ذكرى عبدالعزيز حسين: الكويت ورحلة التنوير

ذكرى عبدالعزيز حسين: الكويت ورحلة التنوير

في صمت مرت الذكرى الرابعة لرحيل الأستاذ عبدالعزيز حسين. في صمت مرت ذكرى رائد حركة التنوير الكويتية الذي ملأ دنيانا ثقافة وعلماً واستنارة. أخذ ت مشاغل الدنيا الجميع فلم تشر صحيفة إلى ذكرى رحيله، ولم يتذكره أحد تلاميذه وما أكثرهم، بمقال في مجلة أو جريدة، ويؤسفني أن أقول إن الأمر يبدو وكأن المؤسسات الثقافية والعلمية التي أسهم في إنشائها قد نسيته هي الأخرى.

انتمى الأستاذ عبدالعزيز حسين إلى جيل من المنورين العرب الكبار الذين أفرزتهم فترة تاريخية شديدة الخصوبة محلياً وعربياً ودولياً. فهو جيل الأحلام والإنجازات، جيل حمل على عاتقه كل طموحات الأمة العربية من أجل غد أفضل ومستقبل أكثر إشراقا. وهو أيضاً الجيل الذي حقق كل التغيرات والتحولات السياسية الفكرية والاجتماعية الكبرى التي مازلنا نجني ثمارها ونتغنى بها حتى اليوم.

ولد الأستاذ عبدالعزيز ملا حسين عبدالله التركيت في حي الشرق بمدينة الكويت في 26 نوفمبر 1920. وتربى في بيت يعبق برائحة الدين والثقافة، بيت دين وأدب ضم مكتبة عامرة. وكان لنشأته في هذا البيت أكبر الأثر في حياته كلها، فاستمد منها دفعة كبيرة ساعدته على المضي في مسيرته التعليمية بسهولة ويسر. وفي عام 1939، كان ضمن أول بعثة جامعية كويتية ترسل إلى مصر للدراسة. فحصل على الشهادة العالمية من كلية اللغة العربية في جامعة الأزهر عام 1943، ثم شهادة تخصص التدريس من كلية اللغة العربية من الجامعة نفسها عام 1945، فضلاً عن دبلوم المعهد العالي للمعلمين التابع لجامعة القاهرة في العام نفسه. وفي عام 1945، عاد الأستاذ عبدالعزيز حسين إلى الكويت حيث عرض عليه تولي مسئولية الطلبة الكويتيين الدارسين في مصر، فعاد إليها مجدداً في أواخر 1945 ليصبح مديراً لبيت الكويت في مصر وهو في الخامسة والعشرين من عمره.

بيت الكويت

وكانت الفترة التي قضاها في القاهرة فترة شديدة الثراء والخصوبة بالنسبة له وبالنسبة لهذه المدينة العريقة. فقد كانت حاضرة العالم العربي تمر بمرحلة مخاض تاريخي وتتهيأ لخوض سنوات التحولات الكبرى التي أعقبت الحرب العالمية الثانية. ولم يكتف فتانا هنا بدور المتفرج أو المراقب الخارجي، بل ألقى بنفسه وسط هذه التطورات الموارة يتفاعل معها ويقرأ ويدرس ويراقب ويستوعب. وبدأ وعيه الفكري والسياسي يتفتح على تيارات الفكر المعاصرة عربياً وعالمياً.

وقد كان له موقفه الخاص من الحوار الذي دار بين طه حسين وإسماعيل القباني حول قضية هل واجب المجتمع والدولة أن يجعلا التعليم كالماء والهواء متاحاً لكل مواطن أيّاً كان نوع ومستوى التعليم كما يرى طه حسن، أم أننا مازلنا في مرحلة تستدعي تخريج القادة من التربويين ( أي النخبة) الذين يستطيعون بخبرتهم وعلمهم وكفاءتهم أن يضعوا الأسس السليمة لنهضة تعليمية متنامية تصلنا آخر الأمر بالتعليم الشامل لكل مواطن، كما يرى إسماعيل القباني؟ حيث لم يجد تناقصاً بين الموقفين، فأن يصبح التعليم كالماء والهواء متاحاً لكل قطاعات المجتمع أمر لا يتناقض مع أن يكون هذا التعليم على أرفع مستوى ممكن.

