الأوتار .. أحدث نظرية عن الكون!
نظرية حديثة تهز القوانين الأساسية لعلم الفيزياء، إذ إنها تتحدى المفاهيم التقليدية للظواهر الطبيعية وتقدم تفسيرا لما حدث مباشرة عقب الانفجار الأعظم، عند بداية خلق الكون. وما يدور من فعاليات داخل نواة الذرة التي تزدحم بمئات الجسيمات.
إنها نظرية الأوتار التي يقول مؤيدوها إنها ستحدث ثورة في علم الفيزياء! إذ تطمح في توحيد كل قوانينه في مجموعة واحدة من المعادلات الرياضية! وهذا المقال رحلة قصيرة إلى العالم الغامض للأوتار.
الأوتار .. ونظرية كل شيء
انبثقت نظرية الأوتار من الأبحاث التي خاضها الفيزيائيون وعلماء الرياضيات بحثا عن نظرية واحدة تصف جميع القوى والجسيمات داخل الذرة، وأطلقوا عليها نظرية كل شيء Theory For Everything.
فمن المعروف أن هناك أربع قوى تتحكم في تفاعلات الجسيمات دون الذرية، هي: قوة الجاذبية التي تعتبر أضعف القوى السائدة في باطن الذرة، على الرغم من تأثيرها الكبير في الكون بين الأجرام الفضائية، ثم القوة الضعيفة التي تعتبر مسئولة عن بعض ظواهر التحلل الإشعاعي لنواة الذرة، والقوة الكهرومغناطيسية التي تتحكم في دوران الإلكترونات حول النواة، وأخيرا القوة الشديدة التي تشد مكونات نواة الذرة - البروتونات والنيوترونات - إلى بعضها البعض بقوة.
ويعتقد العلماء أن هذه القوى الأربع ما هي إلا مظاهر مختلفة لقوة واحدة، كانت موجودة عند حدوث الانفجار الأعظم لحظة خلق الكون. ونظرية كل شيء لابد أن تذهب لأبعد من نظرية النسبية العامة لأينشتين التي تتعامل مع الكون بأسره، ومع الجاذبية التي هي أكثر قوى. الكون صعوبة في وضعها ضمن إطار نظرية واحدة.
وقد استحوذت هذه النظرية على تفكير الفيزيائيين طويلاً، وبدأ أينشتين البحث ولكنه فشل في صياغة النظرية، والفكرة وراء ذلك هي كتابة نظرية واحدة بمجموعة واحدة من المعادلات الرياضية توضح القوى الأربع الأساسية المعروفة، كتعبيرات متفاوتة لقوة واحدة تعتبر أصل كل شيء، وقد تتساءل: ما سبب كل هذا الاهتمام بنظرية كل شيء؟
والجواب: إنه بالرغم من أن الفيزيائيين يقتربون في حذر من المفاهيم الجديدة، فإن نظرية كل شيء استأثرت باهتمامهم لسببين رئيسيين: أولاً أن فكرة التوحيد لها تأثير جمالي يستريح له العقل، فلماذا. تختار الطبيعة أربع قوى رئيسية فقط وليس سبعا مثلا أو أي رقم آخر؟ ووجود قوة واحدة هو شيء أكثر منطقية.
وثانيا: أنه إذا كان الكون قد خلق من الانفجار الأعظم، فلابد أن القوى الأربع كلها، كانت في الأصل قوة واحدة.
الأوتار.. واللانهايات
إن أكبر مشكلة في جميع نظريات الجسيمات دون الذرية - قبل نظرية الأوتار- هي أنها كانت تقود إلى اللانهايات Infinities التي تظهر في المعادلات الرياضية وتجعل تطبيقها مستحيلا.
واللانهاية هي ما تحصل عليه إذا أردت قسمة عدد ما على الصفر، فإذا حاولت عمل ذلك على الآلة الحاسبة، فإن الآلة سوف تخبرك أنك أخطأت وطلبت المستحيل.
ويحدث هذا عندما نعامل الجسيمات دون الذرية - كالبروتونات والإلكترونات - كنقاط، إذ يصعب تصور تلك الكيانات البالغة الدقة، ولذلك فقد قرر علماء الفيزياء أن يروا ماذا يحدث إذا اعتبروا أن الجسيمات ليست نقاطاً وإنما هي أقرب كيانات لذلك يمكن تصورها، أي خطوط دقيقة جداً أحادية الاتجاه أو أوتار Strings ، وهكذا أمكن التخلص من مشكلة اللانهايات، ومن المعروف - في حياتنا العادية - أن الأوتار هي خيوط رقيقة صلبة تشد على صناديق بعض الآلات الموسيقية وباهتزازها يستخرج النغم منها لحنا في آلة العود.
