معابد الأحلام

معابد الأحلام

فزع الأجداد في مقابرهم عندما علموا بما آل إليه حالنا، فقد جاءهم في معابدهم وأهرامهم ما يثير القلق، وعندما عرفوا بمدى عبء الأحمال على عقولنا، والأخرى التي تثقل كواهلنا مزقوا أكفانهم، انتفضوا وجاءوا، وجدونا قصارا عما كانوا يتخيلون، والنسب الإنسانية للوجوه تغيرت فاستطالت، وبرزت عظام الأوجه، ضاقت العيون، والأنوف المدببة اتسعت فتحاتها، كبرت الآذان التي امتلأت بالشعر، أضحت عظام الوجنات بارزة.

درسوا بتأن كل ما يمت بصلة لحالتنا، وكان مما يثير حفيظتهم حقيقة هو تجاوز النسبة المئوية المقررة لباقي الشعوب، يتحدثون لأنفسهم بصوت عال، شاهدوا وسجلوا القطيعة بين الناس، وبين أفراد العائلة الواحدة، المعاناة الدائمة في كل مكان، الألم والإحباط، فقدان الآمل، مدارج اليأس المتفاوتة، الهياكل العظمية المتحركة، الانسحاب إلى الداخل والانزواء إلى الخرابات المظلمة، ولم يكن هناك مجال لتساؤلات الحزن والضحكات المنسية.

لاحظوا آثار الدماء والحرائق التي أشعلها إخواننا، حيث لم يتركوا إلا دمارا في كل مكان مروا به، هيأوا بذلك الظروف لازدهار الخرافات، السحر والشعوذة والشياطين والجان، ولم يكن من المستساغ أن يتجه شعب بكامله إلى هذه المتاهات باعتبارها الوسيلة الوحيدة للشفاء إلا إذا كان هناك خلل ما.

وفيما كانوا يتابعون حالتنا من معابدهم التي بنوها حديثا في أماكن متفرقة من الوطن، ومن أهرامهم القديمة، والتي ازدادت بشكل لافت في المدن والقرى واصلوا تسجيل ملاحظاتهم على هذه الحالة التي عبرت بالتكثيف عن شعب بكامله، تشبه التي شاهدوها في كل مكان يذهبون إليه، أرقتهم الحالة التي وصل إليها، ساءهم أن يروا حفيدهم هكذا مجموعة من الحفائر، يجلس في غرفة معتمة، أو في أحد الأماكن المفتوحة، لا يستدعي الأجداد، حدث له ما يشبه الحلم، لا يشعر بالرعب أو الألم، وأعيا لكل ما يحدث حوله، يسمع أصواتا عدة، متداخلة، ليست عالية أو مزعجة، همهمات، همسات صادرة عن الأشجار والعتمة، الأرض والناس، صوته، أصوات أخرى تثير ذكريات عن أسماء وأزمان وأمكنة، واعيا بها طوال حياته، دون أن يعرف ذلك، قادرا على رؤيتها كجملة مطبوعة، كتبت الآن، محيت فيما سبق، كأنها الأخرى الباهتة في ذكريات الأعوام الماضية.

يتمدد فوق بطانية، يطير في الهواء، يلقي إطلالة عميقة على رحاب الأرض والسماء والشمس الأبدية، يرى الأجداد الذين طاولوا ذرى الشمس والخلود، أرض مغطاة بألواح الخشب غير الثابتة لمكانه الكبير المتداعي، حريف الرائحة، ذي الغبار الرقيق الخاص بالقشر الراحل، ذي الرائحة النشادرية الضعيفة مع ذلك الهجران اللاهث المميز لزرائب خراف المعابد، محاطة برائحة وأصوات الصيف الخاصة بعمال التراحيل، غير المرئيين، كأنهم يحيطون به كأصوات دون أجساد، مهمهمة، متحدثة، ضاحكة بلغة ليست لغته، كأنما من قاع حفرة سوداء معتمة رأى نفسه محاطا بأشكال كوخية، غامضة، مضاءة بالكيروسين، بدت مصابيح الأماكن تتباعد، فيما كانت الحياة السوداء تضغط، والتنفس الأسود ضاعف البخار، حيث بدأ أنه ليس الأصوات فحسب، بل الأجساد المتحركة والنور نفسه قد أصبحا سائلين، وراحا يلتحمان ببطء في الليل الذي أضحى ثقيلا.

