قصص على الهواء

قصص على الهواء
        

قصص لأصوات شابة تنشر بالتعاون مع إذاعة بي. بي. سي العربية
لماذا اخترت هذه القصص?

-------------------------------------------

          من بين ما يقرب من خمس وعشرين قصة قصيرة لعشرين كاتبا عربيا ينتمون إلى ثقافات وجغرافيات مختلفة، توقفتُ عند بعض القصص التي تمثّلت قدرا لافتا من (معايير) الجودة الفنية التي تكشف عن وعي كتّابها أو كاتباتها بتقنيات وجماليات فن القصة القصيرة الذي هو فن التكثيف السردي بامتياز. ومن أجل انتقاء هذه القصص الأربع، كان ثمة عدد من المحدّدات التقنية والجمالية والأسلوبية التي أمكننا من خلالها أن نفرز القصص اللافتة للنظر فنيا عن تلك التي سقطت في سذاجة البدايات أو الكتابة العفوية التي لا تعي حدود النوع الأدبي ورهافته. من بين هذه المحدّدات، يمكن الإشارة إلى بعض النقاط، مثل: القدرة على التقاط زاوية رؤية قصصية جيدة. القدرة على صياغة الحدث القصصي بحيث تحدث المفاجأة (أو الدهشة) لدى القارئ.

          الوعي بعدم انخراط اللغة السردية في شعرية غير مبرّرة فنيا يمكن أن تتحول بها إلى نص شعري أو خاطرة ذاتية. الوعي بخطورة نقطتي البداية والنهاية تحديدا في أية قصة قصيرة. تطويع اللغة والأسلوب لخدمة المشهد القصصي ورسم الشخصية وملامح المكان. الوعي بخطورة التلاعب بحركة الضمائر السردية المختلفة..إلخ. الدقّة في استخدام العنوان بحيث يكون مكوّنا جماليا من مكونات النص القصصي.  ولا يعني ذلك بالضرورة أن القصص المنتقاة، هنا، قد انطوت على جميع هذه الاشتراطات (النظرية)، بل أقصد إلى وعي كتّابها وكاتباتها بهذا الأمر الذي أدّى بهم إلى كتابة قصص قصيرة تنطوي على قدر جيد من القيمة الفنية والرؤية المتماسكة. تتكون المجموعة المنتقاة من أربع قصص هي على الترتيب: «الكيبلاد»، و«أبو عبدو»، و«ألغام»، و«نفي نسر هرم».

  • القصة الأولى «الكيبلاد»، للكاتب مولاي عمر علوي (المغرب):

          قصة صبي تطلب منه المعلّمة صنع شيء جديد باسم جديد، فإذا به يضع نيشان أبيه (العسكري) الذي انتحر أخيرًا دون سبب واضح على فرشاة رسم كانت تستخدمها أمه، ويسمّي هذه الدمية الصغيرة «كيبلاد». تنهض القصة على توظيف وجهة نظر صبي يرى العالم المعقّد من حوله ببراءة الأطفال: أب يبدو متقاعدا من المؤسسة العسكرية، وأم كانت تمارس فن الرسم لفترات ثم توقفت، بعد أن توتّرت علاقتها بزوجها أبلغ التوتر. وبإحساس متصاعد يعكس حنين الصبي إلى الغائب، يتمنّى الابن عودة الأب حتى وإن عاد إلى ممارساته الغريبة حين كان يخبط رأسه في كل ركن من أركان الغرفة ويبكي ثم تبكي وراءه الأم. تتحرك القصة بين الضمائر السردية بمهارة بحيث تخدم خط الحبكة الرئيسي الذي يتصاعد دراميا بتعاطف القارئ مع الصبي الذي يقرر صنع كيبلاد آخر؛ لأنه قرّر أن يعطي واحدا لمعلّمته ويحتفظ بالآخر أملا في عودة الغائب.