أما الأوتار - في نظرية الأوتار - فبنية لا يمكن تصور مدى دقتها إذ إنها أصغر من قطر البروتون ببلايين المرات.
ويمكن وصف القوى الأربع الأساسية في الكون، بتداخل الأوتار حيث إنه باقترابها من بعضها والتصاقها تكوّن القوة الموحدة التي تشتق منها القوى الأربع التي سبق الإشارة إليها.
وقد نتساءل: كيف نشأث الأوتار في الأصل؟
يقول أصحاب النظرية: إنه في أثناء تحطم التناظر الذي حدث بعد جزء من الثانية عقب لحظة الخلق، فقد تم حبس أو تقييد بعض حالات التفريغ الناتجة عن الانفجار الأعظم - الذي حدث منذ 15 بليون سنة على الأرجح - داخل خيوط في الفضاء، هي الأوتار.
والأوتار نوعان: أوتار كونية Cosmic Strings وهي بالغة الطول تمتد في عمق الكون، وربما يبلغ طولها عددًا كبيرًا من السنوات الضوئية، وأوتار فائقة Super Strings تتميز بأنها قصيرة للغاية، وتستخدم لإثبات أن الجسيمات دون الذرية ليست نقاطًا ولكنها أوتار مهتزة. ولأن الوتر يحتوي على طاقة عالية وتفريغ نشط منذ ميلاد الكون، فإنه يتضمن قدرًا هائلا من الكتلة، فيقدر أن كل سنتيمتر من الوتر الكوني يحتوي على 10 ملايين مليون طن، وأن قطعة من الوتر طولها متر واحد يمكن أن يصبح وزنها مثل كوكب الأرض!
ولا يتصور أن تكون للأوتار الكونية نهايات منذ نشأتها، وذلك أمر معقول بداهة، إذ لو كانت هناك نهايات فإن التفريغ الشديد في الداخل - بعد الانفجار الأعظم- يكون قد تسرب للخارج، ومن ثم تفقد طاقتها تدريجيا وتتقلص ثم تزول في آخر الأمر.
ويعني ذلك أن الوتر الكوني إما أن يمتد عبر الكون بأسره، وإما أن يشكل أنشوطة Loop مثل أي شريط مطاطي مشدود، ولا شك أن شد الوتر الكوني يؤدي إلى تذبذبه بسرعة عالية، عادة بسرعة الضوء.
وتكون الجسيمات دون الذرية هي أنماطا متباينة لاهتزاز وتر فائق منفرد، أي أن كل نمط اهتزازي للوتر يقابله جسيم دون ذري بطاقة وكتلة مختلفة. فالوتر الذي يتذبذب بطريقة معينة يظهر نفسه في عالم الواقع مثل الكوارك Quark أما الوتر الآخر الذي يهتز ويلتف بطريقة مختلفة فإنه يبدو كالإلكترون أو أي جسم آخر من المكونات الداخلية للذرة.
وتتحرك الأوتار الكونية في عمق الكون مثل الأسواط المقرقعة التي تترك وراءها "آثارا" عبارة عن مناطق تزداد فيها كثافة المادة، ومن ثم تتكون الأجرام الفضائية. ويفسر هذا أيضا السبب في تكوّن بعض الأجرام الفضائية الهائلة - كالمجرات - في أشكال منبسطة يفصل ما بينها مساحات شاسعة مما يبدو فضاء فارغاً، ولكنه في واقع الأمر مادة مظلمة Dark Matter.
ذلك أن علماء الكونيات قد اكتشفوا أخيرا أن الكون لابد أن يكون بين عشرة أضعاف ومائة ضعف الحجم المعروف الذي كانوا يعتقدونه من قبل، فبلايين البلايين من النجوم التي تنتشر في سماء الليل قد تبين أنها ليست إلا بقايا قليلة من لوحة الخلق أو بعبارة أخرى: الأطراف المرئية للجبل الجليدي الكوني الذي لا يظهر منه إلا قمته فقط، والباقي الذي يمثل الجزء الأكبر منه مختفٍ في الأعماق في شكل مادة مظلمة غير مرئية تكوّن أكثر من 90 في المائة من الكون، لا يعرف طبيعتها على وجه الدقة، وهناك بعض الاحتمالات - مثل الجسيمات دون الذرية التي يطلق عليها النيو ترينو - ولكنها لا ترقى إلى مرتبة اليقين.
