الفيوم.. حين تكون البلاد بشرًا!

الفيوم.. حين تكون البلاد بشرًا!
        

          البلاد بشر، نحب بلادًا ونبغض بلادًا أخرى. نتغزل في بقاع ونلعن بقاعًا أخرى، نقبّل ثرى أرض، ونبصق على ثرى أرض أخرى. وفي عالم البشر ليس هناك ما هو أكثر حميمية من علاقة الأمومة، فالأم حضن المرء ورحمه، لذا أدرك البشر منذ زمن بعيد أن ما يربط الإنسان بمسقط رأسه ووطن طفولته أشبه بما يربط الإنسان بأمه، فأطلقوا على البلد التي يفتح عليها الإنسان عينيه، ويتنسم في المهد عبيرها «البلد الأم». وأنا مربوط بحبل سري لا ينقطع بالفيوم الأم التي أرضعتني الصلابة والتحمّل والصبر اللامتناهي على الكدح، وأورثتني بعض حدة أخفاها طوال التمرّس بإتيكيت المدن، لكنها تشب برأسها بين الحين والآخر، كعاصفة غير متوقعة.

          البلاد بشر، وللبشر نقوش فوق وجه الزمن. والفيوم، منقوشة على يد فأسي القديم التي طالما ناغشت بها وجه الأرض حتى تحبل بالثمر، وعلى يد العربة الكارو التي رافقتني سنوات، وأنا أدفعها أمامي أو أرجها خلفي من قرية إلى أخرى، أبيع ما تيسّر من بقايا خضر وفاكهة خلّفها سوق راكد، أو أوشكت على العطب. الفيوم التي في ذاكرتي أشمُّها في رائحة الورد البلدي الذي كنت أقطفه كل غروب من بستان سعيد الحلاق، وأستحلب طعمها في جلسات شوي الذرة في المساءات المقمرة في قلب حقول ناصر البيطار، وأتنسّم عبيرها في سهرات الصيف الممتدة في قارعة الطريق من العشاء إلىالفجر أمام دكان مؤمن الحاج سيد، وتشتعل بها روحي في سهرات قراءة الشعر والقصة حتى الصباح مع صحبة أسكرتهم نشوة اللغة، وجمعتهم غواية الأدب.

ريف النخلات الوارفة

          البلاد بشر، نعلق صور مَن نحبهم في غرف قلوبنا. والفيوم - تلك الريفية الشجية - أحمل صورتها معي في قلبي أينما ارتحلت. في وسط خضرة الريف الإنجليزي كنت أردد راضيًا: أين هذه الخضرة العقيم من خضرة «فيومتي» المثمرة؟ فالريف الإنجليزي - الذي تمتد خضرته بلا نهاية، والذي يخلب اللب بلمعان نباتاته، وجمال هندسته، واحتضانه لأنواع لا حصر لها من حيوانات الطبيعة - هو في النهاية ريف عقيم. ريف أشجار الزينة ونباتاتها، لا يُثمر ولا يسمن ولا يغني من جوع. أين هو من ريف الفيوم الذي يعيش من فيئه ملايين البشر. في ريف الغربة الملتحق بالجمال، أشتاق إلى ريف أعواد الذرة والقمح، ريف صعلكتي بين الأجران والحقول، حيث أصطاد سمك الترعة وآكل كيزان الحقل، وأرمي النخيل بالطوب، فيرميني بالرطب.

          البلاد بشر. وليس أكثر إيلامًا للبشر من وجع البعاد. وفي غربتي أحنّ إلى «فيومتي» حيث الخضرة عميقة، والهواء بلا دخان، والصمت غير منتهك بضجيج التحديث الزائف الذي يملأ سماوات المدن. فيما مضى اعتدت ما إن تقترب السيارة من مدخل الفيوم في كوم أوشيم ويبدأ الأفق في الاخضرار حتى أفتح النافذة على آخرها. أغمض عينيّ، وأعبُّ من هواء لم تمسسه يد التلوث بسوء، أتنفس بعمق، تنفُّس غواص يدرك أن القاع الذي يعتزم الوصول إليه بعيد. تتسع رئتيّ بلا حدود، فأشعر بالخفة، وأحلم بالتحليق في الأفق. أتذكر مشهد تحليق بطل فيلم «ثمانية ونصف» لفلليني، الذي حلّق في السماء بعد أن أيأسه زحام الأرض وضيق مسالكها، واشتاق للانعتاق. أود أن أحلّق مثله في سماء «فيومتي» التي لا تعرف من الحواجز إلا سعفات النخيل المتراقصة في الهواء. أغمض عينيّ وأبدأ في الطيران، فاردًا جناحيّ، ووجهي يرحل في أفق السماء. تملؤني السكينة وأنا أصعد بين السحاب، وترتسم على وجهي علامات الفرح، فالبلاد بشر، وذاكرة البلاد تشبه ماشطة محترفة، تخفي عن العين كل مؤلم وقبيح، وهكذا يتجلى ماضي بلدنا الأم دومًا في صورة مبهجة مكتملة بهيّة، فنحنّ إليه، ونمعن - حين يغيب عنا أو نغيب عنه - في التحسّر عليه.

