وهم الدخول إلى الألفية الثالثة

 وهم الدخول إلى الألفية الثالثة

شهد العقد الأخير من القرن العشرين الخطوات العملية لإرساء دعائم النظام الدولي الجديد، الذي دشّن بانهيار جدار برلين سنة 1989، وزوال مشاهد الحرب الباردة بين الأيديولوجيتين الشيوعية والليبرالية، وبداية مشاهد التحول العالمي الطوعي أو القسري لتبني قيم ومبادئ الأيديولوجية الليبرالية الغربية، كإطار مرجعي بديل عن الأطر المرجعية المحلية المقدسة والوضعية، يضفي بمحدداته التنظيمية والثقافية والفكرية والسلوكية سيادة النموذج الليبرالي الغربي على جميع ميادين الحضارة الإنسانية، ويمنح - طوعاً أو كرهاً - البديل المرجعي لحركية الحضارة الإنسانية في القرن القادم على أقل تقدير، ما لم ينهر هذا النموذج ذاتياً، أو بفعل سنية التطور الحضاري نمواً وتآكلا، وليبقى معه المشهد الحضاري الإنساني في القرن القادم غربياً، يكرس روح الهيمنة والسيطرة المرضية المخبوءة في النفسية الجمعية للعالم الغربي.

وهو المشهد الحضاري ذاته الذي مارسه الغرب - المهيمن على صناعة مسيرة الحضارة الإنسانية بعد الأفول الشهودي والحضاري العربي الإسلامي في العصر الحديث - على العالم خلال القرنين الماضيين بعد عقد مؤتمر فيينا
(سنة 1816م) لتنظيم الخارطة الدولية للعالم الجديد في القرن التاسع عشر وهو القرن القادم يومها، وبعد مؤتمر فرساي بفرنسا (سنة 1919م) لتنظيم الخارطة العالمية في القرن العشرين وهو القرن القادم يومها.

وقد خدع ساسة الغرب العالم أجمع بعد مؤتمر فرساي بمبادئ الرئيس ا لأمريكي ولسون الأربعة عشر، وغيرها، وعلى رأسهم قادة المسلمين كشريف مكة الحسين وابنه فيصل الأول الذي حضر المؤتمر وخرج منه صفر اليدين، وتقنين استعمار بلاد العرب والمسلمين بقوة قانون المستعمرين الأقوياء، وتكريس وعد (بلفور) في أرضية الواقع.

وكما خدع ساسة الغرب - كعادتهم - العالم بعد بيان الأطلنطي سنة 1942م، وحق الشعوب في تقرير مصيرها، بعد القضاء على النازية ومن معها من دول المحور، والذي لم يعرف منه المسلمون إلا المآسي والآلام، وعلى رأسها مأساة فلسطين السليبة، ينطلق ساسة الغرب - كعادتهم أيضاً - بعد سلسلة المعاهدات الأوربية - الأوربية، والأوروأمريكية وغيرها...إلى وضع خريطة دولية جديدة، تنظم كيان العالم مستقلاً، وتبرمج بدقة متناهية مسيرة وصيرورة الحركة الحضارية في القرن القادم وفق المنظور الأيديولوجي الليبرالي الغربي، ووفق النموذج الحياتي الغربي، شاملاً جميع نواحي الحياة الإنسانية : الفكرية والعلمية والسياسية والاجتماعية والثقافية والإعلامية والأدبية والفنية والتربوية.

وقد بدأت معالم هذا النظام الدولي الجديد تظهر منذ العقدين الأخيرين من القرن العشرين، نظرياً وفكرياً وفلسفياً، كما بدأت أيضاً تجد تطبيقاتها العملية في سائر نواحي المسيرة الحضارية الإنسانية، وبيد صانعي هذا المشروع وسدنته من أقوى القوى الليبرالية الغربية الحامية له، وذلك عبر مختلف المنابر والمؤسسات والهيئات والمحافل الدولية نظرياً وعملياً، وعبر كل وسائل الإعلام وطرق الاتصال المختلفة، وفي العلاقات الدولية الجديدة بين الدول والكيانات.