كون.. بعشرة أبعاد
تعمل نظرية الأوتار في كون بعشرة أبعاد، مما يثير مشكلة تفسير السبب في أن لكوننا أربعة أبعاد فقط، ثلاثة منها للمكان - طول وعرض وارتفاع - وواحد للزمن.
وفي البدء - حسب هذه النظرية - تكوّرت الأبعاد الستة الزائدة لتغدو غير مرئية، ثم تمدد الكون بأبعاده الأربعة، ليصبح كما نراه في الوقت الحاضر.
وهذا تصور آخر كامن في جعبة العلماء، يخفف من الصدمة التي قد تنتاب المرء لو عرف أنه يعيش في عالم عشري الأبعاد!
ومشكلة الكون ذي الأبعاد العشرة ليس من المستحيل التغلب عليها، إذ لدى علماء الرياضيات طريقة تسمى"الدمج" ، تتيح دمج هذه الأبعاد الزائدة - وهي ستة في حالتنا هذه - ومن ثم يتم تصغيرها، فتصبح غير مرئية. ودون الدخول في شرح معادلات رياضية معقدة وطويلة، نقول إن هذا التأثير يشبه حبلا مكونا من عدة جدائل ملفوفة، لاشك أنه سوف يبدو كما لو كان خطاً أحادي البعد لو نظرنا إليه من مسافة بعيدة جدًا.
إن كل نقطة في الفضاء المألوف لنا وفي كل لحظة من الزمن، هي عالم ملفوف سداسي الأبعاد ودقيق الحجم جدًا، ولكنه معقد التركيب.
وعندما بدأت الحيرة ترتسم على وجوه الفيزيائيين، لجأوا إلى علماء الرياضيات طلبا لمساعدتهم في التخلص من الكون ذي العشرة أبعاد.
والمباراة التي تلعب حاليا بين هاتين المجموعتين، تشبه مباراة في التنس وكرتها هي الكون الذي نعيش فيه. ويقوم الفيزيائيون بكتابة معادلات نظرية الأوتار التي يعتقدون أنها تصف إلى حد ما الكون بأسره، وكل القوى التي تعمل فيه.
وبؤرة الاهتمام في الأبحاث الحالية للفيزيائيين - في ظل حصولهم على مساعدات قيمة من علماء الرياضيات - تكمن في إنزال نظرية الأوتار من برجها العاجي ذي العشرة أبعاد إلى دنيا واقعية ذات أربعة أبعاد تستخدم للحصول على تنبؤات يمكن التحقق منها أو دحضها بتجارب أرضية عادية، وبدون هذا التقدم وبغض النظر عن درجة جمال وروعة معادلاتها الرياضية، فإن النظرية تظل لا قيمة لها.
وعموما، لقد تقبل الفيزيائيون نظرية الأوتار وأبعادها العشرة باعتبار أنها تمثل النظام الطبيعي للكون، ولديهم الثقة في أنهم سوف يتمكنون من إثبات صحتها يوما ما.
البذور الكونية
يمكن بسهولة أن ترى كيف أن فكرة الوتر الكوني، قد لاقت قبولاً لدى العلماء الفيزيائيين، في أثناء محاولتهم تفسير من أين جاءت البذور التي نمت منها المجرات، جزر الكون الكبرى.
هناك لغزان أساسيان عن المجرات، هما: كيف تكونت المجرات المنفردة؟ ولماذا تتجمع المجرات مع بعضها البعض في عناقيد هائلة؟
وتطرح نظرية الأوتار احتمال إجابة كلا السؤالين في نفس الوقت.
فيقدر علماء الفلك بأنه في العشرة آلاف سنة الأولى من عمر الكون، كانت تسوده الأوتار والإشعاعات الساخنة والجسيمات دون الذرية - كالكواركات - وعندما هبطت درجة الحرارة، بدأت أنشوطات الأوتار في اجتذاب سحب الغازات والمادة المظلمة والاحتفاظ بها.
ويمكن أن تكون المجرات المنفردة قد تكونت حول أنشوطة صغيرة، بينما اجتذبت أنشوطة أكبر عددًا من المجرات، لتكوين تشكيل عنقودي. فإذا كانت المجرات قد تكونت بالفعل حول أنشوطة من الأوتار الكونية، فعندئذ لا تكون المجرات التي نراها حاليا، إلا مجرد محددات لتوضيح أين كان الوتر الكوني يوجد عادة، وترجع أهمية ذلك إلى أن أجزاء طويلة من الوتر الكوني، لن تكون في شكل خطوط مستقيمة، وبدلاً من ذلك فإنها تشكل منظومة شديدة التعقيد، يعبر فيها وتر كوني من أعلى ثم يشتبك مع الأوتار الأخرى، وتتحرك ذبذبات هذه الأوتار المتشابكة لأعلى ولأسفل بسرعة الضوء، وحيثما تعبر الأوتار الكونية فإنها تتمزق ثم تتصل مرة أخرى.
