عكاظية حول بط الماحي!
عكاظية حول بط الماحي!
الشاعر محمد مصطفى الماحي (1895 - 1976) من شعراء الوسط، فهو لا ينتمي إلى جيل أحمد شوقي وحافظ إبراهيم وخليل مطران، ولا إلى جيل جماعة أبولو، فهو وسط بين الجيلين، ولا يندرج ضمن أي مجموعة من شعراء عصره لاستقلاله عنهم جميعًا. وشعره متين السبك يطرد على سنن الخليل ويخلو من أي تجديد أو من أي شطحات تُعزى إلى التجديد. عندما خرج إلى الحياة العملية عيّن موظفًا في وزارة الأوقاف، ونزح بالتالي عن مدينته دمياط الساحلية، دون أن يقطع صلته بها، بل صار يعرف بالشاعرالدمياطي. اختار لإقامته حي حدائق القبة في القاهرة في شارع اتفق أن كان اسمه «شارع البحتري، وهي مصادفة جميلة ألهمت صديقنا المشترك الخطاط الكبير سيد إبراهيم نظم أبيات قام الماحي بتعليقها في إطار في غرفة الصالون مكتوبة بالخط الرائع لسيد إبراهيم ونصها: قلت وقد جُزنا الحدائق غدوة فرد عليه الماحي بقوله: يا سيدًا في كل ما تسمو به و«التنظيم» هو الجهة الإدارية التي تطلق أسماء على الشوارع. أما الخطاط سيد إبراهيم فكان من عشاق المعري وكان هو وصديقنا المشترك كامل كيلاني يكادان يحفظان ديوان المعري. وكان من عادة الماحي أن يدعو جملة من الشعراء إلى بيته ليتقارضوا الشعر ويناقشوا قضاياه في العصاري، فإذا اقتربت الساعة من الثامنة مساء، انفض الجمع دون أن ينسيهم الشعر احتساء الشاي والتهام صنوف الكعك. ومع أنني لست من فصيلة الشعراء، فقد كان الماحي يتكرم بدعوتي إلى هذه الجلسات، ربما اعتقادًا منه بأن عدوى الشعر قد تنتقل إليّ مع أنني أكاد أكون محصّنًا ضد هذه العدوى! البط الدمياطي وذات يوم هاتفني الماحي داعيًا إياي إلى ندوته المعتادة،ولكنه استدرك قائلاً: إننا سنؤخر موعدها إلى الثامنة مساء نزولاً على ظروف الشعراء المدعوين. وفي الموعد المحدد توجهت إلى دار الماحي، حيث صادفته جالسًا في الحديقة الخلفية مع جاره وصديقنا المشترك الشاعر أحمد رامي، ولم يلبث رهط الشعراء أن تواكب في الحديقة، حتى إذا ما اكتمل عددهم دعانا الماحي إلى الدخول إلى المنزل، وإن كان الشاعر رامي اعتذر لارتباطه بموعد آخر. وهكذا ألفيت نفسي وسط حشد من الشعراء يضم محمود غنيم والعوضي الوكيل وأحمد مخيمر وحسن كامل الصيرفي ومختار الوكيل وعبدالسلام شهاب. وفور انتقالنا إلى الدار، فوجئنا - مفاجأة سارة طبعًا - بموائد منصوبة توزعت عليها وتنوعت صنوف الطعام الشهي وكلها من نتاج دمياط التي تشتهر بنوع من البط صغير الحجم سهل الطهي حلو المذاق خفيف على المعدة بسبب سهولة هضمه، على خلاف البط البلدي ذي الشحم والدهن (والزفارة) مع صعوبة هضمه. فها نحن أمام طعام تفننت في إعداده زوجة الماحي، فهناك البط المسلوق والمشوي والمقلي والمحشو وهناك أيضًا حساء البط. فقلت للماحي وأنا عاكف على بطه: لقد حسبت أن دعوتك بريئة تخلو من أي رشاوى من البط وملحقاته، فقال: إنها بريئة فعلاً وأنتظر حكمك بالبراءة. ولم أفطن إلى ما قصده الماحي بهذه العبارة. ولمّا «نسفنا» موائد البط دعانا الماحي إلى صالون بيته لنبدأ الندوة الجدية، حيث رحب بنا المضيف وقال إنه تعرّض لحملة جائرة من صديقه الشاعر محمود غنيم الذي اتهمه بأنه على شاكلة أهل دمياط بخلاً وتقتيرًا - حتى ولو وصفوا هذا المسلك بأنه تدبير قائلين إن المرأة المدبرة هي الأفضل بين النساء - وقال إن غريمه الشاعر يتهمه بأنه يستأثر وحده بالبط