  • القصة الثانية «أبو عبدو»، للكاتب مازن عبد الوهاب لبابيدي (سورية):

          قصة رجل هاجر من بلدته إلى بلدة أخرى بحثا عن عمل، فاشتغل حمّالا بأحد الأسواق. وذات يوم سمع صوتا يناديه باسمه القديم الذي هجره كبلدته الأولى «أبو عبدو»، فتراوده كل مشاعر الخجل الاجتماعي من وضعيته الجديدة المتدنية، وتنتابه كل حالات التردّد ما بين الإقدام والإحجام، الردّ أو التجاهل. لكنه حين يقرر الردّ والالتفات صوب المنادي، تتكشف القصة عن مفارقة سردية تخبئها النهاية؛ إذ لم يكن هو المقصود بالنداء، بل «أبو عبدو» آخر، حتى إن يده الممدودة بالسلام على الرجل الثري صاحب الصوت والعطر الفوّاح تتصلّب في موضعها، فلا يستطيع ضمّها إلى جانبه، فيظنه الأنيق صاحب الصوت متسوّلا فيضع في يده درهما ويمضي كمن صفعه على وجهه.

  • القصة الثالثة «ألغام»، للكاتب (ة) رزكار نوري شاويس (كردستان-العراق):

          قصة أرض تملؤها ألغام ومتفجرات تركها أصحابها من مخلفات الحروب الغاشمة. قصة شخص يحترف انتشال الألغام من باطن الأرض بمهارة وخفّة جرّاح ينتشل الرصاص من أجساد الآدميين، ثم يزرع مكان كل لغم شجيرة زيتون، حتى إنه استطاع زراعة بستان كبير من شجيرات الزيتون الممتد على مرمى البصر. إنها قصة رمزية، بالرغم من كثافتها الواضحة، لكنها ترسم ملامح علاقة بشرية بين الإنسان والأرض، كما تنطوي على الكثير من الدلالات والإشارات الثرية.

  • القصة الرابعة «نفْي نِسْر هرم»، للكاتب أسامة قرمان (مصر):

          قصة مدرّس متقاعد يقرّر مغادرة البيت الذي بناه بشقاء السنين، مصطحبا أغراضه كلها في حقيبة واحدة، بعد أن حاصره أولاده العاقّون، إلى درجة أن ابنه الأصغر قد «حدّد إقامته» في حجرة وحيدة من الشقة، فيقرر الأب الخروج إلى العالم بحثا عن متنفس. تنهض القصة على تداعيات عالم الأب الذي كان مدرّسا نافذ الصوت والرأي ومربّيا للأجيال، لكنها تداعيات تخلق في وعي الأب جسرا بين زمانين ومكانين، بين «هنا-الآن» حيث وضعية النفي والطرد و«هناك-حينذاك» حيث وضعية السلطة والقيم الزائلة.

----------------------------
الكيبلاد
مولاي عمر علوي - المغرب

          طلبت منا المعلمة شيئًا غريبًا اليوم: اصنعوا أشياء جديدة مختلفة لا تشبه أي شيء موجود، وبعد أن تنجحوا صغاري في ذلك وتشعروا بالرضا التام على ما صنعتموه امنحوا ذلك الشيء اسما، وليكن هذا الاسم أيضا جديدًا ومختلفًا.

          أنا الطفل الذي يطل من الشرفة مفكرا في أشياء الله المكدسة بالشارع، وأنا الطفل الذي يستلقي على سريره ويخترق بعينيه الداخليتين الضلوع الخشبية للسقف، وأوشك أن أنكر الطفل الذي لم يفلح في النوم: ماعساك تكون أيها الشيء الجديد المختلف؟

          التمعت الفكرة في رأسي قبل أن أبكي كنت فعلا على وشك البكاء، لا أشبه في هذا أمي لأنها دائما كانت تقف هناك ولا تزل قدماها على حافة البكاء.ربما أشبه أبي الذي انتحر من أعلى الجسر ولم يأخذنا معه أنا وأمي بل أخذ رأسه فقط.

          قام الطفل وطفق يبحث عن أمه في أركان البيت ووجدها هناك في الحديقة تغير الماء في إناء الدجاج:

          أمي، هل تعرفين الكيبلاد؟

          التفتت الأم ناحيته مرددة الكيبلاد، وما هو هذا الكيبلاد؟!

          آها، إذن لا تعرفينه، حسنا أنا فكرت في أن أضع الاسم أولا ثم أصنع الشيء الذي يناسبه.

          هزت الأم حاجبيها، كأنها أرادت أن تحتج لكنها استسلمت وابتسمت قائلة :

          حسنا، اصنع ذلك الشيء إذن ولا تشغلني.