يسمعونه من خلال أزيز أفكاره يدعو: أرسل إلينا أحلاما سعيدة يا رب، دعني أرى بلدي جميلة، منتصرة دائما نصرا حقيقيا، وفي طليعة الأسود الإفريقية، تستوعب تكنولوجيا المعلومات والحاسب الآلي، لديها القدرة على فك شفرات المفاعلات النووية غير السلمية، والصواريخ البالستية العابرة للقارات، قادرة على انتهاك الأسرار.

وضعوه في جو قبور حلمي لا يقهر، حتى تصعد أمنياته بسلام محاطة ومزدانة بالأمن والسرية، حتى ينفذ لبلاده ما يريد، مهموما بها وبمشاكلها، وبعدم مواكبتها للأحداث الجارية، وللثورات العلمية المتوالية، مفكرا أنه حينما كان شابا، كان يحب العتمة، والسير والجلوس وحيدا بين الأشجار في الليل، ثم أصبحت الأرض ولحاء الأشجار أمرا حقيقيا، متوحشا، موحيا، ممتلئا بالأحوال الغريبة المهلكة.

ينتظر الأحلام، لا يعرف متى تأتي وبأي أحداث، من يرسلها، هل هي الملائكة أم الشياطين؟ كيف يحلم أحلامه الخاصة، لم تتمكن من اتخاذ قرارها بالانضمام إلى هذا الجانب أو ذاك، يريد أن يحيدها، ويبعدها عنهما، حتى لا تتأثر بالدوافع والأغراض، لماذا لا تجيء إلا في جحيم النوم، فيه تتحرر المشاعر والأحاسيس، والخبرات من قيود جانب المخ الأيسر، أنت تسبح في الفضاء، تعيش مع الحيوانات، تصارع الأمواج، تتكلم مع أناس لا تعرفهم، تزور أماكن مجهولة، هيئ لك فيما سبق أنك زرتها، أجسامنا تطير في الهواء، تحول القط الصغير إلى تمساح مفترس، تتذكر حالة الغيبوبة للترقب الحالم والمجنون، للموسيقى الصارمة والعنيدة، المتعقدة، لا عاطفة فيها، شأنها شأن التضحية والتوسل والسؤال، في نظرتك شيء يوحي بالتعصب على نحو بارد وعنيف، يخالطه بعض الجنون، يمنع التساؤل والفضول، تأتيه طوفانات من الصور والأصوات والمشاعر اللامنطقية، تتحدى كل المفاهيم الواقعية الكامنة، كعالم مغلف بالغموض والجمال والقسوة في الوقت نفسه، تأتيه الأحلام داعية إلى تأنيب النفس والضمير، والنوم العميق الذي فيه يتدنى مستوى النشاط العقلي، داعية إلى تحريك أفكاره وتحويلها في حرية لتجد بعض الحلول للمشاكل، وقد جاء الفجر في موعده تماما، ضوء النهار، ذلك المزيج المقلق الوحيد الممتلئ باستيقاظ الطيور الهادئ للتردد والهواء، فيه يأتي الحلم كعلاج كبير، يخلصه من الأفكار والخبرات المؤلمة والمحزنة، ينطلق صافيا ليكون ويرتب أحلامه، التي فيها الخلاص لبلده، وتحقيق أمنياته.

أعد الأجداد بطريقة عصرية معملا للنوم، وضعوه تحت ملاحظة ومراقبة أجهزة رسم المخ والقلب، والكاميرات، يعرفون أن النائم لا يستطيع أن يدلي بمعلومات مفيدة عن حالته أو مشاعره.

انتابه النعاس ، رأوا هدوء حركة العينين، ثم قلة حركتها، ضاقت الحدقات، قل الانتباه، انسحب الوعي لتحل محله الخيالات، مرت خمس دقائق، بدأ النوم خفيفا ، وعندما لاحظوا بعد نصف ساعة انخفاض درجة حرارة الجسم، تأكدوا أنه يغط في النوم، شاهدوا انخفاض ضغط الدم، قلة عدد ضربات القلب وحركة التنفس ، كما يبين رسم المخ تغييرا في الموجات الكهربائية من الحركة السريعة إلى الهدوء والبطء.

جاء حلمه بعد أن أخذ قسطا وافرا من الراحة والاستجمام للتخلص من أغلال المنطق الصارم لقوانين الواقع والعادات، والتقاليد والرغبات المكبوتة، وكان قد وصل إلى المرحلة التي عليه أن يتحمل الإهانات فيها، فبدت له رائحة التجفف الخاصة بالترهل المفرط والثياب القذرة، كأنها نذير بالقبر، مع انحدار عديم الحيوية مليء بالأشجار الميتة، والشهوات الجافة بالسباحة على نحو ناعم سريع وهادئ.

