من أجل التنمية الاقتصادية والاجتماعية: مستقبل الخيار النووي

 من أجل التنمية الاقتصادية والاجتماعية: مستقبل الخيار النووي

في الشرق الأوسط

هل يمكن استخدام الخيار النووي في الأغراض السلمية؟
وهل يمكن ترويض هذه الطاقة الجبارة؟

إذا كان للبشرية إمكانية الاختيار، هو ما يوفره هذا الخيار أو ذاك من إمكانات وفوائد ومردود للإنسان ومحيطه، وهناك محددات متفق عليها، فيما يتعلق بالخيار النووي في جانبه السلمي نوجزها فيما يلي :

المحدد الأول : إن ممارسة الخيار النووي تعتمد وتتقرر بشكل رئيسي على مدى تفرده بتأمين النتائج المرجوة من هذه الممارسة، أي لا يمكن من دون استخدامه الوصول إلى النتائج المرجوة بشكل مرضٍ من عمل ما.

المحدد الثاني : إنه في حالة استخدام الخيار النووي في الأغراض السلمية، فإن ذلك يجب أن يتم بأدنى تعرض ممكن للإشعاعات المؤينة حسب القواعد المدونة في مجال السلامة الإشعاعية والحفاظ على الصحة العامة، وذلك على أساس أن تكون الفائدة الناجمة للأفراد أو المجتمع المعرض لتلك الممارسة أكبر أو على الأقل معادلة للضرر الذي قد تحدثه مع مراعاة العوامل الاقتصادية والاجتماعية.

المحدد الثالث : في حالات التعرض تحدد الجرعة من التعرض العادي للأفراد بحيث لا يتجاوز مجمل الجرعة الفعّالة الكلية أو الجرعة المكافئة الكلية للأعضاء أو الأنسجة ذات الصلة نتيجة احتمالات الجمع بين تعرضات من ممارسات مأذون بها، ولا تسري حدود الجرعات على الممارسات الطبية المأذون بها.

وعلى ذلك فإن الخيار النووي السلمي، وفي إطار المحددات المبينة بعاليه يحكمه ويتحكم فيه عدد من القواعد العامة المستقرة، وكذلك بعض المفاهيم الحديثة مثل أسس الأمان وثقافته مع معرفة وثيقة وواضحة بما يسمى متطلبات أداء الأمان وخاصة ما يتعلق منها بأداء القوى البشرية وإعداد وتطبيق مفاهيم الجودة والجودة الشاملة وأمن المصادر وتأمينها والدفاع في العمق وهو ما يتعلق بنظم الحيلولة دون وقوع حوادث قد تسبب التعرض مع تخفيف العواقب المترتبة على أي من الحوادث في حالة وقوعه، بالإضافة إلى الممارسة الجيدة. كما تطبق كل الإجراءات المتعلقة بتحقيق الوقاية والأمان ( الرصد - الرقابة - التحقيق - التفتيش... وغير ذلك).

وهكذا نرى أن الخيار النووي للأغراض السلمية يحيط به سياج منيع من العمليات التنظيمية والإجرائية والإدارية والفكرية التي توفّر أعلى قدر من التيقّن من أن تطبيق الخيار النووي في الأغراض السلمية أمر محفوف بالسلامة الإشعاعية لجمهور العاملين والمواطنين ولا يقدح في ذلك أن يعلن من وقت لآخر عن حدث نووي كفقد مصادر إشعاعية أو تعرض زائد أثناء الممارسات سواء كانت صحيحة أو خاطئة، فإن نسبة تلك الحوادث أو الأحداث ضئيلة للغاية ولا تعبّر في الحقيقة إلا عن إمكانات للمخاطر متدنية في الصغر.

استخدامات سلمية

نستعرض فيما يلي المحاور الأساسية للاستخدام السلمي للخيار النووي في مختلف المجالات الحياتية للإنسان العربي.

أ- النظائر المشعة في الطب والصيدلة :

لقد أدى التطوير الكبير للتقنيات المعتمدة على استخدام النظائر المشعة في تشخيص الأمراض إلى تطوير كبير في قدوة الأطباء على إجراء التشخيص الدقيق لمختلف الحالات المرضية مما كان له أكبر الأثر في نجاح العلاجات المستخدمة بعد ذلك.