          كانت النوبات تكاد تمزق رأس أبي، كان يمسك برأسه بين يديه أو يدفنه في الملاءة أو يضرب به حافة السرير، عندها كنت أعرف أن أمي في زاوية ما من البيت، عادة تكون مظلمة، تمسك برأسها أيضا، لم تكن تذرف دموعا ولا كان يند عنها صوت، كانت تنظر فقط بعيون غريبة كأنها دموع من نوع آخر.

          وحين أقف أمامها لم تكن تنظر إلي في عيوني كانت عيونها شاخصة تخترق جسدي والجدار وكل شيء لا أعرف أين تنظر بالتحديد ولا تعود لها عيونها إلا حين يهدأ أبي.

          أمي لا تعرف ما تفعله تحديدًا، تربي الدجاج أم تربيني أم تغسل ملابس لا يريد الجيران وضعها في الغسالة الكهربائية لأنها ليست مثل يدي أمي الحنونتين، صارت يداها أخيرًا خشنتين صلبتين، لكنهما جميلتان وهما تتلمسان وجهي كلما شعرت بحزن. كانتا جميلتين. أكثر يوم كانت تجلس هناك في زاوية الحديقة وترسم ما يعن لها، أين اختفت تلك الرسامة في أمي؟ وأين اختفى في أبي ذلك العسكري الجميل الذي أدخل دائما غرفته، بالرغم من وعيد أمي وأتفحص بذلته العسكرية الأنيقة التي كان يبهرني نيشانها الجميل؟

          اسأذنت أمي في أن آخذ فرشاة جميلة لها، نظفتها ثم فردت شعيراتها التي ألصقها اللون، فردتها وصارت جميلة كشعر أمي، تصبح أمي جميلة أكثر حين تفرد شعرها أعرف ذلك لأن أبي كان يبتسم.

          أخذت نيشان أبي وألبسته لتلك الفرشاة الجميلة ولبثت أنظر للكيبلاد قلت لنفسي إن أبي ماكان سينتحر لو كان الكيبلاد حينها موجودا كنت سأدور به على رأسه فيشفى تمامًا ، كنت سأضعه بين يدي أمي الجميلتين فلا تتصلبان ولا تجفان.

          مارأيك في الكيبلاد؟ سأل الطفل أمه.

          هل هذا هو الكيبلاد يا صغيري؟

          نعم هذا هو الكيبلاد، لو يعود أبي ليراه قبل أن أقدمه غدا للمعلمة، أحتاج إلى كيبلاد آخر لذلك.