رائد النهضة التعليمية

في عام 1950، عاد عبدالعزيز حسين إلى الكويت، وفي العام نفسه، وقع عليه اختيار مجلس المعارف لبعثة جديدة. وكانت وجهته هذه المرة العاصمة البريطانية لندن. وقد كان الهدف من رحلته الثانية هو دراسة التربية وعلم النفس والاطلاع على نظم التعليم في الغرب. وفي عام 1952، طلب مجلس المعارف من الأستاذ عبدالعزيز حسين العودة من لندن لكي يتولى منصب مدير المعارف، وهو في الثانية والثلاثين من عمره، ولم ينبع هذا الاختيار من فراغ، بل نتيجة لثقة المسئولين، وعلى رأسهم أمير الكويت المغفور له الشيخ عبدالله السالم الصباح، في قدراته وكفاءته من جهة، وللنجاحات التي حققها حينما كان مسئولاً عن بيت الكويت في القاهرة من ناحية أخرى.

وهكذا، جاء إلى الموقع الذي خلق من أجله، وقدر للرجل، الذي قال يوماً "إننا نعمل على أن نقطع في نهضتنا هذه خلال ربع قرن ما قطعه غيرنا في عشرة قرون"، أن يغير خلال عشر سنوات تقريبا (1952- 1961) كيان مجتمع بأكمله، وأن يحول كل أحلامه من أجل وطنه إلى واقع معيش يلمسه القاصي والداني. وكان مفتاح عبدالعزيز حسين لكل الإنجازات التي حققها هو وعيه العميق بطبيعة المجتمع الكويتي، الأمر الذي جعله يعرف جيداً من أين وكيف يبدأ، وقد تبدى هذا الوعي بجلاء في كتابه الوحيد "محاضرات عن المجتمع العربي بالكويت" (القاهرة - 1960)، حيث قدم رصداً دقيقاً لواقع المجتمع الكويتي قبل النفط وللتحولات الاجتماعية الحادة وواسعة النطاق التي ترافقت مع البدء في إنتاج النفط في عام 1946.

وبهذا الوعي العميق بالمجتمع الكويتي ، استطاع هذا الرجل أن يحول إدارة المعارف إلى خلية هدفها تحقيق نهضة شاملة على جميع المستويات. وقامت هذه النهضة، وفقاً لاستراتيجيته، على عدد من الأعمدة الرئيسية، أهمها المجانية التامة للتعليم، وتعليم البنات، والتوسع إلى أبعد مدى في إرسال البعثات إلى الخارج، وتعميم رياض الأطفال، وربط التعليم بالثقافة، والاهتمام بالمدارس والمدرسين. وقد أثمرت هذه الاستراتيجية عن نهضة تعليمية وثقافية أرست الدعائم الحقيقية للكويت الحديثة.

السياسي

في عام 1961، كلف الأستاذ عبدالعزيز حسين عرض المسألة الكويتية على مجلس الأمن بعد أن أثار عبدالكريم قاسم مشكلة العلاقة بين العراق والكويت، ثم توجه من نيويورك إلى القاهرة لكي يقدم طلب انضمام الكويت للجامعة العربية. وكانت هذه التحركات هي نقطة انطلاق للكويت المستقلة والمعترف باستقلالها دولياً. كما كان ذلك نقطة انطلاق في التغيرات الداخلية ليس أقلها وضع دستور حديث للبلاد وإقامة نظام ديمقراطي وإحداث إصلاحات اقتصادية عدة. وقد نجح في مهمته وقبلت الكويت في الجامعة العربية. وعاد الرجل إلى الكويت ليتم تكليفه القيام بمهمة أول سفير لدولة الكويت لدى الجمهورية العربية المتحدة في ديسمبر 1961. واستمر في منصبه هذا حتى الأول من يناير 1963 عندما تم استدعاؤه إلى الكويت للمشاركة في ثاني وزارة كويتية بعد الاستقلال حيث عيّن وزيراً للدولة لشؤون مجلس الوزراء بتاريخ 28 يناير 1963. وظل يشغل هذا المنصب منذ عام 963 1 وحتى عام 1965، ثم من عام 1971 حتى عام 1985.

