويتميز بحرارة معتدلة، وقلة الثلج وكثرة الضباب. ويبلغ عدد سكانها "1.538.100" نسمة حسب إحصائية عام "1976" عاصمتها : بلفاست، أهم المدن: بيري، اللغة الرسمية : الإنجليزية، ثلثا السكان بروتستانت، والباقي كاثوليك، والعملة تابعة لعملة بريطانيا "الجنيه الإسترليني" ولكن يوجد لديهم عملة خاصة هي الجنيه الأيرلندي الوضع الاقتصادي : يعتمد على العديد من المصادر كالزراعة والمنتجات الحيوانية والثروات الطبيعية والصناعة.

 

ماضي الخميس 

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية  
اعلانات




أيرلندا الشمالية حقل الزهور والألغام





خريطة أيرلندا الشمالية





إحدى الحدائق الجميلة في بلفاست  وتبدو في الصورة عائلة تستمتع بجولة داخل الحديقة





مجموعة من الأطفال الأيرلنديين  يستمتعون باللعب في إحدى الحدائق





شارع رئيسي في مدينة بلفاست





ميناء بلفاست ومصنع بناء السفن اشهر الموانئ والمصانع في العالم





السيد جونثن ستيفن





السيد جون ماكرتيني





بلفاست الجزيرة الخضراء





طالبتان من بلفاست تراجعان أحد  الموضوعات في مقهى





رأس مومياء مصرية في متحف  بلفاست





قصر بلفاست أو مبنى المحافظة حيث يعاد ترميمه





إعلان لإحدى الشركات ويظهر فيه التأثر بالوضع العام في بلفاست





اللورد سميث مستقبلا الزميل ماضي الخميس





صورة لقصر بلفاست (مقر المحافظة) من الداخل





عجوز أيرلندي يقوم بقص الأشجار المحيطة بمنزله وهو أحد اقدم المنازل في مدينة بلفاست





فتاة أيرلندية تعاين إحدى الأشجار دليل على اهتمام الأيرلنديين بالزراعة