يا شباب العرب انتبهوا: أقبلت حضارة القنوع

 يا شباب العرب انتبهوا: أقبلت حضارة القنوع

" تضج قلوب العقلاء بالألم عندما تحس بوجود شيء مشوّه في المجتمع : فهذا المشوّه مثل كلب سقط في بركة مليئة بماء الورد، فأدى إلى تلوثها".

الشيخ سعدي الشيرازي، البستان، القرن الثالث عشر

في مطلع شهر مارس من عام 1995، أكرمتني مجلة العتيدة بنشر نداء لي، بعنوان "أما من ورقة بيضاء عربية ؟ "، يهيب بالأمة العربية، والقائمين على إدارة مجتمعاتها من المحيط إلى الخليج بأن يتنبهوا لدنو موجة حضارة النظام العالمي الجديد من شواطئ الوطن العربي، فقد ظهرت أفعال هذه الموجة في أمم الشمال بشكل مثير للرهبة والخوف، مستبدلة عَبَر صراع الطبقات بفكر هدْر الطبقات، وبخاصة في مجال العَلم والبحث العلمي، وداعية إلى عقيدة "إدراك الحاضر" ووقف التبذير المادي وراء رؤى وخيالات وترهات العلماء. وإذ تبين لنا بعد مرور نصف عقد من الزمان، أنه في الوقت الذي سقط به هذا النداء على كثرة من آذان صمّاء لصنّاع القرار في المجتمعات العربية، فثمة كثرة من أحرار أمتنا العربية المجيدة وشبابها بخاصة، قد أرهفت السمع إليه وبدأت التفاعل معه بأشكال عملية شتى. ومن أبرز أمثلة هذا التفاعل، قيام نخبة من طلاب الجامعات في سوريا بعرض مسألة علينا مثيرة للعقل ومغيثة للقلب ستكون محور مقال هذا المقام. لهذا نجد في عرض هذه المسألة متابعة جديدة لتطوير ندائنا الذي أطلقناه في مجلة العربي العتيدة من قبل، وذلك باعتبار أن هذه المسألة تشير بشكل جلي إلى مستجد مثير تولد نتيجة زحف شبح حضارة القنوع
(The Culture of Content) على وجودنا الحضاري العربي الراهن. ولدى هذه البداية، يجدر بنا التذكير أنه عند فجر عقد التسعينيات الفارط من القرن الماضي، تكشفت حضارة القنوع جلية من خلال الحقيقتين التاليتين:

1- بروز مأزق البشرية الراهن (Predicament of mankind) الذي تنسج وجوده قوى النظام العالمي الجديد ويأتي في مقدمها: انفصام شخصية المجتمع البشري وانحسار قيم ومبادئ الإنسانية وتفاقم الفساد في إدارة شئون الناس وتردّي رؤية مستقبل العالم الذي يحتوي وجودنا البشري والبيئي، ويرى مفكرو نادي روما (The Club of Rome) في تقريرهم الأخير (الثورة العالمية الأولى : من أجل مجتمع عالمي جديد، 1992) أن هذه القوى المتفاعلة بينيا وغيرها : كإرهاص حرية الإنسان وشيخوخة حكومات الأرض واضمحلال نفوذ الحكمة العالمية في مسيرة نماء الإنسانية تشكّل جميعاً أرضية المقت البشري (Odiousness) ومنطلق شرارة الثورة العالمية الأولى.

2 - اطراد شرخ مرآة البقاء البشري (Crack in Survival Mirror): الذي تجسّد في انقسام المجتمع البشري إلى صنفين: أقلية عددية محظية سياسياً واقتصادياً واجتماعياً تحولت إلى أكثرية من حيث النفوذ في المجتمعات البشرية، والشمالية منها خاصة، يمكن تسميتها بالأكثرية المحظية وأكثرية عددية، تعيش مقتاً متعاظم القسوة في الفقر والعوز والبؤس والقهر، تحوّلت إلى أقلية من حيث اقتناعها بما يغشاها من ظلام الاستغلال والبطالة والحرمان والتخلف الحضاري، يمكن تسميتها بالأقلية القانعة (The contended minority): وفي كتاب جين تشيزنو الشهير وهو بعنوان: توقعات من أجل البقاء : Prospects for Survival يقول: إن أولئك الذين يقومون بخدمة المحظوظين قد أذعنوا قانعين، عاجزين - ضمن مناخ الانطواء والتفكير بالسلامة الشخصية - عن إبداء أي مجابهة سياسية تعبّر عن خروج واضح لهم عن حال الخضوع الذي يغشى بقاءهم... وأتعجب من إغراق هؤلاء الناس - أي القائمين على خدمة المحظوظين - أنفسهم في الخذلان واللامبالاة وعدم الإحساس، ويبدو لي أن حياتهم السياسية تتفسّخ، ويبحث الفرد منهم عن مختبأ، ويتم إغواء المثقفين منهم من قبل مديري التقنيات الحديثة الذين يعمدون إلى إعادة تشكيل عالمنا، إن لم يسعوا إلى هدمه... ".