ونظراً لأن الكتل الهائلة - كأنشوطات الأوتار الكونية - ذات طاقة مهتزة بسرعة الضوء فإنها يجب أن تشع الطاقة للخارج في شكل موجات جاذبية، وذلك طبقا لنظرية النسبية العامة لأينشتين، معنى هذا أن الوتر الكوني لن يكون أبدًا هو العنصر السائد في الكون. إن أنشوطة واحدة من الوتر الكوني ذات قطر يبلغ بضع مئات من السنين الضوئية يمكن أن تساعد بالفعل في الإمساك بكمية متجمعة من الغازات لزمن طويل جدًا في الكون، تكفي لتكوين مجرة.
وهناك تفسير آخر لتكوين المجرات بمساعدة الأوتار الكونية:
عندما ترتحل الجسيمات دون الذرية على طول الوتر الكوني بسرعة الضوء، ويتصادف أن هذه الجسيمات تحمل شحنات كهربية، فعندئذ تسري تيارات مروّعة بدون توقف حول أنشوطات الوتر الكوني، وعندما يتذبذب هذا الوتر فإنه لا يشع فقط موجات جاذبية - كما ذكرنا من قبل - وبل أيضا موجات كهرومغناطيسية وبكميات هائلة، مما ينتج عنه تكوين فقاعة متمددة للمادة حول كل أنشوطة، وهذا هو تفسير آخر لنشوء المجرات، ولكن في هذه الحالة ليس من الضروري أن تقع أنشوطات الوتر الكوني في مراكز المجرات.
ويؤكد أصحاب هذه النظرية قولهم، بأن الطريقة التي تتوزع بها المجرات عبر الفضاء تشبه الطريقة التي يجب أن تتوزع بها الأوتار الكونية. وعند رصدنا لعنقود يحتوي على الآلات من المجرات، علينا أن نبحث عن آثار الوتر الكوني في شكل مجرة نشطة غير عادية، مزاحة من منتصف هذا العنقود المجرّي.
عدسات الجاذبية
عادة ما يتبادر إلى الأذهان سؤال عند ذكر الأوتار الكونية، هو: ماذا يحدث إذا مر وتر منها داخل أحد النجوم؟
والجواب: أن المادة التي تشكل النجم سوف تنضغط فجأة، وربما يُحدث ذلك انفجاراً مروعاً من التفاعلات النووية، تنتهي بانفجار النجم للخارج، وقد يكون هذا أحد تفسيرات حدوث السوبر نوفا.
وهناك تأثير آخر مرتبط بالوتر الكوني، إذ إن جاذبيته الهائلة تحني الضوء المار بالقرب منه، فإذا حدث أن مر جزء من الوتر بيننا وبين مجرة بعيدة - المرأة المسلسلة مثلا - فسوف نرى صورتين لهذه المجرة تحدثها أشعة الضوء التي سارت على طول أحد جانبي الوتر وتقوست تجاه كوكب الأرض.
ومن المعروف أن الأجسام ذات الكتل الضخمة - كالمجرات- تحني أشعة الضوء التي تمر بجوارها، ومن ثم تحدث صورًا متعددة بطريقة مماثلة، ويعرف هذا التأثير بعدسات الجاذبية.
والفرق الرئيسي بين هذه العدسات وتأثير الأوتار الكونية، أن عدسات الجاذبية يجب أن تُحدث أعدادًا فردية من الصور - ثلاثا - خمسا - سبعا.. وهكذا - بينما يحدث تأثير الوتر الكوني عادة صورتين فقط، واضحتين بنفس الدرجة تقريبا.
وعلى ذلك هناك اختبار آخر للتحقق من وجود الأوتار الكونية:
وهو البحث عن مناطق في الفضاء، حيث توجد أزواج من المجرات التي يبدو أنها متماثلة فوق أو تحت ما يشبه الخط المستقيم، وهناك بالفعل ادعاءات بالتعرف على أزواج الصور هذه، ولكن - حتى الوقت الحاضر - ليس هناك شيء مؤكد.
لقد تحولت نظرية الأوتار في السنوات الأخيرة من مجرد مجموعة من الأفكار الفيزيائية الثورية والمعادلات الرياضية الجذابة، إلى ما يمكن أن يكون الأمل الوحيد في توحيد القوى الأربع داخل نظرية كل شيء، وهكذا أصبحت نظرية الأوتار في بؤرة الدراما الكونية مع الثقوب السوداء والبيضاء.