الفيوم: شذا الفصول وألوانها

          البلاد بشر يتنسّم المرء عبيرهم أو تزكمه رائحته، والفيوم كانت تعبق بشذا تغيّره الفصول، فالشتاء موسم زهرات الفول البيضاء الفوّاحة، تلك التي اعتدت أن أقطف قرونها الغضة الصغيرة، وأن آكلها كاملة، وأمضغها على مهل. أما الربيع، فهو موسم تشرّب رحيق الورد البلدي الرهيف، الذي كنت أقطفه كل مساء وأقدمه لأمي وأخواتي، قبل أن أتعلم تخبئته في صفحات الكتب لإهدائه سرًا لحبيبتي. ثم يأتي الصيف بشذا فاكهته التي تعبق في المكان، فبيتنا يقع على طريق نقل الفواكه من الريف إلى المدينة، والسيارات المحمّلة بأطنان من ثمار الشمام العسلي كانت تنثر في الأفق رائحته الذكية بين الحين والحين. وأخيرًا يأتي الخريف محملاً برائحة كتب المدارس والملابس الجديدة، وقارورات العطر ذات البلية الدوّارة التي اعتاد معلمو مدرستي مكافأة الطلاب المجتهدين بقطرات منها.

          البلاد بشر، والبشر هم مَن يمنحون البلاد ألوانها، وقد ظلت الفيوم بالرغم من كر السنين مزركشة بدفء المودة، زاهية بالأصدقاء، حين أغمض عينيّ تنساب وجوه صحاب وهبتهم صدف الحياة وأقدارها، فمن بين جيران البيت وزملاء الدراسة والعمل وصلات النسب والقرابة وسهّيرة الليل لقتل الفراغ كنت دومًا أصطفي أصدقائي من الطيبين الذين يعيشون مثلي على هامش الصخب، بعيدًا عن دوامات الحياة. وعلى الرغم من أنني اخترت دومًا أن أكون خارج كل الشلل، فقد فرحت منذ نحو ثمانية عشر عامًا حين أتاح التعلق بالأدب أن أكون ضمن شلة «الأدباتية» في مدينة إطسا.

          أصدقاءٌ أربعة لم يجمعهم تقارب المنشأ، ولا وحدة العمر، ولا اتفاق الميول بل غيّة الأدب. يتخذون دومًا مجلسًا قصيًا في المقهى يتبادلون قراءة ما أعجبهم من نصوص كل يوم، كما يتبادل غيرهم النكات. كان حجر زاويتهم ذاك الشاعر الطويل النحيل الذي كان يقطر الحياة ويعبئها كل يوم في طقوس: محمود الجرداوي الذي كان لحياتي فاصلة عهدين، فمعه وبه قفزت إلى الأبد من عربة الصرامة، وتعلمت كيف أضحك من أعماق قلبي في عرض الطريق. أما مستكشف الشلة وغواصها في بحر الفكر، فقد كان القاص عصام الزهيري، الذي كان - ولايزال - يلتهم الكتب بشراهة دودة، ويحكي عنها بروح عاشق مسحور. كان - وقد سبقنا إلى عالم الأدب قراءة وكتابة ونشرًا - نافذتنا على «عالم الأدب»، وكانت مكتبته الثرية بئر معرفة لا ينضب. وبمثل ما جسّد الزهيري حالة الولع بالكتب، جسّد الشاعر حاتم حوّاس حالة الولع بالحياة. وبمثل ما كان الزهيري نافذتنا على عالم الفكر، كان حوّاس نافذتنا على عالم الفرح. كانت ابتساماته الدائمة، وقلبه الطفولي، وضحكته المجلجلة، علامات تكشف عن شخصية فريدة في تصالحها مع الحياة. وكان استعداده الدائم لخسارة كل شيء، وإعادة البدء من جديد يضفي عليه لمسة أسطورية لاأزال أشعر بها كلما وجدتني أتحدث عنه.