وقد يكون من الصعب تحديد كل تلك النجاحات إلا أننا سنكتفي بذكر بعض الأمثلة، فقد تمكن الأطباء من تعيين حجم الدم في الإنسان باستخدام الفسفور - 32 كما أمكن تعيين حجم البلازما والكرات الدموية كل على حدة باستخدام نظير الحديد - 59، نظير الكروم 51 المشع، كما استخدم الصوديوم - 24 لدراسة الدورة الدموية في الشرايين وتحديد أماكن الضيق بها، كما تم تشخيص أمراض عضلة القلب باستخدام الثاليوم 201 المشع وغير ذلك.

كل ذلك يدل على أن المواد والنظائر المشعة تلعب حالياً دوراً جوهرياً في كل عمليات التشخيص وأن هذا الدور تحكمه الدقة الشديدة والكفاءة اللازمة لتحديد طرق ناجحة للعلاج. ومن البديهي أنه يراعى في كل تلك الأعمال استخدام النظائر قصيرة العمر كلما أمكن لتقليل ما يمكن أن يتعرض له المريض من جرعات إشعاعية. كل هذه العمليات تجرى في جل مستشفيات ومراكز التحاليل في العالم العربي وعلى مستوى رفيع.

أما في العلاج فلعل أهم النجاحات التي لقيتها الأساليب والتقانات النووية في الطب كانت في عمليات علاج الأورام والسرطانات. وفي الوقت الحاضر تستعمل المصادر الإشعاعية من الكوبالت بنجاح كبير على هيئة إبر أو أسلاك أو كرات صغيرة أو محاليل للقضاء على الخلايا السرطانية داخل جسم الإنسان. ويستخدم اليود - 131 في تثبيط نشاط الغدة الدرقية خاصة عند علاج الذبحة الصدرية أو عند حالات هبوط القلب وغير ذلك الكثير من الأمثلة التي يصعب حصرها.

ولا يمكن أن نغفل دور الإشعاعات المؤينة التي تستعمل على نطاق واسع وكفاءة شديدة وبكلفة قليلة نسبياً ( وخاصة أشعة جاما ) في تعقيم المعدات الطبية كملابس الجراحة والقساطر والحقن، وخيوط الجراحة التي كانت تعقم بطرق عادية في التعقيد سابقاً مع كلفتها المرتفعة بالأساليب العادية. وهذه العمليات تجرى بصورة روتينية في العالم العربي حالياً.

وقد وفرت النظائر المشعة المختلفة إمكانات هائلة للعلوم الصيدلانية من خلال استخدام المواد الكيمياوية والصيدلانية الموسومة بالنظائر المشعة. فقد أصبح ممكناً بصورة دقيقة التعرف على تأثير الدواء ومساره وتحولاته داخل جسم الإنسان بصورة جلية. كما أمكن التعرف كذلك على مسار الغذاء وتحولاته داخل جسم الإنسان - أو النبات - وكان من أعظم النجاحات لاستخدام تلك المركبات الموسومة هو تفهم آلية عمليات التمثيل الغذائي سواء في الإنسان أو النبات.

والعالم العربي في الوقت الحاضر يزخر بالمراكز الطبية رفيعة المستوى التي تستخدم فيها التقانات النووية الطبية والصيدلانية بكل نجاح والتي تضم آخر ما وصلت إليه التكنولوجيات النووية في الطب والصيدلة.

ب- الزراعة وإنتاج الغذاء :

في بداية القرن العشرين اكتشفت ظاهرة النشاط الإشعاعي ولم تمض عدة عقود حتى كانت النظائر المشعة بين أيدي العلماء تدور حولها وبها أبحاثهم ودراساتهم وكانت الاستخدامات الزراعية من أهم الاستخدامات التي دفعت بالعلوم الزراعية وعلوم الأراضي وفسيولوجيا النبات إلى الأمام، مما أدى إلى ظهور عصر جديد يمكن أن نسميه عصر الزراعة النووية.

وفي الحقيقة فإن إسهام العلوم والتقانة النووية في تطوير الزراعة يجري من خلال ثلاثة أساليب أساسية، الأسلوب الأول يتضمن تطوير الزراعة بذاتها من خلال ضبط العلاقة بين التربة والماء والنبات، والأسلوب الثاني يتضمن عمليات تحضير طفرات مستحدثة من النباتات قادرة على التعايش مع الظروف المختلفة السائدة في العالم العربي وكذلك قادرة على تعزير الإنتاج الزراعي تحت أي من تلك الظروف، والأسلوب الثالث يتضمن تطوير عمليات الحفاظ على الغذاء الناتج عن العمليات الزراعية بواسطة الإشعاع الذري.