إنجاز ثقافي

في عام 1973، قاد عبدالعزيز حسين تأسيس أول مؤسسة ثقافية في الكويت، وهي المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الذي رأسه حتى عام 1985. وقد وضع عبدالعزيز حسين في هذا الصرح خلاصة تجربته وآماله وطموحاته. وبما أن الكويت كانت دائماً هي محور توجهاته، فقد أراد هذا المجلس، الذي قدم الكثير من المشاريع العملاقة للثقافتين الكويتية والعربية، منارة متلألئة وعنواناً للكويت وسط المنطقة العربية. إذ كان يرى في الثقافة أداة رئيسية لترسيخ دور الكويت العربي انطلاقاً من أن الأمن الوطني الكويتي، وسط توازنات القوى الإقليمية، لن يتحقق إلا في قلب عالمها العربي. وبالإضافة إلى ذلك، كان يؤمن بأن الثقافة هي الركيزة الأولى لأي تعاون عربي مثمر، وبأن المحور الثقافي التنويري، وليس السياسي، هو المحور الأساسي للوصول إلى هذا التعاون والتكامل. وأعتقد أنه لا يمكن قراءة إنجازات عبدالعزيز حسين الثقافية، وربما إنجازاته كلها، إلا في ضوء هذين التوجيهين، أي تحقيق الأمن الوطني الكويتي من خلال ربط الكويت بعمقها العربي وتعزيز دور الكويت الثقافي والسياسي وسط العالم العربي، وتحقيق التقارب العربي من خلال نهضة تنويرية وثقافية شاملة تجعل العقول، وليس القلوب، تدرك الضرورات التاريخية لهذا التقارب والتعاون.

وقد اقترن اسم عبدالعزيز حسين خلال الفترة التي تولى فيها الوزارة، إضافة لرئاسته للمجلس الوطني، بالعديد من الصروح الثقافية والعلمية سواء كان ذلك على مستوى الكويت أو على المستويين العربي والدولي. فقد ارتبط اسمه بشكل أو بآخر بتأسيس جامعة الكويت، ومعهد الكويت للأبحاث العلمية، والهيئة العامة للجنوب والخليج العربي وكلية العلوم والتكنولوجيا بالقدس، والخطة الشاملة للثقافة العربية، ومشروع مكتبة الإسكندرية العالمية، ومعهد تاريخ العلوم العربية الإسلامية في جامعة فرانكفورت، ومعهد العالم العربي في باريس، وبنشاطات منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو)، واللجنة الدولية للعقد العالمي للتنمية الثقافية.