مَن يتابع بشكل مستمر تبدّل الأحوال في حياة مجتمعنا العربي، وبشكل خاص خلال الربع الأخير من القرن العشرين الفارط، تتكشّف له جلية أعراض مرض انفصام الشخصية من خلال حقيقة الفراغ الذاتي العربي الراهن. وربما نجد وصفاً مناسباً لهذا الفراغ العربي ضمن تقرير نادي روما، آنف الذكر، الذي قال عموما في ذا الشأن ما يلي: " يتحدد النظام في المجتمع وفقاً لتماسك أفراده. وحتى منتصف القرن الحالي، كان ضمان هذا النظام يعتمد على مشاعر الوطنية الفطرية والإحساس بالانتماء إلى الجماعة التي يعززها الانضباط الأخلاقي النابع من الأديان ومن احترام الدولة وزعمائها مهما ابتعد هؤلاء الزعماء عن شعوبهم. بيد أن الإيمان بالأديان، بصفة عامة، قد توارى في كثير من الدول، كما توارى أيضاً احترام النظام السياسي بسبب الدور الذي قامت به أجهزة الإعلام، الذي أدى إلى خلق مشاعر اللامبالاة إن لم يكن مشاعر العداء، وكذلك بسبب عدم كفاءة الأحزاب السياسية في التصدي للمشكلات الحقيقية. وعلاوة على ذلك، أصبحت الأقليات أقل استعداداً لقبول قرار الأغلبية، وكانت محصلة ذلك نشأة فراغ تعرض في ظله نظام المجتمع وكذلك أهدافه إلى التآكل.. ". وحسب علمنا، لم نعثر بعد على عمل تجرأ مبشّراً بعقيدة هذا الفراغ ، مثل الذي جاءت به رواية " قصر المطر" لممدوح عزام. فقد تكشفت طوية فكر هذا العمل السياسي الشاذ متحدية (Defying) مشاعر العرب الوطنية الفطرية، وداعية بكل بطر (Arrogance) إلى الدوس على "الإحساس بالانتماء إلى الجماعة التي يعززها الانضباط الأخلاقي.. "، ومستبعدة مشاعر لامبالاة، إن لم تكن حسب وصف نادي روما لعقيدة الفراغ الحضاري العالمي، "مشاعر عداء.. " للوطنية العربية المجيدة. وفي ما يخص محور التحدي نجد هذه الرواية في قمة حواراتها المجانفة لروح الثورة السورية العتيدة على الاستعمار الفرنسي والتي قادها بكل عظمة ووطنية وتضحية ونجاح المجاهدون: سلطان باشا الأطرش وصالح العلي وإبراهيم هنانو ويوسف العظمة وأحمد مريود، تقول ما يلي: " لقد تعلم كامل كيف يصمت طوال الشهور التي رافق فيها ذلك الرجل المسمى بهاء الدين (وهو اسم قائد الثورة من بني معروف). إذ كان الصمت رسالة الثقة الوحيدة لفرسان جوالين وسط عالم جانح مختل.. ". فمن وراء هذه الرواية، وبمنتهى التجرؤ على رموز الاستقلال الوطني في سوريا، يريد المؤلف إظهار أبطال الثورة السورية الذين دحروا أعتى قوى الاستعمار القديم، على شاكلة دون كيشوت، الذي حارب طواحن الهواء" وسط عالم جانح مختل.. ". والجدير بالذكر أن عمل " قصر المطر" لم يقتصر جفنه على هذا التعبير فحسب، بل عمد عبر معظم الفصول الأخيرة منه، إلى طعن مشاعر القراء الوطنية الفطرية، والشباب منهم