الدمياطي ويحرم زملاءه الشعراء من هذه النعمة. وقال إنه بعد سماع المرافعات الشعرية من الجانبين ينتظر الحكم البات بالبراءة وليس بالإدانة. قصيدة حلمنتيشية واتفق في ذلك الوقت أن صدر ديوان الماحي المجموع في أكثر من 700 صفحة، وكأنه من حيث الحجم يضاهي دليل تلفونات القاهرة، وهو ما استوقف الشاعر الحلمنتيشي عبدالسلام شهاب فجعل منه فاتحة قصيدته الحلمنتيشية عند افتتاحه حلبة المعركة حيث قال: ديوان الماحي الدمياطي وانتقل إلى البط الدمياطي، وهو لبّ المعركة فقال: ولبيت الماحي صيتٌ في وهي قصيدة طويلة حاكى فيها عبدالسلام شهاب الشاعر الحلمنتيشي المشهور حسين شفيق المصري فأضحكنا وأمتعنا حتى باستخدامه - نزولاً على أحكام القافية - عبارات عامية مثل «الحفلاطي» و«طاطي طاطي» وأيضًا بنت الشاطي. ومن أسف أنه لم يتسن لي الحصول على نص هذه القصيدة الفريدة. وفور أن فرغ عبدالسلام شهاب من إنشاد هذه العصماء الحلمنتيشية، وقف محمود غنيم وكأنه أسد هصور أو وكيل نيابة مقدام أو قائد معركة حربية هي معركة مصير، وشن على الماحي حربًا عوانا، لأنه في بخله الدمياطي المشهود استأثر بالبط الدمياطي ولم يترك لشاعر ولو ريشة من جناح بطة. ولأن هذه المساجلة فريدة في الشعر،فسأنقل نصها الكامل من ديوان غنيم الذي بدأ «مرافعته» بقوله: قد سمعنا عن بطكم ما سمعنا فردّ عليه الماحي بقوله: يا أخي، يا غنيم، رفقًا بحالي ورأى غنيم أن دعوة الماحي مذبذبة غير صريحة فعلق عليها بقوله: أيها الشاعر الرقيق الحال فأجاب الماحي إجابة لا تزيد عن سابقتها فتيلاً بقوله: يا صديقي، لقد عهدناك عَدْلاً لم يقتنع الشاعر محمود غنيم بصدق الماحي، فجرّد عليه حملة شعواء لا ترحم حيث قال: 1 - دون الوصال بالله، يا ذات المحيا الضاحي 2 - ليلى المريضة في العراق ويلاه! ليلى بالعراق مريضة 3 - حامل الأوسمة قال الصديق: لقد وصلت فزيّنوا 4 - مصارع الآساد ساءلته: من أنت؟ قال: أنا الذي 5 - الفرسان الثلاثة لو أن «هانيبال» جاء محاربًا 6 - المستحيلان لا شيء في دنياك غير متاح 7 - في زحل لمّا تكشفت النجوم وأفلحوا 8 - عفريت من الجن أسمعت عن جن ابن داود الذي 9 - محتضر يتمنى شاهدت خِلّي وهو يلفظ روحه 10 - مهر الخطيبة قال الخطيب: لقد فقدت خطيبتي بعد هذه الهجمات التترية التي شارك فيها هانبيال ونابليون وهتلر، علق الماحي قائلا: يا أخي يا غنيم سامحك الله! وكانت خاتمة هذه المساجلة قول الشاعر محمود غنيم: يقولون: ما للشعر غاض معينه وفي ختام هذه السهرة الشعرية، احتكم الماحي إلى الحاضرين وكله أمل في أن ينصفوه من تهمة البخل والاستئثار بالبط الدمياطي، فأجمع الحاضرون علىأن التهمة باطلة فقد سقطت بعد تناول الطعام الشهي في بيت الماحي، فكانت هذه آية لا على بخله بل على كرمه وسخائه. غير أن الشاعر غنيم اعترض على هذا الإجماع قائلا: إن مأدبة واحدة لا تكفي، فلا بد للماحي من أن يثنّي وربما يثلث ليثبت أن الكرم سجية مستمرة وليست مجرد نزورة طارئة كالتي خبرناها. وحتى لا يضيع صوتي في خضم هذه المجادلات الشعرية، لاسيما أن الماحي كان قد صارحني بأنه ينتظر حكمي بالبراءة، فقد وجهت إليه رسالة، قلت له فيها إن حكمي الشخصي على هذه المعركة هو البراءة الناصعة الساطعة، وهل ثمة برهان على البراءة أبلغ من مأدبة البط «العصماء»؟! ------------------------------ قُلْ لِلَّذِي شَعَفَ البَلاءُ فُؤادَهُ وضاح اليمن
|