----------------------------
«أبو عبدو»
مازن عبدالوهاب لبابيدي - سورية

          وَقَفَ لِلَحظَةٍ مَدْهوشاً وهُوَ يَنْظُرُ إلى ذَلكَ الرَّجُلِ الأَنِيقِ ، المَيْسور عَلى مايبدو، يُلَوِّحُ لَهُ رافعاً رأسه ليراه ويُنادِيهِ مِنْ بَعِيدٍ فِي سُوقِ الخَضْراواتِ : أَبا عَبْدُو.... يَا أبا عَبْدُو ، نِداءاتٍ مُتتَاليةٍ بِصَوتٍ مُرتَفِعٍ يَجْهَدُ للتَّغَلُّبَ عَلى ضَجيجِ السُّوقِ .... ، وسَرْعانَ ما استَبْدَلَ أبو عبدو الدَّهشَةَ بالبَهْجَةِ والانشِراحِ وأَسرَعَ إلى صاحِبِ الصَّوتِ مَعَ أَنَّه لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ مَعْرِفَتِهِ عَنْ بُعْد . كانت هَذِهِ المَرَّةَ الأولَى مُنذُ سَنَواتٍ إِذْ يَسْمَعُ أَحَداً يُنادِيهِ بِكُنْيَتهِ الَّتي عُرِفَ بِها فِي بَلْدَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُهاجِرَ .. أَحَسَّ كَأَنَّ السُّوقَ هَدأَ مِنْ حَوْلِهِ إِلاَّ مِنَ النِّداءِ المُحَبَّبْ الَّذِي عَزَفَ عَلَى أَوْتارِ قَلْبِهِ فَدَّبَّ فِيهِ نَشَاطٌ عَجِيبٌ فَمَا عَادَ يَشْعُرُ بالحَرِّ الَّلاهِبِ والتَّعَبِ المُنْهِكِ ... ، لا بُدَّ أَنَّ ذَلكَ الرَّجُلَ الأَنِيقَ هُو أَحَدُ سُكَّانِ بَلْدَتِهِ وَرُبَّما كان قَريباً لَهُ وَقَدْ عَرَفَهُ ولِذلكَ يُنادِيه .. !.. عِنْدَمَا مَرَّتْ بِخَاطِرِهِ هَذِهِ الفِكْرَةُ اضْطَرَبَ وخَفَقَ قَلْبُهُ بسُرعَةٍ ، كَيفَ عَرفَهُ الرَّجُلُ وَهُوَ بِهذِهِ الهَيئةِ ؟ لَقَدْ تَغَيَّرَ فِي السَّنَواتِ المَاضِيَةِ ، سَمِنَ قَليلاً وَصَبَغَتْ الشَّمسُ وَجْهَهُ وأَحْرَقَتْ ذِراعَيْهِ وَلَطَّخَ الشَّيْبُ شَعْرَهُ الأَشْعَثْ . خَجِلَ مِنْ مَظْهَرِهِ وَهُوَ يُلْقِي نَظْرَةً سَريعَةً عَلى مَلابِسِهِ الرثَّةِ الَّتي رَسَمَ فِيها العَرَقُ خَرَائِطَ مِلْحٍ ، وآثارِ الخَضْراواتِ والتُّرابِ التي عَلِقَتْ بِها ، وشِبْهِ الْحِذاءِ الذِي يَنْتَعِلُهُ وَيَجُرُّه عَلى الأَرْضِ لا شَكَّ أَنَّ رَائِحَتَهُ كَذَلِكَ تَفُوحُ بِمَزِيجٍ مِنَ الأَرْضِ وَثِمَارِهَا المَعْجُونَةِ بِمَا اعْتَصَرَهُ الْقَيْظُ مِنْ بَدَنِهِ ، ثُمَّ تَذَكَّرَ السَّلَّةَ المُتَدَلِّيَةَ مِنْ مَنْكِبِهِ والخِرْقَةَ المَعَقُودَةَ عَلى جَبْهَتِهِ ... وازْدادَ تَرَدُّدُهُ ... لِكِنَّ الرَّجُلَ لَمْ يُمْهِلْهُ وتَسَارَعَتْ خُطَاهُ نَحْوَهُ وَهُوَ يُتابِعُ النِّداءَ ... أَبَا عَبدُو .. يا أبا عبدو ...

          أَمَّا أبو عبدو فَقَدْ اتَّخَذَ قَراراً جَرِيئاً مُغَلِّباً عِزَّةَ نَفْسِهِ عَلَى خَجَلِهْ ، فَالعَمَلُ شَرَفٌ والفَقْرُ لا يَعِيبُ صَاحِبَهُ وخَيْرٌ لَهُ أَنْ يُرَى حَمَّالاً فِي سُوقِ الخَضْراواتِ مِنْ أَنْ يُشَاهَدَ مُتَسَوِّلاً يَسْتَجْدي النَّاسَ عِنْدَ أَبْوابِ الْجَوامِعِ وَلْيَقُلْ أَهْلُ بَلْدَتِهِ مَا شاؤوا إِنْ وَصَلَهُمْ نَبَأُهُ اتَّجَهَ أبو عبدو نَحْوَ الرَّجُلِ الأَنيقِ راسِماً عَلى وَجْهِهِ ابْتِسامَةَ تَرْحِيبٍ وَهُو يُحَدِّثُ نَفْسَهُ .. "لَيْسَ مِنَ الذَّوْقِ أَنْ أُعَانِقَهُ فَأُضَايِقَهُ بِرَائِحَتي وعَرَقِي وأُلَوِّثَ مَلابِسَهُ .. سَأَكْتَفي بالمُصافَحَةِ ...لا ..! حَتَّى هذه لا حاجَةَ إِلَيْها ، يدايَ خَشِنَتان وليْسَتا نَظِيفَتَيْنِ ... سَيَشْعُرُ بِالتَقَزُّزِ ... وَلَكِنْ إِنْ لَمْ أَصافِحْهُ سَيَعْتَبِرُ ذَلِك سُوءَ أَدَبٍ مِنِّي وَيَعِيبُهُ عَلَيَّ !"  ... عِنْدَ ذَلكَ كانَ الرَّجُلُ قَدْ وَصَلَ إِلى المَكانِ الذِي بَلَغَهُ أبو عبدو الَّذِي كانَ يَبْتَسِمُ لَهُ بِكُلِّ بَشَاشَةٍ وَعَيناهُ تَلْمَعانِ وَأَلْقَى السَّلَّةَ إلَى الخَلْفِ  وَمَدَّ يَدَهُ إِلَيْه عَلَى اسْتِحْياءٍ وَبادَرَهُ مُسَلِّماً .. أَهْلاً وَسَهْـــ ... ـلاً .... لَكِنَّ الرَّجُلَ الأَنيقَ ... الذِّي فاحَتْ مِنْهُ رَائِحَةُ عِطْرِهِ الثَّمِينِ ... تَجاوَزَهُ إِلَى رَجُلٍ آَخَرَ كانَ خَلْفَ أَبي عبدو الحَمَّالْ الَّذي تَسَمَّرَ بُرْهَةً وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمَا يَتَعانَقانِ ... نَاسِياً يَدَهُ المَمْدُودَةَ ............. لِيَضَعَ فِيها ذَاكَ الأَنيقُ ......... دِرْهَماً.