بخاصة، ملحقا شتى العيوب والمخازي بكل ثائر قاتل الفرنسيين المحتلين العتاة تحت لواء قائد الثورة السورية المغفور له سلطان باشا الأطرش. وفي حال تمرير هذا التحدي على عقول الشباب الأحرار، لا نستبعد أن نقرأ قريباً روايات أخرى تتحدث بكل جنف وقسوة على المغفور لهم يوسف العظمة، أحمد مريود، صالح العلي وإبراهيم هنانو، وذلك كما حدث في عمل " قصر المطر". وإظهار الرغبة، من قدم رواية "قصر المطر"، في الدوس على حسّ الانتماء الوطني نتبين ضمن التفكير الذاتي لأحد أبطال الثورة السورية على الاستعمار الفرنسي ما يلي: "رأى أن كل ما حدث ليس سوى مسخرة، وخسارة، وشعر بالحزن على أولئك الذين ماتوا، اشتاق لعلي الشامي، وحنا البيطار، وذوقان سلام، وأحمد الجزار، والمقداد الكبير: "تعالوا شوفوا مين يللي ربح! ".. ألا يكفي هذا يا مقداد؟! وسوف يبذل كل ما يستطيع كي يبيض أيامهم. وسوف.. لكن هل يقدر حقاً على القيام بأي شيء، أيثور مرة أخرى؟ أيحمل بندقيته ويمضي بها إلى المنارة ثم يروح يطلق النار مرة ثانية.. فمن يسمعه؟ لا أحد يا حسان وما عليك الآن إلا أن تحمل معك، مثلما تحمل السلحفاة، صندوق ذكرياتك وصبوات الماضي، وسفر الأحبة، واختفاء أشقائك وأنجالك، وتيجان حبك، ما عليك إلا أن تصمت، وتسير راضياً، قانعاً بما صار.. ". وتأكيداً لحقيقة أن عمل رواية "قصر المطر" هو عمل سياسي منظم، يقع في إطار موجة حضارة القنوع، ثمة جوقة من المصفقين له، وضعته بكل سذاجة/ خبث في موقع أدبي متقدم، لكن هذه الجوقة، ومن حيث لم تحسب حسابه، قامت بوضع رقبة "مشاعر اللا مبالاة... ومشاعر العداء... " هذه تحت سيف الأجيال الراهنة المعتزة بتاريخ الثورة السورية ومثلها الرفيعة، فليس ثمة صوت يعلو على صوت هذا الرمز الوطني الخالد. يؤكد ذلك ما جاء في رسالة قادة بني معروف (شيوخ العقل لطائفة الموحّدين الدروز)، إلى رئاسة الحكومة السورية، والمجسّدة لغضب كل وطني حر في عرين العزة الوطنية العربية والتحدي، على مثل هذا الجنف الوطني. وفي ختام الحديث عن إرهاص انفصام شخصية المجتمع العربي، يجدر بنا الإشارة إلى حوار جرى مع أحد المنفصمين تولد نتيجة ذكرنا أمر فعلة "قصر المطر"، حيث قال الأخير: نحن نعرف أنك وأجدادك جميعاً في مدينة الباب (محافظة حلب) من مريدي مدرسة الإمام الشافعي (رضوان الله عليه)، فما الذي يحدوك إلى التدخل بين أحد من بني معروف (أي مؤلف الرواية) وأجداده؟! عندها تذكرت مقولة الإمام الشافعي (رضوان الله عليه) لمحاوره السخيف: " آن للشافعي أن يمدّ رجله "، فأجبته بأن تاريخ الثورة السورية المجيد، ليس سجل عز لبني معروف فحسب، بل هو رمز مميز من رموز كرامة الأمة العربية من أقصى الوطن العربي إلى أقصاه.