يقضي النهار كله في البلدة، في الساحة، قذرا، غير ثرثار، بذلك التعبير الغاضب، الصاد في العينين الذي ظنه الناس بوادر للجنون، تلك الخاصية المتميزة بعنف مستهلك أشبه بالرائحة الكريهة، بالنكهة، ذلك التعصب الأشبه بجمرة خابية أو مطفأة، بنوع من الحماسة الدينية القوية المختلطة بقناعة عنيفة، وجرأة جسدية، وبدت عظامه الهشة العتيقة، وعضلاته الخيطية تحمل الجنون المرعب، عيناه مفتوحتان، فارغتان تماما.

كللت هاماتنا تلك الآونة تيجان من القش، شاهدوا ملابسنا الممزقة، أجسادنا العارية، أقفيتنا التي طالت، شعر رءوسنا الذي تلبد، وتوسخ واستطال وتدور، والأتربة العالقة به، الوساخة التي ترسبت على أجسادنا، الهباب العالق برقابنا، لعابنا يسيل، والهذيان مستمر، ينبئ عن استسلام وتراخ، عيوننا زائغة ومحدقة، ورائحتا لا تطاق، حركتنا المتناقضة المخيفة في حالات كثيرة، ولم يكن من اللائق والحال هكذا طرح تساؤل عن عدم كفاءتنا، ونوعية إنتاجنا.

ننظر إلى الخلف دائمة خوفا من أن يتبعنا أحد، تدور رءوسنا، أمخاخنا هلامية غير ثابتة في أماكنها، غير متوازنة، في حال صفير دائم وشوشرة، تنتابنا الدوخة والدوار، نحس إحساسا خاصا بالفراغ والكآبة، والمشاعر الصاخبة، الهائجة والعاصفة، وكانت السمة الرئيسية المشتركة في الجميع هي أن غبنا ما وقع على كل وأحد منا على حدة، وبشكل مختلف عن الآخر.

آثار انتباههم هذه الرغبة العارمة لكل أفراد الشعب في اقتناء مرآة لكل واحد على حدة، يأخذونها أينما ذهبوا، خلت منها كل محلات الزجاج، ازداد إنتاج المصانع على حد طاقته، ومن كثرة ضغوط العمل أفرزت خطوط الإنتاج مرايا غير مطابقة للمواصفات، وخطوط أخرى انفجرت وتفحمت، يكثرون من التحديق فيها في الشوارع الرئيسية، وعند تقاطعها، وفي إشارات المرور، ويعكسون أشعة الشمس في عيون النساء، ينظرون ببلاهة شاعرين بغرابة كل الأشياء حولهم.

وفي رؤيا أخرى يجلس بجوار أحد الحوائط، تنز مواسير الصرف مياها قذرة من الشروخ المتعددة فيها، غير واع أو مهتم بالصراصير الكثيرة التي تجوب جلبابه الممزق على اللحم مباشرة، زاحفة إلى كل مكان في جسده، يفتح فمه مبينا عن أسنان متباعدة، عليها طبقة كلسية جيرية تميل إلى الاخضرار، تروح جماعات الذباب داخله وخارجه، يفتح يده المجعدة والناشفة، أعلى رأسه، مغمضا عينين ملأهما الرمد الصديدي، فتورمتا وانتفختا، وسال منهما قيح وصديد.

تختلط الأزمنة والأمكنة ليجد أن دورات مياه الأجداد تصرف في ماسورة نحاسية قطرها متر تقريبا، تمتد إلى أربعمائة متر بعيدا عن المنزل، وكانت حماماتهم مبطنة برقائق معدنية، كما كانت مجهزة ببالوعة للصرف لها غطاء بسلسلة، تتحمل الاستخدامات الكثيرة والمتوالية، إذ كانوا- الأجداد- على درجة عالية من النظافة، يستحمون في اليوم الواحد ثلاث مرات، فكانوا أكثر شفافية من الضوء، اخترقوا السماوات، ودعموا ما يحتاج إليه وجودهم، وشقوا طرقهم المختلفة، وكل واحد على حدة يخلق ضوءه، وحظه، لقد شقوا الأرض متتبعين خطوات أقدامهم، أرسلوا ترانيم مديح إلى الشعب عندما يبزغ في الأفق، وعندما يظهر على أرض الحياة.