شدو الحناجر

          البلاد بشر، والبشر مقاطع أغنية وأبيات أشعار، وحيثما حللتُ في ربوع الفيوم كنت أسمع في الأفق شدو حناجر، ربما أنهكها التعب، وصبّرها الغناء، ففلاحو السواقي والنوارج كانوا يغنون للنباتات الزاهرة والخلجان المتدفقة بالماء، وصيادو بحيرة قارون ينشدون لأسماك البحيرة التي تخفي الكنوز في بطنها، ولخشب الفلوكات العتيقة، ورعاة الغنم ممن يسكنون الخيام يتغنون بليالي العشق وفضاء الحرية، وعمال الورش والمصانع  تمتلئ حناجرهم بنغمات تطمح إلى أن تعلو فوق صوت الماكينات. وعمال البناء الذين يسيرون فوق سقالات الخطر، يصدحون بأغاني مفعمة بالحياة، علّها تكون تعويذتهم ضد السقوط.

          البلاد بشر، والبشر سطور حكاية طويلة، لا تنقصها الإثارة ولا يعوزها الخيال، وقد نشأت في ريف يتباهى فيه أطفال الخامسة بحكايات مصارعة العفاريت والزواج من الجنيات، ولأنني عرفت منذ الخامسة أيضًا سوق العمل مع النساء والفتيات، فقد أتيحت لي فرصة أن أعب من حكايات «المرأة الفيومية» الحبلى دومًا بالقصص. كنت في البداية أجمع دودة القطن في عمل صيفي لمدة شهرين، ومنذ غبشة الفجر إلى أذان الظهر كنت أسير في خطوط متعرجة بين عشرات الصبية والصبيات نغني (يا اللي ع الترعة حوّد ع المالح) حينًا، ونحكي حكايات (أبو رجل مسلوخة) أو (ست الحسن) حينًا آخر. وحين اشتد عودي انضممت إلى جامعي القطن، من الفتيان والفتيات الأكبر سنًا، كان هذا هو العمل الممتع حقًا، فبالإضافة إلى أن موسم جمع القطن كان يتزامن مع نضج البلح الأمهات، ومع شهوة طلوع النخل، فقد كانت أيامنا عامرة بالخيال، وحكاوينا وأغانينا تحلق دومًا في السماء. أما في مساءات الشتاء، فقد كنت، أنا الشغوف بالحكي، ألبدُ في جوار الحكائين العظام - أمثال رمضان التلاتي وأسامة ميهوب - الذين كانوا يتشاركون بطولات حكاياهم مع العفاريت والأبطال. كنا نجلس على كثيب رمل أو مصطبة لبنيّة أو تل قش أو تبن أو على الأرض البراح، ويبدأ ليل الحكايا العامرة.

امرأة في خريف عمرها

          البلاد بشر، والفيوم في مخيلتي امرأة في خريف عمرها. ريفية هي، أنتشي بمشهدها وهي تحمل الزلعة على رأسها وتتهادى على شط الترعة، بجلبابها الأسود تحكي قصة فقدٍ لم تنمح ذكراه. ربما تبكي مجدًا ضائعًا، حين كانت عاصمة مصر في عهد لم يعد يذكره إلا تجار آثارها الذين يتكاثرون كفئران الجرن، أو تبكي مستقبلاً يبدده مزيج قائم من التسلط والغباء، أو تنوح على بشر فقد بعضهم رغبة دفع ثمن العيش في كرامة، واختاروا أن يكونوا حلقة صدئة في سلسلة القهر. لكنها بالرغم من سواد الرداء، وعلامات الكهولة، مازالت تحمل أثرًا من جمال، يتبدّى في شبابها وشاباتها ممن يحملون حلمها في قلوبهم، ويواجهون تصحّر العقل وجفاف الروح، هؤلاء هم مهجتها وفخرها وعزوتها. تحسبهم فرادى وقلوبهم يجمعها همّ المستقبل. سيماهم في وجوههم، سمار الجباه وطيبة الوجوه والتماعات الجدية التي تبرق في العيون. لا فرق فيهم بين من يجر جاموسته في طلعة الشمس إلى الحقل، ومَن تقف النهار بطوله تخط حروف الأبجدية في كراسات أطفال لا تنقصهم النجابة.

          البلاد بشر، والفيوم أمي التي أخاف أن ينضب بئر الشوق لها، أو أن تتلبّد سماء علاقتي بها بدخان الخوف أو غمام اليأس. أتمنى أن أظل دومًا مشدودًا إلى الفيوم، التي في ذاكرتي، ومتشبثًا بالفيوم التي في أحلامي، وأن تظل كعهدي بها قلبًا وسيعًا، وحضنًا آمنًا.

 

 

 عماد عبداللطيف   

  




الفيوم بساط الخضرة





نادي محافظة الفيوم





هرم هوارة .. أحد أقدم أهرام مصر





صيادو بحيرة قارون .. غناء لا ينقطع





سواقي الفيوم





تمازج الطبيعة والإنسان





سواقي الهدير .. موسيقى تصدح منذ ألاف الأعوام





شلالات وادي الريان .. هدير عذب





قصر ثقافة الفيوم





صحراء الفيوم .. أفق ممتد