انحسار القيم

لقد انتاب البشرية اعتلال رهيب، ولم ينجُ أي إقليم أو مجتمع منه، وتشخيصاً لهذا الاعتلال، يقول تقرير نادي روما الأخير: "إن هناك العديد من الأسباب التي تدعو إلى الشك واليأس: فقد غابت القيم والمفاهيم، وتزايدت درجة تعقيد وغموض العالم، وأصبح من الصعب تفهّم المجتمع العالمي الجديد الآخذ في الظهور، كما لاتزال هناك مشكلات عدة بلا حل، ودون أن نحاول القيام بعملية تحليل عميق، دعونا نستعرض قائمة من الأعراض المتعددة التي - وإن اختلف كل منها عن الآخر من حيث طبيعته وآثاره - تشترك جميعاً في كونها أعراضاً عالمية النطاق، فهناك موجات العنف، خاصة في المدن الكبيرة والإرهاب الدولي ونشاطات عصابات المافيا على المستوى القومي التي تتحول بسرعة إلى شبكات دولية، وهناك أيضاً انتشار ظاهرة إدمان المخدرات وما يرتبط بها من جرائم، والإباحية الجنسية العدوانية، والانحرافات السلوكية التي تستغل بواسطة الصحافة وأجهزة الإعلام وأجهزة الدعاية والإعلان. إن كل هذه الظروف تعمل معاً من أجل تهيئة المناخ الذي يسمح على مستويات عدة بظهور بيئة جديدة يحظى في ظلها السلوك الاستثنائي المنحرف بتغطية إعلامية ضخمة ومتكررة إلى الحد الذي يدفع إلى النظر إلى هذا السلوك باعتباره هو السلوك العادي أو المألوف.. ". وبالنظر في مجمل التبشير الذي كرره عمل "قصر المطر"، نتبين محور الفكر الإباحي الجنسي مخترقاً هذا العمل منذ الصفحات الأولى وحتى الأخيرة، ونربأ بأنفسنا عن إيراد أمثلة عنها. كما نتبين عبره دعوات صارخة لتغييب القيم الإيمانية والوطنية والمفاهيم العربية الأصيلة لعل أقساها: تهكمه على رجال الدين حيث قال: "وعندما امتلأت القرية بالبوار يد، ظل يستخدم السيف، معلناً تمسكه بالمعدن الربّاني.. ثم توّج قلة حيائه برفض النساء، فلم يتزوج، ولم يعرف عنه واحد قط أنه رفع بصره نحو امرأة، لأي غاية. ثم انتهى إلى نسيان تلهف الذكورة فيه... ". وتجدر الإشارة إلى أن رجال الثورة السورية من بني معروف قاموا بسحق الحملة الفرنسية على الجبل الأشم، وكانت عدتّهم سيوفهم، وإيمانهم بربهم ووطنهم، التي تهكمت عليها "قصر المطر"، ففي معركة الجبل الأشم، نصر الله المعدن الربّاني على تقنيات الحرب الفرنسية، كما شهد بذلك أصحاب هذه التقنيات في مجمل تقويماتهم لأمر الصراع على سوريا العظيمة. محاولته تشويه صورة قيم وأخلاق أهل دمشق الشام بجعلهم عملاء للسلطات الاستعمارية وبناة بيوت الدعارة في السويداء: " احضر أحد الشوام ليبني فندقاً.. " مشيراً بذلك إلى بيت الدعارة الذي ضُمت إليه قطط لذيذة، كل ذلك إضافة إلى متاجرتهم بكل شيء حتى تسهيلهم سفك الدماء والقيام بأدوار مشينة. وتلويث سمعة المسيحيين بأنهم