ينظرون إليه بقلب مفعم بالشفقة والازدراء، خافوا أن يتركوه وحده، هذه اللحظة شاقة، وقد يضطرب عقلك، أخذوه من يده، قام تلقائيا دون أي مقاومة أو تساؤلات، قالوا: لا تخش شيئا، الموت كالأحلام بوابة تفتح إلى الخلود، قال: أرى سحابة رقيقة تعبر خيالي، قالوا: يجب أن تظهر للملأ قليلا، أخرج من باب دارك، ظلل عينيك من نور الشمس، وحدق في أرجاء العالم لترى ما يدور فيه، يتساءل بينه وبين نفسه كيف؟ شاهدوا أكوام القمامة الجالس عليها، تلاعبه القطط، تبول عليه الكلاب، كان كأقرانه قد تحول إلى حطام بشري، يشاهدونهم، يرثون لحالهم، يقيمون الصلاة في المعابد.

ما يشغل الأجداد حقيقة هو كيفية إيجاد وسيلة جماعية لعلاجهم، إنهم يرغبون في تجاوز الطفرات العلمية الهائلة الحادثة الآن في طرق العلاج الحديثة، والتي يفصل بينها وبين طرقهم العلاجية آلاف السنين، كيف يمكن تضييق الفجوة تلك، وكذلك كيفية التغلب على الخداعات الإدراكية الخيالية التي ينادي بها المحدثون، وتجاوز شكوك الاكتئابيين السوداويين، ومخاوفهم التي لا أساس لها أحيانا.

لقد حددوا أن هذه الانطباعات تكمن في المزاج الشخصي، وتغذيها عاداته، رغبوا في القبض على لحظة الرؤى والسحر الدالة على قوة الخيال بالنسبة للعقول المظلمة التي يمتلكها الدهماء، وتساءلوا عن كيفية مقاومة تحيزات العقل المنقبض الذي يعتقد في صحة وواقعية كل كائن خرافي يتمثله أحفادهم، وكان ينتاب كل واحد منا على حدة هاجس هجوم الكائنات الخرافية التي تطول هاماتها النخيل، والتي لها حراشف وأقحف وجريد وسباط البلح، تلك التي فتح في جذوعها فتحات تساوي ارتفاعا، بحيث تستطيع النخلة اجتذاب أي واحد يقترب منها، وما كان رعبا حقا هو قدوم كابوسية النخل والبناء، كان مجيء مثل هذه الكائنات يثير الحذر فتختفي من أنفسنا، يتملكنا الجزع والخوف الذي نقوم بتكوينه، وفي مواجهة مثل هذه الخرافات يبحثون في معاملهم، ومعاجمهم عن علاج جماعي ناجح لنا.

أرادوا أن يصلوا إلى حقيقة يعرفونها، ولا يستطيعون تحديدها، يرغبون في تشخيص مشترك لكل الحالات المختلفة، وكان السؤال : كيف يصلون إلى هذا الخيط المشترك في جميع الحالات، وضعوا الحالات التي اختاروها بعناية تحت اختبار محكم، لاحظوا على مجموعة أنها تكون بالليل وديعة ومسالمة، أما بالنهار فتكون شرسة، محبطة وعدوانية ومراوغة، يتخيلون رؤية أشخاص وأشياء وحيوانات، وظواهر ليست موجودة، يعانون من الآخرين الذين يحصلون على كل شيء بينما هذه المجموعة لا تحصل على أي شيء.

يعانون من الآخرين الذين ينتابهم الاكتئاب والحزن والخمول واضطراب الحركة، وتفكك الأحلام، والتفكير والاصطدام بالآخرين وتجاهلهم، يتخيلون حدوث أشياء لم تحدث، انتاب الجميع نوبات عنيفة من الذهول والرعب، يشاهدون الدماء تزدحم وتندفع قوية في رءوسهم، فيطلقون صرخاتهم من بين أسنانهم، حددوا لهذه الطريقة فصد الدماء من الرأس بالمشارط، تنتابهم مزيج من الهلاوس البصرية والسمعية والخداعات الإدراكية، واضطراب التفكير والوجدان.