العالم غرفة مضيئة

وانتقلت أدبيات هذا النظام الدولي الجديد إلى مختلف أنحاء العالم بفعل توافر وسهولة وسرعة وسائل الاتصال، التي فتقت العالم على بعضه ليصبح مجرد غرفة مضيئة فقط، بعد تقادم مسلمات (ثورة الاتصال بالجماهير، وثورة الوسائل، والقرية الإعلامية أو الإلكترونية)، وصار المهزومون والمتخلفون من المولعين بالتقليد والتقمص الأعمى - أمثالنا نحن العرب والمسلمين - مهووسين باستخدام سائر أدبيات ومصطلحات النظام الدولي الجديد، وبعد أن كان المصطلح الوافد يقطع شوطاً تدريبياً وتثقيفياً وتهذيبياً كبيراً بين دائرة المتخصصين أولا، لينتقل إلى دائرة عموم المتعلمين والمثقفين ثانياً، ليصل أخيراً إلى عامة المستنيرين، صار- بفعل هذه الوسائل الجدية والسريعة والفاعلة - يحرق كل الخطوات والدوائر ليصل مباشرة إلى الاستهلاك الثقافي الاعتيادي بين عامة المثقفين وعلى رأسهم الإعلاميون، فشاعت بينهم أثناء حواراتهم وأحاديثهم ولقاءاتهم وكتاباتهم... عبارات: (الألفية الثالثة، القرن القادم، القرن الواحد والعشرون، النظام الدولي العالمي الجديد، الكوكبة، العولمة، الإنترنت، المنيتيل...) بوعي تام أو جزئي بمدلول وأبعاد هذه المصطلحات والأدبيات. أو تصديق لنبوءة رسول الله صلى الله عليه وسلم المستقبلية في حديثه الشريف (... والله لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه) وهو يتحدث عليه الصلاة والسلام عن مستقبل التبعية التي يخشاها على المسلمين لغير شرع الله.

والمسلم به بداهة أن حالة الوعي والإحاطة بما يدور في العالم، والتي تتردد على ألسنة الكثير من مثقفينا ودارسينا وسياسيينا وقادة الرأي في عالمنا العربي والإسلامي أمر حتمي وضروري لإنسان الحضارة الإعلامية المعاصرة، وهو من مقتضيات المسايرة الحضارية.

ولكن السؤال الملح الذي يطرح نفسه الآن هو: ماذا أعدّ المتخلفون من أدوات وعدد للدخول الفعلي في الألفية الثالثة؟

وماذا قدموا في عالم الأفكار والمعارف لاستقبال القرن القادم؟

وماذا أعدوا في عالم الأشياء الواقعة لولوج القرن القادم بقوة وعزيمة؟

وماذا هيأوا في عالم الوجدانيات والنفسيات والروحانيات لولوج القرن القادم بثقة وطمأنينة؟

عوامل دخول الألفية

وعلينا أن نشير إلى أن مناقشة حالة الغثائية واللاوعي التي درج عليها مثقفونا وقادة الرأي عندنا بالإكثار من ترددا القضايا وتشكيل خلفية وهمية لصانعيها لم تعد مجدية لنا ولهم، وعلينا وعليهم تجاوزها لتفهّم أدوات وحالات الاستعداد التي تؤهلنا للدخول في الألفية الثالثة، وبتجاوزها نكون قد رتقنا الشرخ النفسي والوجداني - وهو الحد الأدنى المطلوب - بين واقعنا المتخلف وحالة التبعية للغرب التي عليها عالمنا العربي والإسلامي اليوم.

وهنا لابد لنا أن ندرك تمام الإدراك أن الألفية الثالثة ليست ألفية الحديد والفولاذ والألمنيوم وأبنية الحجارة، بل هي ألفية ما بعد الكهرباء وضوء المصباح، إنها ألفية ما بعد التكنولوجيا أو ما فوق التكنولوجيا، ألفية اللدائن والبلاستيك والأحجام الصغيرة وقوة الذرة، وزخم الحاسوب والإعلام الآلي.. وآليات السرعة الصوتية والضوئية، ألفية الاستيطان في الفضاء، وبناء المستعمرات الفضائية، والعمليات الجراحية عن بعد وبدقائق الحاسوب الإلكترونية.

وسيكون مصيرنا - نحن المتخلفين - على عتبات الألفية الثالثة إحدى ثلاث حالات، ففي الحالة الأولى وهي أسوأ وضعياتنا، سيكون وضعنا فيها وضع سائر الأشياء والموجودات التي يتعقّبها الزمن الفيزيائي دون إرادة منها، وهي في طورها الكموني السكوني الخاضع لتعاقب الثقلين. وفي الحالة الثانية وهي التي عليها نحن اليوم، وهي أيضا أسوأ من الأولى سيكون وضعنا فيها موضع المخادع لنفسه، المضلل لمجتمعه ولأمته، وذلك بحالات الترداد الببغائي اللا واعي لبعض أدبيات الألفية الثالثة التي نسمعها أو نراها من صانعيها مباشرة أو عبر وسائلهم الإعلامية والدعائية والاتصالية.

أما الحالة الثالثة، وهي الحالة التي عليها صانعو أدبيات الدخول إلى الألفية الثالثة، وهي التي يجب أن نكون قد هيّأنا - الحد الأدنى اللازم - لها أنفسنا عقلياً ووجدانياً وسلوكياً وإنجازياً، لنتمكن من ولوج عتباتها بثقة وثبات واحترام.