انتمى الرجل - كما أشرنا - إلى جيل من المفكرين والروّاد العرب الذين لم تنحصر أحلامهم وطموحاتهم وإنجازاتهم داخل الحدود الإقليمية الضيقة، بل كانت مشاريعهم دائماً ذات بعد قومي وذات أفق رحب يأخذ في الاعتبار قضايا وهموم الأمة العربية بأسرها. لكننا لن نكون منصفين إذا حاولنا تصنيف مفكري جيل التنوير هذا داخل الأطر الأيديولوجية الجامدة، فقد كانت رسالتهم التنويرية هي همّهم الأساسي. وبشكل عام، يمكننا القول إن الرسالة التنويرية لهؤلاء الروّاد قد طغت على رسالتهم السياسية والاجتماعية، وإن كانت الرسالة التنويرية ذات نتائج اجتماعية وسياسية أكثر عمقاً وأبعد مدى. ففي مصر على سبيل المثال، أثرت دعوة طه حسين إلى أن يكون التعليم كالماء والهواء وجهوده من أجل جعل التعليم إلزامياً تأثيراً عميقاً في البنية الاقتصادية الاجتماعية للمجتمع المصري وفي حياة المصريين بشكل عام. ورغم أن طه حسين لم ينتم يوماً لحزب الوفد، الذي كان آنذاك هو الحزب الأكثر شعبية والأكثر تقدماً سياسياً واجتماعياً، فإن تأثيرات جهوده تلك ربما كانت أكثر إيجابية وأوسع نطاقاً من جهود حزب الوفد الذي كان يحمل في ذلك الوقت راية التحرر الوطني والاجتماعي.

ومَن يستعرض مسيرة الأستاذ عبد العزيز حسين، فسيجد أن الرجل لم يحصر نفسه أبداً داخل الأطر الأيديولوجية أو الحزبية رغم سيادة الخطاب الأيديولوجي في سنوات الخمسينيات والستينيات.

وهنا، تنبغي الإشارة إلى نقطة بالغة الأهمية في فهمنا لشخصيته، فمما لا شك فيه أن الرجل ينتمي إلى سلسلة من روّاد التنوير الكبار الذين أنجبتهم هذه الأمة، وربما يكون آخر العمالقة من أبناء هذا الجيل من الرواد. وبالإضافة إلى ذلك، كان يمتلك حسّاً استراتيجياً فائقاً مكنه من تطبيق الكثير من أفكاره رغم تباين المسئوليات التي اضطلع بها خلال رحلة حياته الوظيفية. وهو عبقرية إبداعية حقيقية رغم أن البعض قد يستغرب تعبير إبداعية هنا لأن إنتاجه المكتوب محدود جداً. والواقع أن هذه العبقرية حققت إبداعها الخاص بطريقة تنطوي على الكثير من إنكار الذات والتضحية بالمجد الشخصي من أجل أبناء وطنه. وكان هذا في حسن حظ الكويت بالطبع. فالمجتمع الكويتي في ذلك الوقت لم يكن يحتاج إلى ترف الأعمال الفكرية المكتوبة التي تتحدث عن أهمية التعليم وإشاعة التنوير وإطلاق طاقات أبنائه بقدر ما كان يحتاج إلى إنجازات حقيقية على أرض الواقع. فمن السهل على المرء أن يتحدث عن ضرورة تحقيق نهضة تعليمية في البلاد، لكن الصعوبة الحقيقية تكمن في تحقيق هذه النهضة والحفاظ على استمراريتها. وهكذا، ضحى المفكر بمجده الشخصي الذي كان سيحصل عليه لو تفرّغ للكتابة أو للعمل الحزبي من أجل مجد وطنه ومن أجل الرسالة التي آمن بها وكرّس لها كل حياته. وربما لن يحتل عبد العزيز حسين المكانة التي تليق به على خارطة الإبداع الثقافي والفكري المكتوب، لكنه يحتل بالتأكيد مكانة شديدة الخصوصية في قلب هذا الشعب وفي قلب أمته العربية بوصفه الرجل الذي حمل مشعل التنوير وتقدم الصفوف ليضيء الدرب لأبناء وطنه في لحظات عز فيها الضياء.

 

أحمد خضر

 
  




عبدالعزيز حسين رائد رحلة التنوير في الكويت





جلوسا: الراحل فهد الدويري والراحل عبدالعزيز حسين ود. سعاد الصباح، الراحل حمد الرجيب، سليمان شاهين ووقوفا: د. سليمان العسكري، هاني عبدالعزيز حسين