----------------------------
«ألغام»
رزكار نوري شاويس - كردستان - العراق

          على السهل الاخضر الغافي بين احضان الجبال كان يغازل الحياة ,  باستفزاز و تحدي الموت ..! موت تسلل في ظلمات زمن حرب غاشمة بلهاء الى هذه البقعة الطيبة من الارض .. موت مؤجل استقر و كمن في احشائها , يترصد بحقد و لؤم خطوات كل ماش عليها ..

          كان على يقين من ان لاخطر يضاهي خطر انتشال الغام مزروعة بعشوائية خبيثة  .. لا خرائط و لا دلالات ولا عدد تناسب هكذا مهمام , جل ما كان يعتمد عليه عليه في مبارزته المخيفة هو حدسه الفطري و خبرة بائسة اكتسبها بعناده المغامر المحكوم بالحظ .. كان يرقص على قمة طيش ضيقة  تطل على هوة الموت الفجائي السحيقة , لكنه كان يؤمن ايضا بأن مجرد الرغبة و الاصرار على تواصل الحياة  بأي شكل كان ؛ تعويذة تقهر الموت و الفناء.

          مع كل لغم ينتزعه من جسد حبيبته الارض , تتراءى له ابتسامات الفرح تتسع على ثغور احبائه , اهله و اصدقائه , سكان قريته و كل الناس الطيبين .. ابتسامات تباركه  , منها و من رغبة الجميع الجميع العارمة على النهوض من تحت ركام الخراب و الدمار لأعادة البناء ؛ كان يستمد عزيمته على قهر الرعب العظيم في عمقه الانساني الضعيف , و بمهارة و حذر الحاوي الذي يلاعب بانامله صلَ سام .. بكل الخوف الذي كان يعصر اعصابه عرقا جليديا ينضح بغزارة من كل مسام جسده المرتعش , كان ينبش باصابعه الغليظة المتشققة و يحفر بأظافره المتكسرة حول اللغم , يعريه في مخبئه , يفضح شره و يكشف سره ثم يقلعه من مكمنه.

          تمكن من لغم آخر , جرده من انيابه و مخالبه .. من قدرته المخبولة على الغدر و القتل الجبان , استاصله كورم خبيث من جسد طاهر و مبارك .. ازاح اللغم الذي تحول لخردة صدئة بليدة  جانبا , و عاود الحفر في الحفرة بحماس و فرح , عمقَها اكثر و في رحمها غرس بحنان اشد العشاق عشقا شجيرة زيتون .. اعتدل على ركبتيه و مسح بكمه المترب جبينه , واستند على يديه لينهض واقفا , استقام و نفض التراب العالق بثيابه ثم التفت و استدار  لينظر بعيون ملؤها زهو الفدائي المنتصر ؛  بستان الزيتون الممتد  جتى حواف السهل ..