وفي أوقات لاحظوا استبداد الخيال الجماعي لعامة الناس، فأحدثوا إثر ذلك عاهات مستديمة، وغرق الكثير منهم في النيل، وأزالوا من مخيلتهم كل العمائر العالية والعشوائية والقبيحة بعد أن قذفوا بأنفسهم من شرفاتها، لجأوا إلى مترو الأنفاق خوفا من الزحام والتلوث، أحسوا بتناقض وجداني جماعي في الميول والنزعات، لم يستطيعوا التعبير عن السرور والألم أو الإحساس بالفرح والمعاناة، أضحوا ذوي إرادات مضطربة، فقدنا القدرة على المبادأة، نقص أو كاد يمحى نشاطنا، واهتماماتنا، نسرع دائما خارجين داخلين دون سبب مفهوم، ثم لاحظوا أنهم يصرخون بالليل بأصوات عالية.

وعلى مدى فترة طويلة عانوا من تصرفاتنا الكثير، لكنهم لم يفقدوا الأمل في علاجنا، لذا لجأوا إلى اكتشافاتهم الأولى، فبدأوا في إنشاء معابد الأحلام للشفاء، واستحدثوا فريق مفسري الأحلام، أضحت مراكز وملاجئ جماعية، يصطفون في طوابير طويلة لا تنقطع، فيما كان الكهنة لا يملون من وصف العلاج للمرضى، ينصحون بالراحة وتناول الأدوية، في سياق اهتماماتهم اكتشفوا أن النساء لم تلد منذ سنوات عدة، وأن الرجال أصيبوا بالعنة والعجز الجنسي.

كانوا قد اطلعوا على أساليب العلاج الحديثة واستبعدوها، يريدون أحفادا أحرارا جددا، غير مستسلمين للذل والقمع والصدمات الكهربائية، استبعدوا اللجوء إلى الأساليب العنيفة بالصدمات على أمل إيقاظهم أو إفاقتهم من أحلامهم، ومن ثم علاجهم، وكانت الصدمة الكهربائية وغيرها واحدة فقط من الوسائل المتوافرة في أيدي الأطباء لعلاج الخداعات الإدراكية، والذين يعولون على أهمية المحاولات المتكررة والمعادة لمواجهة الهلاوس.

عرفوا أن الأنواع المختلفة للعلاج تعتمد علي إحداث الفزع والصدمة والرعب، وكانت نتيجتها إحداث ألم جسمي أو قلق زائد، من أجل إعاقة الجنون وإيقافه، ومن ثم يحاولون إعطاء الأفكار الواضحة المتميزة مجرى أو ممرا آخر تستطيع أن تجرى فيه.

أدركوا أنه يمكنهم أن يعارضوا إحساسا من خلال إحساس آخر، حيث إن الإحساس الواضح المتميز يقوم بمواجهة الآخر الذي يعوقه، وسوف يخضع الإحساس السابق للإحساس اللاحق، ويوقف سلسلة الشياطين الخيالية، لذا تشبثوا بمعابد الأحلام، طوروا الفكرة، وبدأوا يدخلون إليها من هدأوا بعد أن تناولوا الأدوية والعقاقير، وقد تمثلت الإجراءات الخاصة بالأحلام فيما يسمى بعمليات الاختمار، تلك التي كانوا يدخلون المريض إليها لممارسة النوم أو قضاء الليل بأي شكل في منطقة قاعة المعبد المقدسة، يأملون للمريض أن يتلقى رسالة محاطة بهالة من النور أو يهبط عليه الوحي.

لاحظوا أيضا أننا نتزاحم كعاداتنا على معابد أحلام معينة، حسب شهرة آلهتها، باعتبارها قادرة على شفاء المرضى، كانوا قد تأكدوا من نظرية الأحلام الإيجابية، حيث بدا دورها يؤتي ثمارا ناجحة، غير مسبوقة.