مثيرو الفتنة بين الناس، ومروّجو القطط اللذيذة، ومديرو خمارات، وعملاء للجيش الفرنسي، إذ قال مثلا: "كان أرمنيا وصل المدينة... فقط اسمه بطرس وقد فتح خمارة هناك... ". الحط من قدر الوطن وأبنائه حين يقول: "لكن اللحن القمري المحموم.. وعواصف الرقص نقضت التكهنات: هرعن إلى امتحان الحلبات. يعلوهن دوي كقصف الجسور، وأرسلن تهتكاتهن، ووزعن مجونهن في الخرائب مثل ورود!... ما الذي يجعل الخرائب حصنا للحرية؟! كان مستحيلا أن يفعلوا ذلك لو كانوا في المنارة، لا لأنها لا تفرح، ولكن لأن لا أحد يغني لأخته في يوم زواجها، فكيف تمنع الخرائب الحرية؟!. ويمضي هذا العمل قائلا: "لكن اختفاء الحمار، نبش طمأنينتهم كلها.. فمَن مِن هؤلاء جاء واختطف الحمار؟ ولم يختطفونه إذا كانت القرى لم مليئة بالحمير؟ ". ويصل هذا العمل إلى حمأة حقده على الوطن عندما يورد كلاما لسرجانت فرنسي جاء لم فتي ختامه: "نحن بلدة فحم... وأنتم بلاد روث مسيو كنج... ". وأعترف في هذا المقام أنني عرضت هذا النص على حفيدي، وهو تلميذ مدرسة في الصف الثالث، فتعجب كثيرا وقال: "خسئ هذا الفرنسي، فنحن بلاد الأبطال كما يقول أستاذنا في المدرسة، وكما رويت لنا عن بطولات يوسف العظمة وسلطان الأطرش وصالح العلي وإبراهيم هنانو وأحمد مريود.. ". لم أرغب بكسر خاطر وطنية هذا الطفل بالقول إن هذا الكلام من تأليف الذين كتبوا قصر المطر، ومن بينهم ممدوح عزام، وليس من كلام سرجانت فرنسي لا نعرف مصدر قوله من قريب أو بعيد. أيضاً النيل من روح الوحدة الوطنية بين أبناء الجبل الأشم، مع إظهار خيانة رجال الدين الموحدين للثورة السورية، حين قال هذا العمل: " بعد عشرة أيام، زاره (أي الحاكم الفرنسي) وفد مشيخي عارضاً عليه المصالحة، لقد أنهكتهم هجماته المغولية، وإسراف جنوده في القتل، والتذبيح.. هكذا تمخضت إجراءاته الشديدة عن نزوع حماسي للسلم عند السكان، وكشفت عورة هؤلاء الذين سبقتهم روايات رعب مهلكة، وراودته الرغبة القديمة في الصراخ أمام المستسلمين "أنا قيصر" بينما تضاءل ظل بهاء الدين (أي الباشا قائد الثورة على المستعمرين)، وقامته الجبارة حين رأى بعينيه كيف تتهاوى حصونه البشرية، وقلاع حمايته واحدة وراء أخرى، أفضل شيء استطاعوا عمله، هو إصدار مرسوم الحرم ضد بهاء الدين والمتعاونين معه، وإعلان الدعاء، والصلوات لمجد الدولة المنتدبة.. ". لا جدال في أن إيراد هذا النص في عمل "قصر المطر"، ولو كان صحيحاً، وهو ليس كذلك بالطبع، وفي هذا الوقت بالذات الذي نحن فيه بأمس الحاجة إلى الوحدة الوطنية والاستضاءة بنور أجدادنا الثوار الغر الميامين، يشكل منتهى الانكشاف المعادي لقيم ومبادئ مجتمعنا العربي في عرين الثورة والإباء سوريا.