والملاحظ أننا - العالم المتخلص - مازلنا نعيش أطر وقوالب القرنين الماضيين من الألفية الثانية، بحجج الأصالة والتمسك بالعقيدة، والحفاظ على الدين، وهي جملة آليات - في اعتقادي - يخادع الضعفاء بها أنفسهم ومواطنيهم خشية الإفصاح عن أسباب عجزهم وتخلفهم الحقيقية، والدين الإسلامي وأطره المقدسة أبعد ما يكون عن طروحاتهم الهزيلة.

ونتساءل هنا عن أدوات وعوامل الدخول في الألفية الثالثة؟

إن عناصر وأدوات الدخول للألفية الثالثة تتمثل فيما يلي:

1 - الإنسان الحداثي الفاعل، الذي حسم نهائياً معضلة التناقض الشكلية - التي أثارها مثقفو التشكيك والإلحاد في نهاية الألفية الثانية - بين أطر وحدود وضوابط دائرتي الأصالة والمعاصرة، وتقديس ما حقه التقديس من كتاب كريم وسنّة مطهّرة، واحترام ما حقه الاحترام من آثار وفهومات السلف، وترك ما وجب تركه من مرتبطات الزمان والمكان والكيان، والتطلع لمقتضيات وفهومات حداثية تستجيب لمعضلات الإنسانية الضالة.

الإنسان الحداثي الفاعل، الذي خلص نفسه من إسار القوالب والعقد ودوائر التعامل الكلاسيكية الموروثة عن الألفية الثانية، مما لم تنص عليه المحددات والأطر المرجعية المقدسة (القرآن الكريم، السنّة النبوية المطهرة، فهومات الأئمة الأعلام كبوابات لولوج النص المقدس).

الإنسان الحداثي، الإنسان الكوكبي المهيأ للتعامل العولمي دون التضايق من ضوابط شريعته وثقافته، الإنسان الحداثي الفاعل المتحرك، وبهذا الإنسان يمكننا الدخول بثقة إلى الألفية الثالثة.

2 - التحكم في تكنولوجيا التقنيات عامة، بحيث يمكن السيطرة على سائر معضلات البشرية العشر : (التصحر، تلوث البيئة، قلة المياه، سخونة الجو، الانفجار السكاني، النفايات بأنواعها الكيماوي والنووي والعادي، أزمة الغذاء، انحراف الفطرة البشرية بالمخدرات والسيدا ...، الحروب المحلية والإقليمية، الظلم والعدوان)، وهذا التحكم الفاعل في معضلات البشرية مع القدرة على إيجاد الحلول لها هو أحد مقومات الدخول في الألفية الثالثة.

3 - التحكم التام في تقنيات عالم المعلوماتية السريع والمتطور بسائر إفرازاته الإعلامية والاتصالية الأرضية والفضائية.

ولكن ما حظ العالم المتخلف من هذه العوامل الثلاثة؟ أين فردها الحداثي الفاعل؟ وتحكمه التكنولوجي القوي؟ وقدرته المعلوماتية الفائقة؟

استئناس المرونة

في الحقيقة هي واقعه وقدره ومصيره قبل أن تكون مجرد تساؤلات افتراضية أو بحثية، لأن عالمنا المتخلف اعتاد واستأنس قوالب الاسترخاء الموروثة عن الألفية الماضية، التي جد فيها صانعوها، ليفعلوا اليوم صناعة الألفية الثالثة.

وبقدر ما كانت الشعارات والأيديولوجيا في الألفية الثانية تشكل غذاء حيّاً للشعوب، ودواء مسكناً يطيل عمر الأنظمة والكيانات الحاكمة، وبها قامت الحروب والفتن والصراعات بين الأمم: (الحروب الصليبية، والغزوات الاستعمارية، الحربان العالميتان...) فإنها في الألفية الثالثة عليها أن تتحول لتبني التكنولوجيا، فتنتقل بذلك من مرجعيات الأيديولوجيا إلى تفعيلات التكنولوجيا، لأن التكنولوجيا هي وقود الألفية الثالثة.

إن وقود الألفية الثالثة يختلف تماماً عن وقود الألفية الثانية، وهذا يتحتم على العالم المتخلف الانتقال من الديماغوجيا وصناعة السفسطة والكلام إلى البيداغوجيا وصناعة الإنسان، ومن الاستهلاكية إلى الإنتاجية، ومن العدمية إلى الغائية، ومن السلبية إلى الإيجابية، ومن الكمونية إلى الفاعلية.

وبهذه الآليات، يمكنه الخروج من دائرة الوهم أو الاستيهام - التي وقع وأوقع مواطنيه فيها - للدخول إلى الألفية الثالثة بحق، لأن الدخول إليها ممارسة فاعلة، وليس حديثاً عابراً يملأ فراغ الواهمين.

 

أحمد عيساوي