في مذبح معبد الأحلام الضخم يتربع الكاهن المصري، يتصاعد دخان البخور المعطر الإلهي من فتحات وممرات سرية، تلائم كل طقس على حدة، في درجة الحرارة المتفق عليها، حتى تتصاعد الأحلام وتتكاثر، الكاهن حليق الذهن والرأس، نافذ العينين والبصيرة، ممشوق القوام كعود أبنوس، على كتفيه بردة رجال الدين في قدس الأقداس الذي لا تطؤه إلا قدم الإله أو الملك أو الكاهن الأعظم، سلام عليك يا إخناتون، الجلال لك يا من أتيت مثل خلاق الآلهة، إنك تشرق وتضيء، يا سيد ملوك الشمال والجنوب، يا رب التاج الأبيض النبيل، يا مطمئن النفوس وباعث الأحلام، ابعث إليه حلما كي يهدئه، يا من تخفى في الظلمات مجيئك لتنتشر في الرءوس أحلامك، فتحمل الأسى والظلم عن كاهل مرضاك، أنت سيد الأسماك الصغيرة التي تقلق أعظم شعوب الأرض، مستقبلا مرضاه الذين يدخلهم عليه كاهن آخر، يدخل في كل معبدعلى حدة، أماكن هادئة، يبعد المريض عن الآخر بمسافات متباعدة، إضاءات خافتة، موسيقى فرعونية ناعمة، يقوم بتحريك وتنشيط خيالهم، هؤلاء الذين يكونون قابلين للإيحاء من خلال إحصاء وسرد معجزات الشفاء الماضية التي قام بها الإله، كذلك من خلال بعض الأدوية الناجحة، يتلو بعض الرقى والتعاويذ السحرية المناسبة التي قد تساعد في إحداث حالة استسلام واسترخاء في العقل، ينصح المريض بمحاولة الدخول في حالة الاختمار أو نوم المعبد، أثناء الليل يأخذ الكاهن هيئة الإله، ويظهر أمام المريض الذي إذا استيقظ تعطى له نصائح مهمة.

وقبل التأكد من نوم المريض، يقدم قسمه حتى تأتي أحلامه صادقة وصافية، يقول ليست هناك خطيئة خاصة عالقة بي، لم أقل كذبا، ولا فعلت شيئا بقلب غاش، قلبي نقي، لم أرتكب خطيئة ضد إله أو آلهة، يحرقون له البخور في المبخرة المباركة، حتى يستطيع أن يقدم تحية الوداع الأخير، بجواره صناديق بها أزهار وقوارير، يتلون خدمة الأحلام من لفافة بردى كأغاني التمجيد والمديح والبزوغ ببلاده العظيمة، وعند التأكد من نومه يجعلونه يحلم، فقد فتحت قنوات في رأسه تسهل مرور الأحلام ، يتوسلون إلى الله قائلين ابعث إليه بحلم مطمئن، ومن خلال أحلامه يبحثون عن وسائل شفائه، كان الحلم ذاته إحدى الوسائل للتخفيف من أعباء الحياة وهمومها، يستطيع الإنسان بعد مروره بخبرتها أن يعود ويواصل الحياة بشكل أفضل كما يتمنون.

أثناء نومه يعطيه تعليمات شفاء دقيقة عن العلاج الذي يجب أن يتبع، وفي حالات أخرى تعطى إرشادات غامضة أثناء الأحلام الطبيعية التي يكون الشخص خلالها قد أغمي عليه بشكل مصطنع، ثم تفسر هذه الإرشادات فيما بعد بواسطة الكاهن ومفسري الأحلام الجدد. وفي بعض الحالات الانفعالية التي تستثيرها قدسية المكان والطقوس المؤثرة، فإن حالة الحساسية الشديدة تستثار بشكل جيد، حيث يكون المريض قادرا على الرؤية والسماع والشعور بأشياء لا يستطيع أن يدركها في الأوقات العادية، حيث ترجع هذه الحالة إلى رهافة الحواس، وشاهد على قبول الشخص للإيحاءات والتوجهات نحو الشفاء.

وكان علينا أن نشاهد ونتخيل كيف كانت تلك الليالي الطويلة الصامتة تشهد طوفانات من النساء والرجال الذين يتألمون ويتأملون، يبتهلون في هدوء إلى الإله الواحد اخناتون أو أمحتب العظيم المهندس المعماري للحضارة الأبدية، والذي تعلقت به آمالهم وأفئدتهم.

ولم يتوقفوا عن ذلك، حيث تطورت وصفات طبية وتعاويذ للإجراءات الشفائية، كي تتحرر الروح من قيود الجسد خلال النوم، ليسهل اتصالها مع الإله، إذ إنه يمكن التخفيف تحت تأثير الإيحاء.

تتوالى التجارب والأحداث والنتائج، يخاتلهم نجاحهم أحيانا بمساعدة ورغبة أكيدة في الشفاء، وإحباطاتهم أحيانا أخرى، يصرون على أن هناك أملا مازال قائما، يساعدهم الأحفاد أيضا في تجسيد الآمال، تبرق وتضيء وتظلم تلك المحاولات، وما بين محاولة ومحاولة كانت تجري محاولات أخرى.

 

محمد عبدالسلام العمري