لقد برهن مندل عام 1865 على أن عناصر الوراثة المعروفة بالجينات تنتقل من جيل إلى آخر، وبعد ذلك بثلاثين عاماً تم اكتشاف الإشعاع المؤين واستغرق الأمر ثلاثين سنة أخرى لإعطاء البراهين المناسبة على أن الإشعاع المؤين قادر على إحداث طفرات (أي تحولات وراثية مفاجئة) وتغيير في الجينات المعروفة بثباتها. وبذلك بدأت بحوث الجينات الجزيئية.

وقد استخدمت في تلك البحوث أنواع الأشعة المختلفة (السينية والجامية) والنترونات وغيرها من الأشعة القادرة على التأثير في الجينات مما يؤدي إلى استحداث طفرات بها، ولم يكن عدد المحاصيل المحسنة باستخدام الطفرات يتجاوز الثلاثين محصولاً في جميع أنحاء العالم في عام 1964 عندما بدأت منظمة الأغذية والزراعة تطوير هذا الاتجاه البحثي بالتعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية. وبعد خمسة وعشرين عاماً أمكن تسجيل ما يزيد على 1300 من المحاصيل الزراعية المحسنة.

وقد تم تطبيق نفس الطريقة على أكثر الأشجار المثمرة. وتجري في العالم العربي في مدارس علمية عديدة جهود رصينة ومنهجية لإنتاج مختلف أنواع الطفرات لمختلف أنواع المحاصيل نذكر منها على سبيل المثال : القمح، الشعير، السمسم، الذرة.. وغيرها الكثير.

وأخيراً فإنه لا تكتمل حلقة تعظيم الإنتاج الزراعي دون أن نتطرق إلى عنصر الحفاظ على الغذاء بالإشعاع، نظراً إلى أن الغذاء وتأمينه يحتل مكانة متقدمة في اهتمامات الدول وخاصة النامية منها بسبب الزيادة المطردة والدائمة في أعداد السكان، وبالرغم من أن الدول النامية بصفة عامة تعتبر من الأماكن التي يتم ويتزايد فيها إنتاج الغذاء فإن نسبة الفاقد منه بعد الإنتاج تتزايد أيضا بسبب عدم اتباع الأساليب والطرق الصحيحة للجمع والتعبئة والنقل والتخزين للأغذية المنتجة، ولاشك في أن نزيف الخسائر المستمر ولسنوات متعاقبة يهدر إمكانات اقتصادية متوافرة ويؤدي في النهاية إلى فجوة غذائية تتفاوت في سعتها من دولة لأخرى، مما يؤدي إلى تهديد عناصر الأمن والأمان للمجتمعات الإنسانية.

ولم تتخلف الدول العربية في هذا المجال المهم. إذ تجرى في معظم الدول العربية، التي لديها محطات تشعيع جامي، البحوث العلمية الهادفة والمبرمجة للتعرف على الإمكانات والظروف العامة لعمليات الحفاظ على الغذاء بالإشعاع، وقد بدأت بعض الدول في إصدار تصاريح لتداول بعض الأغذية المشعة ويحتاج التقبل الجماهيري لهذه النوعية من الغذاء إلى جهود إعلامية كافية لكي يتوفر.

ج - النظائر المشعة في الصناعة :

تستخدم المصادر والمواد المشعة على نطاق واسع في مختلف التطبيقات الصناعية على المستوى العالمي. ويمكن أن نؤكد أنه من الصعب في الوقت الحاضر أن نجد نشاطاً صناعياً لا تؤدي فيه تلك المصادر والمواد المشعة دوراً حيوياً. ومن التطبيقات المعروفة دوليا هناك عدد من الاستخدامات للمواد والمصادر المشعة في الصناعة تجري في المنطقة العربية سواء لإجراء وضبط العمليات الصناعية أو في ضبط جودة المنتجات الصناعية.

وعلى سبيل المثال يمكن لنا أن نذكر عدداً من الاستخدامات التي تجري في العالم العربي بكل نجاح.