          ابتسم لشجيرات الزيتون التى كانت اوراقها تتقلب و تومض بمرح مع هبات النسيم العبقة بأريج ربيع مبكر .. كانت تنبض بالحياة ..

----------------------------
«نفْي نِسْر هرم»
أسامة قرمان - مصر

          كم مضى عليك من الوقت وأ نت رهين الحقيبة .. ومتى بد أت تقو سا ت جسمك تؤ لمك .. وكيف واتت قاهرك القوة ليحشرك في هذ ا الحيز الضيق .؟؟

          صد ى صو ت ابنك الأ صغر يأ تيك وأ نت واقف بجوار رصيف الطريق الذي طا لما شهد خطوك الواثق .. أصحابك القدامى يهشون لك .. يقابلونك بالأ حضا ن .. يد ا عبون طفلك الذي يتعلق بكفك .. بعض جيرا نك يصنعون حركة تشبه التحية العسكرية .. آ خرون ينهشو ن لحم ظهرك ..لكنك في كل الأ حوا ل تترك أ ثرا في المكان والوجد ان.

          (ها أنت تقف وحيد ا .. كأ نك تضا ء لت الى الد رجة التي لا يلحظك فيها أ حد .. لا شيء يصل الى بو ق أ ذ نيك أ على من صوت ابنك الأ صغر يصيح بك بعدأن جمع ملا بسك في الحقيبة .. يأ مر ك أ ن تحل عن سما ئه .. هكذ ا نها يتك يا مربي الأ جيا ل .. آ ه .. أ ين هم الآ ن ؟؟ .....)

          ريح صرصرعا تية تحمل الحقيبة .. تطير بك .. قلبك يخفق .. ينتابك غثيا ن د وار حينما تهبط في فضاء فسيح .. تلا مسك خيوط الصبا ح .. يصطف الطابور .. أ ولا د وبنات .. بالزي المد ر سي .. وأ نت أمام مكبر الصو ت .. تلقي كلمتك في بر نا مج الا ذ اعة المد ر سية .. يهتفو ن : تحيا جمهورية مصر العربية .. تشاركهم بقوة تثير دهشة زملا ئك .. ترافقهم الى الفصل .. تؤدي طقوس كل يوم .. تشعربسعا دة عند ما تحيط بك براعم لطيفة إ ثر د قا ت جرس نهاية الدرس .. تبد أ تجوالك في شوارع المد ينة لإ نجاز برنامج الد روس الخصوصية .. تعود الى بيتك متأ خرا لتجد طفلك نا ئما .. لا تحظى منه الا بقبلة على خده الناعم .. لكنك ترضي بحظك ..)

          تنظر الى ساعة معصمك لتكتشف أ نك في آ ونة منتصف الليل .. لا صو ت .. لا حركة ..وحد ك فوق الرصيف .. وخزا ت البرد تنخر في عظا مك .. تتذكر الكلمة الأ خيرة .. حل عن سمائي.

          (سا محه الله من أ طلقه مثلا .. إ ن كبرإ بنك خاوي .. فعلت والله .. وهذ ه هي النتيجة .. جعلته يتزوج في شقتك بعد أن أ عطيت كل إ بن شقة في بيت بنيته بشقاء السنين .. ثلا ثة أبنا ء يسكنون معك في نفس المنزل لا تراهم .. وهاهو رابعهم قد نجح هو وزوجته في تحد يد إ قا متك في حجرتك معظم الوقت .. قطعة من الأ ثا ث مركونة حتى يتم التخلص منها .. واليوم كان التنفيذ .. الآن خسر ت كل شيء .. إذهب..إذ هب .. الأ مر واضح .. لكن ما يحيرك أ نك لا تميز هذا الصوت الذي يطارد ك .." إ ذهب .. إ ذهب".. من المتحد ث ؟ ..سؤالك المفضل لتلا ميذ ك في كل حصة شعر ..أ نت تلميذ بليد لا تعرف الا جابة .. أ نت حا ئر في تحد يد من يخا طبك .. بل وجود ك على قيد الحياة موضع ا لشك .. فمن يجزم أن التنفس د ليل الحياة؟
----------------------------
* ناقد وأكاديمي مصري، جامعة نزوى، سلطنة عمان.

 

 

د. محمد الشحات*