وقد يذكرنا هذا الإمعان في هذا المقت بحديث شريف ورد على لسان أحد الصحابة، أويس القرني، يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "احفظوني في أصحابي، فإن من أشراط الساعة أن يلعن آخر هذه الأمة أولها، وعند ذلك يقع المقت على الأرض وأهلها، فمن أدرك ذلك فليضع سيفه على عاتقه ثم ليلق ربّه تعالى شهيداً، فإن لم يفعل فلا يلومن إلا نفسه ".

تردّي رؤية المستقبل

لقد أفلحت حضارة القنوع، حتى مطلع أفول القرن العشرين، في صنع فراغ عالمي منطو على اعتلال حاد في البشرية، لكنها لم تتمكن بعد من تحقيق قانون فيزيائي يقضي بأن أي فراغ لابد أن يملأ، فالطبيعة تمقت الفراغ كما يقول نادي روما. وتعود خيبة هذه الحضارة في تحقيق ملء الفراغ إلى نشوئها أصلاً على تحطيم الأصول الحضارية الإنسانية وتغييب الفكر الإنساني عن رؤية المستقبل. وفي هذا الصدد يؤكد تقرير نادي روما على : " أن غيبة الفكر حالياً أو الافتقار إلى رؤية مشتركة ليس لما سوف يكون عليه عالم الغد، ولكن لما يجب أن يكون عليه هذا العالم حتى نستطيع تشكيله، هو أمر يدعو إلى الإحباط بل إلى اليأس.. ". ويمضي نادي روما قائلاً : " كذلك فإن المناضلين من أجل الحرية - وبالرغم من اختلافاتهم القبلية والأيديولوجية - استطاعوا أن يوحّدوا صفوفهم وأن يعمّقوا مشاعر الوطنية في صراعهم من أجل الاستقلال عن العدو المشترك الذي تمثل في القوى الاستعمارية القديمة.. ". فهل توصل العرب اليوم، بعد طغيان وعدوان بعضهم على بعض (كما تجسّد بشكل مقيت في العدوان على الكويت) إلى اقترابهم من تجاوز هذه الغيبة الوطنية والأخلاقية والحضارية، أم أنهم سيبقون كما قال الله جلت قدرته سيبقون: (تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى)؟، وسيخضعون عاجلاً أو آجلاً لعارم موجة حضارة القنوع وضارم إرهاصاتها. ونجد في عمل مثل "قصر المطر" سعياً مضاداً واحداً، من بين جملة مساع شريرة أخرى، إزاء فتح أذهان الأجيال الشابة على رؤية المستقبل من خلال فلاحات وجودنا العربي منذ أن خلق الله السماوات والأرض. فلقد تركز جهد هذا العمل على إظهار صورتين: أولاهما - ضآلة الثورة السورية أمام طغيان قوة المستعمر الفرنسي الغاشمة من خلال قزمية قائدها الباشا، بينما تؤكد الحقيقة التاريخية عكس ذلك تماماً. ففي الفصل 65 من العمل هذا، وعلى لسان ثنية الفضل جاء: "ثم هوت إلى الأرض وهي تنشج: لمين بدنا نتركها؟ وين بدنا نروح؟ قالت ذلك، رغم أنها كانت تعرف أن بهاء الدين (الباشا قائد الثورة) أضحى كالعصفور، لا يستطيع أن يفعل شيئاً أكثر من أن يخبط يمناه بالشمال، ويكسر يسراه في الجنوب أو الغرب، وأن آخر حظوظه من الدنيا هو النجاة من وكر الوعر.. ". وثانيتهما- أن الشهادة في سبيل الله والوطن والحق مجرد عمل إرهابي عبثي لا طائل من ورائه، وأن مؤكدات هذه الدسيسة على شموخ الإنسان ووطنيته وإيمانه منثورة بشكل منظم عبر معظم فصول الرواية. فلقد جاء في الفصل 57 ما يلي: "رأيت بهاء الدين (أي الباشا قائد الثورة) يبكي مرة ثانية، بكى مثل النساء يا محاسن.. كان يريد أن يقول لها، إنهم دفنوا المقداد في ذلك السهل الرهيب الطافح بالأشواك، وأنه سيبقى هناك إلى الأبد، عجوزاً، متعباً وحيداً... ". لا ريب في أن من صنع هذا العمل قد أظهر منتهى الغباء عندما حاول طمس حقيقة وجود حافز الشهادة في سبيل الله ضمن مورثاتنا Genes وستبقى أشواك السهل الرهيب في جبل العرب الأشم، على مدى بقاء السماوات والأرض محيية بزهرها شهادة الرجال الأبرار من أمثال المقداد وتخزُ بإبرها الحادة عيون كل طامع في تراب وطننا العربي العظيم.

تحجّر المعلم العربي

وقد لاحق في أفق وجودنا العربي معالم شبح حضارة القنوع، وكشفنا فيما سبق جانباً من ملامحه الغاشمة، لا نجد عربياً مؤمناً بربّه ووطنه يتوانى عن شد عصبة الكفاح على رأسه والتحرّك مع أمثاله باتجاه مجابهة تحديات هذه الحضارة المارقة الوافدة. وأجدني في هذا المقام، متفائلاً برؤية الأمة العربية تبتكر، في القريب العاجل، وسائل حضارية متقدمة لصنع وقفتها العصرية في وجه طغيان هذه الموجة. وينبثق هذا التفاؤل من عفوية وطنية الشباب الذين جاءوني بقضية رواية "قصر المطر"، مبرزين إحساسهم بالمسئولية إزاء كسر حدة إرهاصات شبح حضارة القنوع، التي عبرت رواية "قصر المطر" عن بعض جوانبها المظلمة. وقد فسرت حوار هؤلاء الشباب الأبرار معي على أنه امتحان متقدم لي، يريدون منه اختبار مدى مرونة أو تحجر فكري الوطني. إذ لم يعد خافياً على كل عربي شبابي الفكر والروح أن المعلم العربي - وربما كنت ذاته - قد اعتراه التحجّر، يؤكد ذلك حيرة الأجيال الشابّة في التفرقة بين جوهر القيم الحضارية العربية ومجرد التعبير الشكلي عنها، واستجابة لهذا الامتحان، بدا قلبي متوثبّاً نحو التعبير في هذا المقال عن القهر الذي أثقل روح أولئك الشباب وهم يرونه عملاً لا مبرر لنشره في هذا الزمان العربي العصيب، الأمر الذي يؤكد ما توصلنا إليه، فيما سبق من مقالنا هذا، من حقائق ونتائج تدفع جميعاً إلى القول بأنه: قد حان الوقت كي يخرج المعلم العربي عن صمته، ليحفز عقل وروح الشباب العرب إزاء ما يعتريهم من إرهاصات حضارة القنوع، وذلك قبل أن يفرح أعداء الحضارة العربية بأن الساحة قد خلت من الثوار على الباطل، فيا رجال الوطن العربي قوموا لله، دافعوا عن وجودكم، فقد ضاقت بنا السبلُ.

 

عدنان مصطفى