1- في صناعة البترول:

تستخدم النظائر المشعة لتحديد سرعة تدفق البترول من خلال الأنابيب، وكذلك لتحديد أماكن انسداد أنابيب نقل البترول. ولا شك في أن ذلك يزيل كثيراً من الصعوبات التي كانت تكتنف عمليات نقل البترول من قبل، كما تستخدم في نفس السياق النظائر المشعة لفصل منتجات البترول المختلفة المدفوعة في الأنابيب المخصصة لنقل تلك المنتجات مثل زيت الديزل والجازولن والزيت الخام. وفي محطات التكرير تستعمل المصادر المشعة بكثرة في ضبط مستويات السوائل في الخزانات بصورة دقيقة وفي أجهزة قياس الكثافة كذلك.

2 - في صناعة الرقائق :

تصنع الرقائق من مختلف المواد: البلاستيك، الورق، المعادن المختلفة، المطاط، المنسوجات.. وغير ذلك. وفي جميع هذه الصناعات تستخدم المصادر المشعة في ضبط سمك الرقائق الناتجة بما في ذلك تعديل السمك إذا كان ذلك مطلوباً.

3 - في العمليات الصناعية:

يستخدم الإشعاع الذري من المصادر الإشعاعية في العديد من العمليات الصناعية والإنتاجية. وكمثال لذلك نذكر تجويد نوعية الأخشاب وتحسين مواصفاتها بغمرها في المواد القابلة للتبلمر ثم تعريض الناتج للإشعاع لإنتاج أخشاب مقاومة للتآكل والرطوبة وعوامل التعرية.

ويستخدم الإشعاع كذلك في تصنيع رقائق المطاط المسطحة عالية الصلابة. كما تستخدم الإشعاعات المؤينة في تصنيع العوازل والأسلاك.

التجويد الصناعي

ستجابه العمليات الإنتاجية الصناعية في العالم العربي في العقود القادمة تحديات أساسية تتعلق بضرورة رفع جودة المنتجات مع تخفيض تكلفتها حتى يمكن أن تحافظ تلك المنتجات على قدرتها التنافسية في عالم التجارة الحرة. وقد سبق أن بينّا أن العلوم والتقانة النووية تلعب دوراً أساسياً في خفض التكلفة من خلال استخدام أساليب الميكنة التي تعتمد في تشغيلها على نظم الضبط الإشعاعية وكذلك في ضمان وضبط الجودة للمنتجات الصناعية من خلال استخدام أساليب الاختبارات اللاإتلافية التي تعتمد بصفة خاصة على استخدام التقنيات النووية والإشعاعية. والاختبارات اللاإتلافية هي مجموعة من الأساليب الفنية التي يتم بها التأكد من سلامة المنتجات وجودتها، ويتم تطبيق تلك الأساليب دولياً حتى تتأكد كل دولة من قدرة منتجاتها على التنافس الحر من خلال ضمان جودتها.

وتلعب المصادر الإشعاعية دوراً أساسياً في الكشف عن اللحامات والكشف عن المسبوكات من خلال مجموعات فنية مدربة وتجهيزات حديثة معظمها متوافر محلياً في العالم العربي.

وسيتم في وقت لاحق تأهيل مجموعة من المفتشين العرب للعمل في هذه الاختبارات من خلال الهيئة العربية للطاقة الذرية وذلك بحصولهم على شهادة مفتش مستوى أول في اختبارات التصوير الإشعاعي.

تليها مجموعات أخرى من المفتشين العرب في المجالات الأخرى للاختبارات اللاإتلافية مثل الموجات فوق الصوتية... وغير ذلك.

التنمية والتقدم العالمي

إذا أردنا أن نتبين مستقبل الخيار النووي في الشرق الأوسط في المجالات الاقتصادية وما قد ينتج عنه من آثار اجتماعية، فإننا يجب أولا أن ننظر إلى خريطة المنطقة العربية الممتدة من المحيط إلى الخليج ومن شمال لبنان إلى جنوب الصومال ومنطقة شبه الجزيرة العربية حيث سنجد عالماً ممتداً تتفاوت فيه الظروف البيئية والثروات الطبيعية كما تختلف فيه الاحتياجات وتتباين المستهدفات. وفي منطقة هذا شأنها - وبالرغم من كل الصعوبات - فإننا يمكن أن نحدد عدداً من المشكلات ذات الأهمية التي تجابه وقد تؤثر في التطور الطبيعي لأبناء الأمة العربية في المستقبل المنظور ونبين دور العلوم النووية وتقاناتها في التصدي لها في إطار التقدم العالمي وهي على سبيل المثال لا الحصر.

أ - التعايش مع البيئة الصحراوية ومقاومة التصحر :

من المعلوم أن معظم الأراضي العربية تقع ضمن حزام الرمال الأصفر الممتد من المحيط إلى الخليج فيما عدا بعض أماكن قليلة حول مجاري الأنهار الطبيعية في المنطقة. وفي مثل هذه البيئة الصحراوية يصبح التعايش معها من خلال استخدام الأساليب العلمية المناسبة من أولويات مباحث العلوم والتقانة الحديثة بوجه عام والعلوم والتقانة النووية بوجه خاص.

وهنا يبرز دور العلوم والتقانات النووية، فعلى سبيل المثال يمكن إعداد وتدشين عدد من البحوث والعمليات المتعلقة باستخدام البلمرات المحضرة إشعاعياً لتثبيت الكثبان الرملية، وبالإضافة إلى البحوث المتعلقة بإنتاج محسنات التربة بالوسائل الإشعاعية وهي مواد تحافظ على المحتوى المائي للتربة وبصفة خاصة التربة الرملية بما يحولها إلى تربة صالحة للاستزراع. يضاف إلى ذلك أهمية تطوير الفسائل النباتية بالإشعاع الذري لإنتاج أجيال من النباتات تتحمل الحرارة الشديدة وقلة المياه والرياح القوية.

وتستكمل مقومات الزراعة الصحراوية باستخدام التقانة النووية للبحث عن المياه وتقدير المخزون منها ومدى إمكان تجدده، وكل تلك المشاريع والإجراءات والأنشطة تجري بصورة أو بأخرى حالياً في العالم العربي، وعلى الأجهزة العلمية القطرية أو الإقليمية كالهيئة العربية للطاقة الذرية أن تبذل المزيد من الجهد في التنسيق بين تلك الأنشطة ودعمها ما أمكن.

ب - الاحتياجات المتزايدة من الطاقة ومصادرها:

تتمتع المنطقة العربية بالعديد من مصادر الطاقة المتجددة وغير المتجددة فالشمس- كمصدر للطاقة الشمسية - لا تغيب عنها طوال العام وبعض الأنهار بها قد أقيمت عليها السدود لإنتاج الكهرباء وأخيراً هناك مخزون كبير من البترول والغاز الطبيعي مع مخزون قليل من الفحم.

ومن المعلوم أن استنباط الطاقة الكهربائية من طاقة الشمس يمكن أن يغطي بعض الاستخدامات الإنسانية المحدودة ولكنها مازالت قاصرة، ولفترة طويلة قادمة، عن تلبية الاحتياجات الضخمة التي تتطلبها الصناعة وذلك بالرغم من التطور الكبير الذي حدث في هذا المجال في العقود الأخيرة.

وقد تم استهلاك جميع فرص إنشاء السدود على مجاري الأنهار الرئيسية في العالم العربي، وبذلك لا يبقى إلا الوقود الأحفوري كمصدر مهم لإنتاج الطاقة في العالم العربي.

وبالنظر إلى أن مخزون الوقود الأحفوري هو من قبيل المصادر غير المتجددة للطاقة فإن الأمر يستلزم الاعتماد على مصادر أخرى للطاقة تتميز بإمكان تنميتها على المدى الطويل ولا بأس أن تكون أكثر مأمونية عن الوقود الأحفوري.

وهنا يبرز الدور الذي تلعبه الطاقة النووية التي تؤمن في الوقت الحاضر حوالي 17% من كهرباء العالم من خلال 435 مفاعلاً نووياً عملاقاً، كما يتم في الوقت الحاضر إنشاء عدد آخر من المفاعلات للانضمام إلى المفاعلات العاملة فعلاً. ولا بأس من أن نعيد التأكيد على أن التكنولوجيا النووية تتطور بصفة يومية وترتفع باستمرار متطلبات الأمان النووي بالتصميمات الجديدة كما أن هناك جيلاً جديداً من المفاعلات المتوسطة والصغيرة التي يجري تصميمها الآن تتميز ببساطة التصميم ودرجة عالية من الأمان مع بساطة عمليات التشغيل والتحكم فيها وكل ذلك بتكلفة تشغيلية منخفضة نسبياً. وهذه المفاعلات تعتبر مفاعلات القرن الواحد والعشرين ولن يتسع المجال في هذه العجالة للمزيد من المناقشة في هذا الشأن ولكن نكتفي بأن نبينّ أنه من الأمور الحيوية لضمان استمرارية توفير مصادر الطاقة في العالم العربي أن نبدأ على المستوى العربي في برنامج محدد لإنشاء مفاعل واحد على الأقل متوسط القدرة لإنتاج الطاقة الكهربائية خلال سنوات قليلة وذلك بجوار ما يستعمل حالياً من وسائل أخرى لإنتاج الطاقة من الوقود الأحفوري أو من الشمس أو من مساقط المياه، بهذا يمكن أن نخلق جيلاً من الفنيين القادرين عملياً وتطبيقياً وهندسياً لكي نؤمن في المستقبل القدرات الإقليمية اللازمة لكي نضمن انسياب الطاقة المكثفة المستدام بما لا يعرض العالم العربي لهزات ضارة في مجال الطاقة في المستقبل القريب أو البعيد.

ج - الاحتياجات المائية المتزايدة وتنمية مصادر المياه :

المياه هي عصب الحياة وأساس التنمية وخاصة في البيئة الصحراوية. ومصادر المياه في العالم العربي ليست وفيرة، فتصرفات الأنهار محدودة والأمطار كمياتها معروفة وارتفاع درجة حرارة المنطقة يعرّض جزءاً كبيراً من المياه المتاحة فيها للتبخر ولم يبق إلا الالتجاء إلى تنمية مصادر جديدة للمياه لمواجهة الزيادة المطردة في أعداد السكان ولمواجهة برامج التنمية الزراعية والصناعية في المنطقة.

وإذا تركنا جانباً المياه السطحية سنجد أن المياه الجوفية تمثل مخزوناً مهماً يمكن أن يكون مؤثراً كمصدر للمياه خاصة في المناطق القاحلة . وقد وفرت التكنولوجيا النووية والإشعاعية ومازالت طرقاً وأساليب مهمة للبحث عن الأحواض المائية في جوف الأرض ومتابعتها لتحديد حجم الماء المخزون وعمره ومدى تجدده. وهناك مشروعات قطرية ناجحة كثيرة في مصر والأردن وسوريا والمملكة العربية السعودية والجماهيرية الليبية والجمهورية التونسية، وفي مجال البحث عن مصادر المياه الجوفية تستطيع الهيئة العربية للطاقة الذرية، باعتبارها منظمة إقليمية متخصصة أن تنسّق فيما بين عدد من الدول الأعضاء في مشروع كبير في هذا المجال.

وإذا تركنا جانباً المياه الجوفية وإمكانات استخدامها إلى المياه السطحية سوف نلاحظ أن كمية المياه المتاحة سطحياً ثابتة بشكل عام بينما تزايدت أعداد البشر خلال القرن الأخير فقط من أقل من مليار نسمة في بداية القرن العشرين إلى أكثر من ستة مليارات ببداية القرن الواحد والعشرين. هذه الزيادة الهائلة في أعداد البشر لم تقابلها زيادة مكافئة في مصادر المياه مما يدل على اقتراب العالم من أزمة خانقة في المياه.

وفي إطار الضرورة الملحة لتنمية مصادر المياه السطحية تظهر ضرورة استخدام الطاقة النووية لإزالة ملوحة مياه البحر باعتبار أن مياه البحر هي مصدر لا نهائي من المياه. وقد انتهت دراسات الجدوى الأولية وتطورت من خلال الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى بحث الإمكانات الهندسية والفنية المتوافرة في عدد من الدول العربية التي يمكن لها أن توفر قدراً مناسباً من المساهمة في عمليات إنشاء منشأة تجريبية ( Demonstration Plant ) تتكون من مفاعل ترتبط به منشأة لإزالة الملوحة. ومن الاستقراء الأولي لما تم تحديده، فقد ظهرت إمكانات طيبة لمساهمة التصنيع المحلي في هذا المشروع مما يمكن أن يكون عاملاً مهماً في تخفيض التكلفة.

 

محمود بركات